}
عروض

"إلى روح علي الكنز": عن مسيرة مفكر مستقل

بوعلام رمضاني

7 أبريل 2023


تكمن الأهمية المبدئية لكتاب "إلى روح علي الكنز" الجماعي الصادر حديثًا عن دار القصبة في العاصمة الجزائرية، في صدوره باللغتين العربية والفرنسية، وجمعه كوكبة من الباحثين والدارسين الاجتماعيين الذين تخطوا خطر انقسامية لغوية ما زالت لا تسمح بتحاور جهات متصارعة أيديولوجيًا حول قضايا المجتمع وتحدياته ومآلاته. رغم سيطرة التوجه اليساري الذي ميزّ فكر عالم الاجتماع الراحل علي الكنز، وغياب مواقف ومشاركات من هم من غير أهله أيديولوجيًا، تبقى أهمية الكتاب قائمة بفضل الإجماع الأكاديمي على خصوصيات وإضافات وتركة عالم اجتماع له إسهام نوعي في المشهد السوسيولوجي الجزائري والعربي والدولي. الحالات التي مثلّها بعض الدارسين لفكر الراحل علي الكنز، سواء بالكتابة عنه باللغة العربية، أو بترجمة ما كتب عنه باللغة الفرنسية، سمحت بتقديم قامة علمية جزائرية شامخة بكثير من الإحاطة الفكرية الموضوعية من منظور بيداغوجي، وكما كان منتظرًا، حضرت الذاتية التي أملتها شروط تكريم ونعي مفكر كان قريبًا من الذين كتبوا عنه على الصعيدين الأيديولوجي والشخصي. ارتكاز معظم الأساتذة الجزائريين والعرب والفرنسيين على المصادر التي كانت وراء تكوين شخصية الراحل على الكنز، كانت في حد ذاتها منبع اكتشاف فكري عام في بلد لا تعد فيه القراءة عادة اجتماعية حتى عند المتعلمين، ولم توزع فيه كتب من جعلوا من الراحل مرجعًا في علم الاجتماع بغض النظر عن الاتفاق، أو الاختلاف مع رموز المدارس والتيارات التي شّكّلت خياراته الأكاديمية.
رحل علي الكنز في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 عن عمر يناهز الرابعة والسبعين في مدينة "نانت" الواقعة شمال غربي فرنسا، هو الذي استحق عن جدارة لفتة تكريمية تاريخية بمقاربة منهجية محكمة، عرف كيف ينسج خيوطها الثلاثي: عبد الحميد عبيدي، والعياشي عنصر، ومصطفى ماضي، ويشرحها بالتفصيل لاحقًا خيرة الدارسين السوسيولوجيين لمسار وإنتاج الراحل الكنز. تصدرت الكتاب السيدة سوزان الفرا الكنز، حرم عالم الاجتماع الراحل بشكل تقليدي مقبول منهجيًا إذا استندنا إلى الطابع التكريمي للكتاب. كانت مقدمتها "كلمات من الوجدان" مؤثرة على أكثر من صعيد شخصي وإنساني عام، وهي الكلمة التي جاءت محمّلة بشحنة عاطفية وذاتية تتفجر حبًا لرفيق درب ليس ككل الرفقاء. إنها الكلمة التي تؤكد أن زوجها قد راح ضحية المنفى الناعم رغم حبه الخرافي لوطنه الذي قال عنه: "عشت في أربع مجتمعات مختلفة، لكن جميعها تحمل اسم الجزائر"، وهو القول الذي ترك روحه تتعرض للضمور على حد تعبير بابلو نيرودا اليساري مثله: "المنفى يضمر الروح البشرية". كلمات الزوجة، كانت مختارة بدقة على النحو الذي يسمح بالكشف عن جوانب شخصية زوجها على الأصعدة الأخلاقية والسيكولوجية والسياسية والفكرية والمهنية والتاريخية والحميمية. كان الزوج الراحل علي، أو عليوات، كما كان يطلق عليه المقربون منه، صاحب صدر رحب، ودراية بالعلوم، شغوفًا بالمعرفة، ووفيًا للصداقة، ومتواضعًا مع زملائه وطلبته. كان صوتًا حرًا، واضطر أن يهاجر بعد أن تم تكسير مسار حياته ليعيش مرارة المنافي، الأمر الذي لم يحل دون مواصلته في إنتاج المعرفة المرتبطة بمكوناته الاجتماعية وتجاربه الشخصية، والاستمرار في التوق للجزائر الأم. الحبيبة القريبة والزوجة العشيقة كتبت قائلة: "أشواقي إليك تزداد مع مرور الزمن، فباتت مناجاتنا من الروح إلى الروح. لك من الحب الأبدي من أولادك مريم وسلمى وأنيس". ودعّت الحبيبة حبيبها في نهاية كلمتها بقول المتنبي: "وقفت وما في الموت شك لواقف... كأنك في جفن الردى وهو نائم".



