}
عروض

"أيّام الشمس المُشرقة": تشريح مجتمع المهاجرين إلى أميركا

عمر شبانة

8 أبريل 2023



تجسّد رواية ميرال الطّحاوي "أيام الشمس المشرقة" (دار العين، 280 صفحة)، نقلة نوعيّة لا في التجربة الروائية للكاتبة وحسب، بل حتّى في الرواية العربية، وذلك على غير مستوى، وأكثر من صعيد، أبرزها المكان غير العربي، ولا المصريّ، ولا البدويّ، كما في رواياتها السابقة، وهو هنا أميركا عمومًا، وأميركا الوسطى على نحو خاصّ/ كوكابلو، بجبالها ووديانها وسهولها، بمستوياتها الاجتماعية المتفاوتة طبقيًّا، ونمط حياة كلّ فئة من الفئات التي تحتويها سرديّات الرواية و"أبطالها"، وعوالم البؤس والمهمّشين والجنس والمخدرات التي منها تحوك الروائيّة سرديّتها الكبرى، وحكاياتها الفرعيّة، من أجل نقل رسالة (خطاب) هذا العالم، ولكن في لغة روائية متينة تجمع الواقعيّ حدّ الحقيقة، والتخييليّ حدّ الغرائبيّة والخروج على المألوف. ولا تكتفي الروائية، عبر صوتها هي، أو أصوات الأبطال السّاردين، برسم ملامح شخوصها الخارجيّة تفصيلًا، بل تغوص في ما وراء الأحوال النفسيّة والرّوحية لهؤلاء الشخوص، وبقدر عالٍ ورفيع من التفصيل، حتّى حدود البوح والتعرية باللغة والأوضاع الجسمانية، تعرية جريئة تطال مناطق حسّاسة في الجسد واللغة/ اللهجات. هنا، إضاءة على ملامح بارزة من الرواية.
بافتتاح الطّحاوي روايتها بومضة من المتصوّف الشهير، شمس الدين التبريزي، يقول فيها "أيّها المسافر، اشترِ الوَردَ، لعلّك تقابل في الطريق من يستحقّه"، فإنها تفتتح طريقًا للمهاجرين والأصلانيّين في موطنهم الأميركيّ، كي يكونوا إنسانيّين في كل الأحوال، ليكونوا جاهزين لعلاقة طيّبة، حتى ولو مع عابرٍ في طريقهم. ويأتي هذا تمهيدًا للدخول في عوالِم الشرّ الفاحش بين البشر، بل بين فئات متقاربة ومتشابهة في البؤس، في حين أن الطبيعيَّ هو اشتعال الصراع بين هذه الفئات المُستغَلَّة، من جهة، وبين أعدائها المُستغِلّين من جهة مقابلة.


رواية تناقض عنوانَها
وفي حين تبدو الطَّحاوي وكأنّما تغادر عالَمها الأوّل، وخصوصًا في روايتها الأولى "الخباء"، التي تسلّط، فيها ومن خلالها، الأضواء الكاشفة، بل الفاضحة، على عوالِم البداوة التي تنتمي إليها الروائية، فإنّ المتمعِّنَ في العالَمَين، سيكتشف أنّ الفارق بينهما هو في التفاصيل والمكان والزّمان وأسلوب السرد، لا في "جوهر" القضايا التي تهجس بها الكاتبة وتعالجها، أعني قضايا الإنسان وهمومه، بصرف النظر عن الزّمان والمكان، وحتى باختلاف طبيعة الإنسان في أحواله كلّها. فما يختلف جوهريًّا هنا، هو المكان "البطل"، وهو هنا يتمثّل في حيّ، وربّما أحياء، أو بلدة "الشمس المشرقة"، الذي يتدخّل، من خلال قسوته المعاكسة لما جاء في تسميته من إشراقة الشمس وأيّامها، في صَوغ البشر وطبيعتهم وهويّاتهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم. فالأمر هنا يتعلّق بقدر من السخرية السوداء التي تتبدّى منذ العنوان، وتتعزّز وتترسخ في تفاصيل الرواية، سواء على صعيد طبيعة الشخوص، أو الحوادث والمجريات اليومية المأسوية.
من أبرز معالم التناقض بين الرواية وما تنطوي عليه من بؤس، وبين عنوانها المشرق، وهو تناقض مقصود وواسع ومعمّق، ويتطلّب دراسة موسّعةً ومعمّقة، الحضور الطاغي لشخصية "نِعَم الخَبّاز"، وهنا يبرز تناقض آخر أيضًا، بين اسم الشخصيّة/ البطلة، من جهة، وبين طبيعة حياتها وهزائمها من جهة مقابلة، فبينما يظهر النعيم في اسمها، ويظهر الإشراق في اسم الحيّ/ العنوان، وما يوحي به من بهجة، تتكشّف صورة، بل صوَر المأساة التي تعيشها "نِعم"، ويعيشها الحيّ البائس وغير المُشرق الذي تعيش فيه. فكيف جمعت الكاتبة بين عناوين وأسماء مُبهِجة، ووقائع حياة زاخرة بالشقاء والصراع من أجل "لقمة العيش"؟! هنا حيث "نِعَم" جمع نعمة، والخبّاز تحمل الإيحاء بهذه النِّعَم متمثّلةً في الخبز (العِيش باللهجة المصرية!).





