}
عروض

"غبش المرايا": في نقد الثقافة ونظريات ما بعد الحداثة

رشيد الخديري

18 مايو 2023


إضاءة

يُعَدُّ كتاب "غبش المرايا، فصول في الثقافة والنظرية الثقافية"(1)، الذي أعدَّته ونقلته إلى العربية الناقدة والمترجمة العراقية خالدة حامد، إحدى أهم الدراسات في نقد ما بعد الحداثة، وتَكمنُ أهميّته في أنّه يُسَلِّط الضوء على مفهوم الثقافة وامتدادات النظرية الثقافية في باقي العلوم الإنسانية. لقد سعت المترجمة إلى نقل مفاهيم وقضايا، أضحتْ في وقتنا الراهن مصدر جدلٍ إشكاليّ، ولعلَّ قيمة هذه الدراسات تكمن في محاولات تفكيك مفهوم الثقافة، بما يمنحه من تعددية ورحابةٍ في صناعة المثقفين، للخروج من مآزق الخطابات التقليدية حول التلقي والقراءة وصناعة النُّخب المثقفة. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى قراءات مغايرة ومختلفة عمَّا هو سائد في الخطاب النقدي المؤسَّساتيّ. إنها دراسات تمتح من نشاطية نقد ما بعد الحداثة، والتَّوجه نحو التَّعددية الثقافية، "وبما أننا نمر في مرحلتنا الثقافية الراهنة بحال من المراجعة الذاتية، فإن ذلك هو ما يفرض السؤال المرحلي المتشكك على نظريات النقد والحداثة، ويضعنا في (المابين) حيث ينكسر الحد الفاصل ولا يعود هناك حد"(2)، من هذا التَصور الإشكالي حول النظريات النقدية، يتَخَلَّقُ الرهان على نقدٍ منفتح ومغاير، كمدخلٍ أساسيّ لسيرورات الأفكار وتطورها، بيد أن هذه السيرورات- في حقيقة الأمر- هي منافذ خصبة في مسعى لفهم وتحليل وتفكيك الأنساق الثقافية، لا سيما تلك الثقافة "المهيمنة" التي "تحتكر سبل الحديث وتسعى إلى امتلاك أدوات التمثيل امتلاكا كليا، بحيث لا تتيح فرصة لأي صوت معارض آخر يستفيد منها في تمثيل ذاته بذاته، أو في تمثيل الثقافة المهيمنة نفسها تمثيلًا مضادًا، وهي بذلك تقوم بتحصين هؤلاء الآخرين أو صعود هذا التمثيل المضاد إنما يتضمن تقويضًا لخطاب الثقافة المهيمنة، كما أنه ينطوي على خطورة تتمثل في تهديد القوة الثقافية للتمثيل الرسمي المهيمن، وفي نزع الهالة القدسية التي تحيط بمثل هذا التمثيل"(3)، وتجدر الإشارة ها هنا، إلى أن نقد ما بعد الحداثة، اهتم كثيرًا بهذه المراجعات التي تروم خلخلة الرؤى والتَّصورات فيما يخص إعادة الاعتبار للثقافة غير الرسمية، ومساءلة التاريخ حول التمثيلات الثقافية المتغلغلة في تجاويف الذاكرة والمتخيَّل.