يعلن فهرس الكتاب بسرعة عن أهمية مداخلات جال وصال أصحابها من خلالها عبر مسار ومسيرة الراحل علي الكنز بشكل كامل، ولم يخطئ الثلاثي المشرف على الكتاب حينما تم الوقوع على الأستاذ العياشي عنصر لتصدر الفهرس. في مداخلته الأولى، أوجز لنا هوية وخصوصية وأبعاد الراحل، وهي الأبعاد التي عادت لتبرز مكرّرة، ولو من منطلقات جديدة ومختلفة في مداخلات الأساتذة المتخصصين في علم الاجتماع، وفي مقالات بعض الإعلاميين، ويعد الأمر طبيعيًا إذا استندنا إلى خصوصية كتاب ولد من رحم تكريم تبرز فيه الذاتية حتمًا. في مداخلة صحافية استباقية، مكنّنا الأستاذ العياشي من معرفة السياق الذي كان وراء صدور كتاب "إلى روح علي الكنز"، وبشخصيته العلمية المتفردة، ومن عرض عام عن مختلف جوانب تجربة الفقيد الكبير. جمعت الندوة الإفتراضية أفراد عائلة الفقيد، ورفقاء دربه، من تونس، واليمن، وفلسطين، والإمارات العربية، وفرنسا، والولايات المتحدة، والسنغال، وهي الندوة التي أصبحت كتابًا بمبادرة من الأستاذين العياشي (جامعة عنابة)، وعبد الحميد العبيدي (جامعة تونس)، قبل أن ينضم إليهما الأستاذ مصطفى ماضي (جامعة الجزائر). تعالج أوراق الكتاب مساهمات متوازنة ومتّزنة من منظور نظري وعملي ونقدي ومنهجي يسمح بمقاربة هوية عالم الاجتماع علي الكنز بشكل شامل محليًا وإقليميًا ودوليًا. شارك في تحرير أوراق الكتاب الأساتذة والإعلاميون: مصطفى ماضي، وأحميدة العياشي، وأباهر السقا، مدير مركز التنمية من جامعة بير زيت بفلسطين، والعياشي عنصر، المتنقل بين جامعات ومراكز بحوث أجنبية، وسمير عبد الرحمان الشميري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عدن، وساري حنفي، أستاذ الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وكليمن مور هنري، من جامعة تكساس الأميركية، وأخيرًا الفقيد علي الكنز، بنص لم ينشر من قبل. تضمنت المجموعة الثانية من الأوراق مساهمات محمد حربي، المؤرخ الجزائري الكبير، وناصر بورنان، الخبير الدولي في الأمم المتحدة، وإيف تارتري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة نانت، والمناضل السياسي شوقي صالحي، والكاتب الصحافي سعيد جعفر، وشارل سيو، أستاذ علم الاجتماع في جامعة نانت، ولعروسي عمري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس، وحسن رمعون، أستاذ التاريخ من جامعة وهران، وعبد الحميد لعبيدي، وأحمد رواجعية، أستاذ التاريخ بجامعة المسيلة، والصحافي نو الدين عزوز.

أحد رواد علم الاجتماع
الراحل الكنز يعد، حسب الأستاذ عنصر، واحدًا من أوائل خريجي جامعة الجزائر بعد الاستقلال. لمع نجمه مثل الراحلين جيلالي اليابس، ومحمد بوخبزة (اغتيلا في عز عشرية الإرهاب)، وشيخي السعيد، وجمال غريد، وفوزي عادل، والأحياء نذير معروف، وأحمد بن نعوم، وسليمان بدراني، وناصر بورنان، وآخرين كثر. كان الفقيد أول من أدخل السوسيولوجيا في مركز البحث في الاقتصاد التطبيقي من أجل التنمية (كريياد)، وهو من أسس سلسلة كتب "الأنيس" (أنيس اسم أحد أبنائه) ضمن منشورات المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، وتميزت هذه السلسلة بمضمونها الفلسفي النقدي، وبشكلها الأقرب إلى مفهوم كتاب الجيب. عمل الفقيد  في مجلس تنمية العلوم الاجتماعية في أفريقيا (كودسترييا)، الذي أشرف عليه المفكر الراحل سمير أمين في داكار بالسنغال، ونشر رفقته أعمالًا مشتركة، وأخرى جماعية. كان الفقيد من مؤسسي الجمعية العربية لعلم الاجتماع، ومن منشّطي مركز البحوث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية في وهران (كراك)، علاوة على عضويته في مجلسه العلمي (2003 ـ 2017)، وفي مجلة "إنسانيات" الصادرة عن المركز الشهير. الفقيد المولود عام 1946 في سكيكدة شرق الجزائر، والذي يعده الأستاذ عنصر واحدًا من أعمدة علم الاجتماع في أفريقيا وبلدان الجنوب عمومًا، تأثر علميًا وفكريًا بأساتذته الفلاسفة: مهدي عامل (حسن حمدان)، المناضل اللبناني المعروف، والفيلسوف إتيان باليبار، رفيق درب لوي ألتوسير، وجورلابيكا، وهنري لوفافر. نال شهادة الدراسات العليا عام 1968، وكان شغوفًا بفكر ابن خلدون، وفرانتز فانون، وسمير أمين. ألف الفقيد كتبًا في غاية الأهمية بدءًا بـ"رواد الفكر"، و"اقتصاد الجزائر" المنشور عام 1980 باسم مستعار (الطاهر بن حورية ـ اسم الحي الذي عاش فيه)، والذي وصف فيه المنظومة الصناعية الجزائرية، والتشكيلة الاجتماعية، برأسمالية الدولة، مرورًا بـ"الجزائر والحداثة"، و"حول الأزمة في الجزائر والبلاد العربية ". اشتهر الراحل الكنز بتأسيسه علم اجتماع العمل والتنظيم ضمن مجموعات الراحلين سعيد شيخي، وجمال غريد ـ مضى يقول الأستاذ عنصر الذي اشتغل معهم ـ، وهم الذين قاموا بدراسة حول المركب الصناعي الشهير "الحجار" في عنابة شرق الجزائر، تحت عنوان "الصناعة والمجتمع: حالة مصنع الصلب والفولاذ" عام 1982، ثم أتبعوها في رسائل دكتوراة لاحقًا. كانت الأولى مع الراحل برسالة عنوانها: منوغرافيا التجربة الصناعية في الجزائر، مركب الفولاذ في الحجار.. تجربة صناعية في الجزائر في جامعة باريس عام 1983، ونشرت الأطروحة في العاصمة الفرنسية عام 1987. نال الراحل جائزة ابن خلدون للعلوم الاجتماعية عام 2020، بعد أن ألقى محاضرة بعنوان "الشارع العربي كمكون للمجتمع المدني"، في مؤتمر "المجتمع المدني في البلاد العربية" في الدوحة بقطر، بحضور المفكرين عزمي بشارة، وبرهان غليون، والزبير عروس، وآخرين.