واستطرادًا، فإن طبيعة شخصيّة "نِعَم"، وما تعاني من تشوّهات خَلقيّة وخُلُقيّة، منذ تمّ تشغيلها وهي طفلة في السادسة من عُمرها خادمةً لدى العائلات الثرية، وخوضها صراعات مع نساء هذه العائلات وشُبّانها وبناتها، وقدرتها ـ لاحقًا ـ على الاستقطاب والاستفزاز والإثارة، وجمعها شخصيّات مختلفة الطِّباع حدّ التناقض، نساءً ورجالًا، إنّ هذه الطبيعة المركّبة، تجعل منها "بطلةً" متوَّجة على عرش هذه الرواية، وبلا مُنازع، وكلّ من يقترب من فَلَكها ينجذب نحوها لا إراديًّا، حتى لو كان انجذابًا موقتًا، غير أنه يقارب "الجذب الصوفيّ"، كما هي الحال ـ مثلًا ـ مع أحمد الوكيل، بوصولها إليه وجذْبه إلى الزواج بها، وفجأة يختفي زوجها (الوكيل) من الزواج غير المثمر إلّا على مستوى إنجاب ولدين ينتحر أحدهما (جمال)، وتظلّ علاقتها بولَدَيها مشوّهة، وقائمة على سوء الفهم والنبذ وعدم الاعتراف بأهليّة الأمّ، ولا بصحّة البنوّة. وفضلًا عن ذلك فهي امرأة تحمل من الشرّ تجاه العالم عمومًا، وتجاه الذكور بشكل خاصّ، ما لا يُحتمل، وهي لا تتورّع عن الكلام "الفاحش"، وإطلاق العبارات والشتائم "البذيئة" في عُرف المجتمع، مثل عبارتها "على مؤخّرتي" التي كانت مفضّلة لديها، وتظل تكرّرها للتعبير عن مدى قدرتها على مجابهة الأشياء. هي عبارات يمكن القول إن الكاتبة تبدع في نحتها بما يتلاءم مع روح الشخصية، مع "نعم" كما مع غيرها من الشخصيّات، ويُظهر قدرتها على رسم ملامح خاصة لكلّ شخصية، من بين عشرات الشخصيّات في الرواية.