رؤى مختلفة ومغايرة للنقد

أصل الكتاب مجموعة من الدراسات والمقالات تتناول تمظهرات الثقافة وآفاقها في خلق نشاطية ذهنية ونقدية، لا تؤمن بالجاهز، والنقد الخاضع لسلطة المؤسسات، وإنَّما تتَّجه نحو إيلاء الثقافة موقعها الرياديّ في التَّعبير عن تطلُّعات الفرد في علاقته المشتبكة مع المجتمع، ومع المؤسسة التي ينتسب إليها. إن السيرورة هو ما يُميِّزُ الثقافة في بعدها الكونيّ، "بوصفها جزءًا من تطور عام للإنسان يسهم فيه الكثير من الأفراد والجماعات. وبهذا سيكون كل عنصر نحلله فاعلًا ضمن هذا المعنى: أيّ سوف يرى في علاقات حقيقية معينة، وفي الكثير من المستويات المختلفة، ومن خلال وصف هذه العلاقات ستظهر السيرورة الثقافية الحقيقية"(4)، وفي مسعى لتحقيق هذه السيرورات، لجأت الناقدة والمترجمة إلى استحضار بعض أعلام النقد ما بعد الحداثيّ، والمحسوبين إجرائيًا على تيار الدراسات الثقافية، وبشكلٍ خاص على النقد الثقافي، كثيودور أدورنو، وماكس هوركهاير، وريموند ويليامز، وسيتورات هول، وكليفورد غيرتس، وميشال دي سارتو، وتيري إيغلتون وغيرهم، وهو مؤشرٌ على إمكانية تحقيق المرغوب فيه من خلال نسج حواريات عميقة مع مرجعيات مغايرة ومختلفة. إن هذه الرؤى التي تَنْتَسِجُ في هذه الترجمات، ما هي إلا مُحاولة لتقريبها من وعي القارئ/ المتلقي العربيّ، خصوصًا أن النَّشاطية النقدية العربية لم تَتَبَلْور إلا من خلال عامل المثاقفة، وهكذا، فإن التَّعرف على معاني الأشياء والنَّفاذ إلى صلب النظريات الواقعة في صميم الممارسات النقدية الخلاقة، من شأن ذلك إذابة الفوارق والجنوح نحو الإنصات الذائب مع ما يُنْتَجُ من نظريات جديدة في الضفة الأخرى، من جهةٍ ثانيةٍ، لا بد من تطوير آليات التلقي وإنتاج المعنى، للتغطية على الهشاشة التي يعرفها نقدنا العربي، ومما زاد من تعميق النقاش حول مظان نقدنا العربي في مواجهة ما يُنتج في الغرب، هو تلك الطريقة التي نتعامل بها مع فعل القراءة، وهي طريقة تعكس بالملموس تلك الإسقاطات العمياء على صعيد الرؤية والميتا- لغة والتطبيق وآليات التلقي.

ولا يعني هذا أن الخطاب النقدي ظلَّ في منأى عن تنازعات النقد العالميّ وحافزياته، وإنما نَتَقَصّدُ ها هنا أن النظريات العربية، إذا ما كانت هناك بالفعل ثمة نظريات، ظلَّت دائمًا مرتهنة ومتصادية مع أفقها مناهج الغرب، رغم أن ثمة جهودا مبذولة، "وهذا مؤشر إلى إمكانية قيام "نظرية" عربية في الأدب، وتأكيد على أن الأدب هو نظام عالميّ، ليس الآن وحسب، بل منذ آلاف السنين، منذ البدايات الأولى"، وبالتوازي مع ذلك، وربَّما، تتقاطع وتتواشج مع مبدأ سيرورة الأفكار وتطورها كونيًا، في ظلِّ الحديث عن "النظريات المهاجرة" كما ألمح إلى ذلك الناقد إدوارد سعيد، فإن دراسة خالدة حامد، حين تستدعي هذه الرموز والقامات، فهي- في حقيقة الأمر-، تؤكد على الأهمية التي تكتسيها الثقافة بوصفها عابرةً لكل التخوم والجغرافيات، مما يَتَطَلَّبُ التفاعل الإيجابيّ الخلاق، والرَّد على كل الدعاوى التي تَحولُ دون تحقيق ذلك.

إذا ما تأملْنا الدراسات التي نقَلْتَها المترجمة خالدة حامد لهؤلاء النُّقاد الثقافيين نَجِدْ أنَّها تجنح نحو الاحتفاء بالثقافة، "والثقافة هنا بمعنى طرائق الحياة والفكر والوجدان المتجسدة في أشكال السلوك الواقعي ومن بينها ومن أهمها الأداء اللغوي"