العالمية المحلية

استنادًا إلى تفسير ما أسماها "بالعالمية المحلية"، نقرأ في ورقة الأستاذ العياشي، أن الراحل الكنز كان عالميًا منذ شبابه، بنهله من الثقافة العالمية، الأمر الذي جسدّه لاحقًا في المدرسة العليا للأساتذة في قسنطينة، وفي جامعة الجزائر، وفي جامعة تونس، قبل شروعه في تعلم اللغة العربية في جامع الأزهر. عمليًا وفعليًا، قصد الأستاذ بعالمية الراحل الكنز دوره الهام في مجلس تنمية العلوم الاجتماعية بدكار (1995 ـ 2017)، وتدريسه في جامعة "نانت" الفرنسية، وتأسيسه فيها رفقة صديقه ألان سيبيو معهد الدراسات المتقدمة للتنمية (معهد شمال ـ جنوب)، ثم توجهه في خطوة عالمية أكبر نحو الولايات المتحدة للتدريس، كأستاذ زائر في جامعة برنستون الشهيرة. إلى جانب عالميته المشار إليها، أضاف الأستاذ العياشي يقول: "رغم قيامه بأبحاث، وربط صداقات عبر العالم، بقي الراحل يركز على الجزائر أولًا، والعالم العربي ثانيًا، وأفريقيا وبلدان الجنوب ثالثًا. هكذا كان منذ البداية عالميًا في محليته، ومحليًا في عالميته".




يجدر الذكر في الأخير أن نشر كتاب عن أهم عالم اجتماع عرفته الجزائر منذ الاستقلال باللغتين العربية والفرنسية ـ تأكيدًا على حرص الراحل الكنز على تعلم اللغة العربية كما جاء في ورقة الأستاذ مصطفى ماضي ـ يبقى إنجازًا علميًا من شأنه التعريف من منظور أكاديمي متنوع غير مسبوق بشخصية فكرية شامخة في أوساط الطلبة بوجه عام، والدارسين لعلم الاجتماع باللغة العربية فقط بوجه خاص. الإطناب المتعلق بالسياق السياسي لتعريب العلوم الإنسانية، ومن بينها علم الاجتماع، وتكرار معلومات متصلة بمسيرة الراحل وبهويته الشخصية والعلمية في أكثر من ورقة، والوصف الإنشائي المستطرد لمناقب الراحل في كل ورقة تقريبًا، والتعاطف الأيديولوجي معه، كلها كانت عوامل ملل وثقل كان في الإمكان تفاديها بعدم صب مداخلات الندوة التكريمية الافتراضية صبًا مباشرًا في كتاب يفرض إعادة تحرير تقتضيه الأصول المتعرف عليها في النشر، لطبعة ثانية تضم أساتذة آخرين، من أمثال الصغير بن عمار، وناصر جابي، وآخرين، وبعض طلبة الراحل، لتكون طبعة علمية أقوى وأقل وطأة أيديولوجية. والفقيد علي الكنز يستحق أكثر من كتاب في جزائر لم تهتم بمفكريها الكبار والصغار قبل رحيلهم وبعده.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.