رواية الواقعية الفانتازية

تنتشر في جسد الرواية، ذات الطابع الاجتماعي/ الواقعيّ الخشن والمتخيّل وشديد التعقيد، ظاهرة الجريمة، وذلك منذ مطلع السرد، حيث منذ الصفحات الأولى شهدت إحدى المدارس الأوّلية عراكًا مصحوبًأ بإطلاق النار، في غرفة مدير المدرسة، في أثناء اجتماع مجلس الآباء، انطلقت على أثره صافرات الإنذار، وانبطح التلاميذ تحت الطاولات... بسبب شجار بين عامل البناء "الملوّن"، وبين مدير المدرسة الذي بال في سرواله... وفي مدرسة (مونتِن ليك) الثانوية، قام طالب بإطلاق النار على الجدران، لكنه جَرح وقتل بعض الطلاب العابرين، حيث "إطلاق النار صار جزءًا من الحياة في تلك الأرض، جزءًا من تقاليد التعبير عن الغضب والسأم...".
وإلى ذلك، ينتشر في مجتمع الرواية، وبرؤية ثاقبة من الكاتبة، المهرّبون والعمّال غير الشرعيّين، من جنسيّات شتّى، والدعارة والكوكايين، و"السعار الرأسمالي الذي صمّم العالمَ على هذا المنوال، يجب أن يبقى الفقير فقيرًا، ويصبح الأغنياء أكثر تخمة". ثمّ إنّه مجتمع يضمّ نساءً، مثل "ميمي" التي احترفت بيع بويضاتها كل عدة أشهر، وأنها تنفق من دخلها من تلك المقايضات، وهذه المرأة أصبحت "عميلة مطلوبة في عيادات التخصيب، وشبكات بيع البويضات"، فإلى أيّ حد بلغ تفسّخ المجتمع؟!
نحن هنا حيال ما يجعل النصّ مسرحًا من العبث السوداويّ القاتم، وعملًا أدبيًّا لتشريح المجتمع الخليط من أعراق وأديان وثقافات لا يجمعها سوى المكان "الشمس المشرقة"، كمكان غامض وساحر في آن واحد، ينطوي على مسمّيات غريبة، كأن تسمّى المقبرة في هذا المكان "حديقة الأرواح". مكان محدّد من جهاته كلها، وبوسائل وصف متعددة الأساليب، فمثلًا تعمد الروائية، وعلى لسان/ كلام شخوصها، ولتقديم ملمح من ملامح هذا المكان، إلى جعل "سليم" يعتقد أن "كل فنون الشَّبَق شرقية، وذلك لأسباب مناخية في الأساس، وأن البلاد الحارة مثل "الشمس المشرقة" هي موطن أيروس ذاته".
تقدم الكاتبة أوصافًا بسيطة، لكنها ليست التبسيط الساذج، بل تأتي منسجمةً مع روح الرواية عمومًا، وروح الشخصية التي تحتل موقع الراوي. وهنا تتدخّل ثقافة الكاتبة في تقديم معارف تاريخية وجغرافيّة، تبدو كما لو كانت استعراضًا، غير أنها تنبع من طبيعة لحظة السّرد وشخصيّة السّارد، كما هي الحال مع هذا المقطع في فصل "صورة الفنان في شبابه"، وهو عنوان كتاب شهير للكاتب الأيرلندي جيمس جويس، ويأتي في صورة حوار مرّة، ومونولوغ مرة ثانية، لكن أهميّته تكمن في كونه يعمّق رؤية المكان، ورؤية الكاتبة إلى الثقافة في نسيج الرواية، كما في هذا المقطع "هل قرأتِ الأرض الخراب؟ هل تعرفين مزرعة الحيوانات؟". تهز رأسها نافية، ثم تقول له: "قرأت نفح الطيب والروض العاطر والمسالك والممالك لابن خرداذبة".
الرواية المخصّصة لتشريح مجتمع المهاجرين إلى الولايات الأميركيّة، والمجاورة أيضًا، لا تخلو من العودة إلى الموطن الأوّل (مصر)، وعلى سبيل المثال، ترِد مرحلة التأميم، وعبد الناصر، في ثنايا حديث إحدى الشخصيّات عن تاريخها، فنقرأ في فصل "المسالك والممالك" ما يأتي "تدَّعي الجدة أن "عِزبة الهانم"، كما كان يُطلق عليها، كانت بالضرورة ستؤول في النهاية إليها وإلى إخوتها، لكن للأسف تمت مصادرتها، مشيرة بذلك إلى حركة التأميم التي قضت على الإقطاعيات الصغيرة والكبيرة في مصر آنذاك".
ومثلما بدأت الرواية بروّاد المهاجرين، وأبرزهم "نِعَم"، تنتهي بمَركِب يحمل موجة جديدة منهم، وسرعان ما تنشب مواجهة عنيفة، في فصل "عينُ الحياة" نقرأ: استيقظ شعب "الشمس المشرقة" على موجات الحرارة التي تهبُّ في نهاية صيفٍ جاف، حيث هبّت رياح سانتا آنا الموسمية (رياح شرقية حارة وجافة، تهب على جنوبي كاليفورنيا من منطقة الصحراء الداخلية، عابرة لسلاسل جبال سيرانيفادا)... وفِرقة من قوات الجمارك وحماية الحدود الأميركية قد أطلقت النار على المركب"، وهنا ينقسم أهل "الشمس المشرقة" إلى فريقين، وهم يناقشون مدى "شرعيّة/ لا ـ شرعيّة" هذه الهجرات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.