الثقافتان الغربية والعربية: حدود التَّنافذ والتَّنافر

إذا ما تأملْنا المقالات والدراسات التي نقَلْتَها المترجمة خالدة حامد لهؤلاء النُّقاد والدارسين الثقافيين، نَجِدْ أنَّها تجنح نحو الاحتفاء بالثقافة، "والثقافة هنا بمعنى طرائق الحياة والفكر والوجدان المتجسدة في أشكال السلوك الواقعي ومن بينها ومن أهمها الأداء اللغوي"(6)، والأهم من ذلك، آليات إسهامها في تشييد الوعي لدى المثقفين، ومدى تواشجها مع النظرية الثقافية. إن الرهان على الفعل الثقافي هو ما يشغل هذا القطاع من النقد، نقصد ها هنا، النقد الذي يَتَوَجَّهُ نحو بناء المعرفة وخلق منافذ جديدة للقراءة والتأويل والتلقيّ، وهو مسعى نجد صداه في هذه الحفريات التي تقترحها الباحثة على طول الدراسة. ولا غرابة في أن الثقافة وهي تشتبك وتتنافذ مع النظريات محاولةً وضع الأدب والثقافة موضع تساؤل وإعادة بناء المفاهيم عبر مكاسب النظرية الغربية. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن نظريات ما بعد الحداثة، قد آثرت إعادة النظر في المسلمات عبر صوغ أسئلة جديدةٍ في ضوء التطور الحاصل في المفهوم، آخذة بعين الاعتبار "سؤال الثقافة والنقد والنظرية"(7)، ولعلَ هذه العلاقة وهي ترسم ملامحها الكبرى عبر هذه القفزات في تاريخ النظرية الغربية، يقودنا إلى التساؤل: هل نملك نظرية عربية؟ ما دور المثاقفة في ترسيخ وتجذير الممارسة النقدية العربية؟ أسئلة كهذه تبدو مربكة، وتدعونا إلى إعادة التفكير في حدود هذه النظريات وكيفيات استنباتها في مناخ عربي له شروطه وظروفه المختلفة تمامًا عند الغرب. ذلك أن "تطوير الفكر العربي، يجب أن يوازيه تطور على مستوى العلوم الإنسانية في الوطن العربي. ورغم غياب علوم إنسانية واجتماعية في المجال العربي، فيمكن للفكر الأدبي العربي أن يقيم علاقة وطيدة مع بعض المنجزات والدراسات في هذه العلوم على المستوى العربي، وينفتح أكثر على العلوم الإنسانية والاجتماعية الجديدة بالمغرب، ولكن بوعي جديد ورؤية معرفية وإبستمولوجية دقيقة تتجاوز الاختزال أو التطبيق الحرفي"(8)، معنى هذا: أن الوعي بقيمة الاختلاف مع الآخر هو طريق مشرق نحو التثاقف، دون أن يعني هذا السقوط في مثاقفة سلبيةٍ، تأتي دومًا متأخرة عن ما يقع في الغرب من تحولات في النظريات والثقافة والعلوم الإنسانية. إن ما قامت به المترجمة يدخل ضمن هذا المجال، فليس من السهل نقل هذه المعارف الجديدة في التحليل الثقافي، ومحاولات تكييفها مع الواقع العربي، وما يعنيه ذلك من صعوبات في تبيئتها وتكييفها مع متطلبات البحث الثقافي عربيًا.

تركيب

استتباعًا لكل ما سبق، يُمكننا القول إن هذا الكتاب هو محاولة لضخ دماء جديدة في النشاطيّة النقدية العربية، من خلال ترجمة دراسات وأعمال لأعلام ثقافية غربية، لا سيما فيما يتعلَّق بالنظريات الجديدة، ونعني بها تلك النظريات التي تَخَلَّقت ضمن ما بعد الحداثة، وقدرة هذه النظريات على إعادة صياغة رؤانا وأفكارنا تجاه عددٍ من القضايا التي تشغل بال مثقفينا. ومن المؤكد في ضوء هذه الاستقصاءات الرصينة التي ينهض بها الكتاب، أنها قمينة بأن تُسهم في بلورة تصورات حول مفاهيم النقد- الثقافة- التحليل الثقافي- النظرية، وغيرها من المفاهيم التي تُؤسِّسُ لسيرورة الأفكار وتطورها، فهو محاولة لتأسيس نظريات جديدة بإمكانها أن تكنس الغبار الذي علق بالمرايا، والمرايا نَتَقَصَّدُ بها ها هنا، تلك البصمة  التي تَسِمُ ممارسة كل واحد من هؤلاء النقاد في الارتقاء بسؤال النظرية النقدية الثقافية إلى مرحلة التأسيس بما ينطوي عليه ذلك من تقريب الفعل الثقافي إلى الحياة اليومية، حتى يصير نبضها وعمادها الأساسيين.

الهوامش:

(1) خالدة حامد: غبش المرايا، فصول في الثقافة والنظرية الثقافية، منشورات المتوسط، إيطاليا، ط 1، 2016.

(2) عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 6، 2014، ص: 17.

(3) نادر كاظم: تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004، ص: 450.

(4) غبش المرايا، مرجع سابق، ص: 35.

(5) حنا عبود: النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري، منشورات اتحاد الكتاب العربي، د ت ط، 1999، ص: 11.

(6) ف. د. كلينجندر: الماركسية والفن الحديث، مدخل إلى الواقعية الاشتراكية، ترجمة وتقديم: إبراهيم فتحي، منشورات عيون، ط 2، الدار البيضاء، ص: 15.

(7) عبد الله الغذامي: النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط 6، 2014، ص: 20.

(8) سعيد يقطين: الفكر الأدبي العربي، البنيات والأنساق، منشورات الاختلاف- منشورات ضفاف- دار الأمان، ط 1، 2014، ص: 17.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.