}
عروض

في تأثر الفكر الحديث في أوروبا بفلسفة العصر الوسيط

محمود شريح

4 مايو 2023


عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، وبيروت، وفي إطار "سلسلة أطروحات الدكتوراة"، صدرَ في مارس/ آذار هذا العام كتاب بعنوان "من تيولوجيا العصر الوسيط إلى فلسفة الأزمنة الحديثة: من منظور الفيلسوف إتيان جيلسون" (جاء في 280 صفحة من القطع الكبير، مع مراجع عربية وأجنبية، وفهرس عام)، من تأليف الأُستاذ الجامعي المغربي المحاضر في جامعة محمد الأوّل في مدينة وجدة، د. محمد إشو، وقد عقدَه على فكر إ. جيلسون في ما خصّ فلسفة العصر الوسيط، أي الفترة الممتدّة من القرن التاسع الميلادي إلى بداية القرن الخامس عشر، والذي تناولَ فيه التيولوجيا علمًا قائمًا بذاته، موضوعه اللّه والمعرفة الإلهية، ومناهجه [الفلسفة والإيمان]، وأدواته [الجدال]، وهو علمٌ نشأ بفضلِ جهودِ كبارِ الأساتذة في جامعة باريس خلال القرن الثالث عشر، وأبرزُ نموذج على ذلك الخلاصةُ اللاهوتيّة لتوما الأكويني، الذي أرادَ من التيولوجيا أن تقفَ علمًا ذا بنيةٍ مستقلّة من حيث تقنيته، قابلًا للمقارنة في صرامتِه مع العلوم التي قدّمها أرسطو.
يشيرُ د. إشو الى أنّ جيلسون أرّخ للعصر الحديث بدءًا من التمييز بين ما هو قابل للبرهان وما هو غير قابل للبرهان، وبناء عليه فالأزمنة الحديثة عنده انطلقتْ في القرن الثالث عشر، وفقًا للخاصّيّة الأساسيّة للعصر الحديث، أي العقلانيّة والبرهْنة، إذ ينهضُ فكرُ جيلسون أساسًا على تأكيده وجود فلسفة في العصر الوسيط أفرزَها التمازج الناشئ عن الديانة المسيحيّة والفكر اليوناني والفلسفة العربية الإسلامية.



يرى د. إشو أنّ جيلسون أقرّ بوجود "فلسفة مسيحيّة" في العصر الوسيط تتميّزُ عن الفلسفة اليونانية من حيثُ الموضوع، ومن حيث جدَّتها وتناولها قضايا تركَها فلاسفةُ اليونان من دون تعليق أو شرح، كما أنها تتميّزُ عن الفلسفة الإسلاميّة، وتشكّل منبَع الفلسفة الحديثة، ومصدرَ التيّارات الفكريّة التي تتغنىّ بالعقل. وفي هذا الإطار، هنالك فرضيّتان: تتعلّق الأُولى بكون جيلسون استوحى مفهوم "الفلسفة المسيحيّة" من القدّيس أُوغسطين، وذلك في قوله: "إنّ روح الفلسفة في العصر الوسيط هي روح مسيحيّة"؛ أمّا الفرضيّة الثانيّة فهي متّصلة بكون جيلسون قد استوحى مفهومَه للفلسفة المسيحيّة من الرسالة البابويّة: "الأب الأزلي"، إذ كانَ من بين الأعمالِ الأساسية للبابا ليون الثالث عشر خلال فترة حكمه، تلك الرسالة: "الأب الأبدي" التي قدّمها في روما يوم 4 أغسطس/ آب 1879 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلائه كرسي البابويّة، وهي الوثيقة نفسُها التي تحملُ في الأصلِ عنوانًا هو عبارة عن برنامج "إعادة إحياء تدريس الفلسفة المسيحيّة في المدارس الكاثوليكيّة، وفقَ روح المعلّم الملائكي القدّيس توما الأكويني"، إذ كانتْ هذه الوثيقةُ حدثًا عظيمًا في تاريخ الفكر المسيحي، حيث اتّخذتْ الكنيسة بصفةٍ رسميّة تدريسَ الفلسفةِ المسيحيّة في المؤسّسات الدينيّة التابعة لها، واختارتْ توما الأكويني مرجعًا فأصبح من الواجب على كلّ معلِّم مسيحيّ أن يكون تومائيًا.
هنا يخلصُ د. إشو إلى أنّ جيلسون يعد الفلسفةَ في العصر الوسيط "فلسفة مسيحيّة" تتميّزُ عن الفلسفة اليونانيّة في أُسسها ومنطلقاتها، فهي الحقائق التي توصّلَ إليها العقلُ بمساعدة الوحي المسيحي، ولا ترضى بأنْ يكونَ العقلُ والكتابُ المقدّسُ ورسائلُ الرُّسل والقدّيسين في صراع وتنافر، فهما منفصلان من دون شكّ، لكن لا يتوانى أحدهما عن مساعدة الآخر.
يعرضُ د. إشو وجهةَ نظر جيلسون الآخذة بأنّ القرون الوسطى تميّزتْ بخاصيّة جوهريّة ليست في الفلسفة اليونانية، وتتمثّل أساسًا في أخذها بالعالَم تصوّرًا مختلفًا، ففي العالَم اليوناني تشكّل الكونُ بصورة أبدية، ويتحرّكُ بصورة أبديّة، فيما أنه في العالم المسيحي وُجدَ منذ لحظة الخلْق، وحيثُ العنايةُ الإلهيّة التي جاءت بالكونِ نفسِه ونظامِهِ. وعليه، فالنظامُ الطبيعيُّ في العالم المسيحي مؤسّسٌ على النظامِ فوقَ الطبيعي. ومن هنا ظلّت فلسفة أرسطو في ما يخصّ الطبيعة عسيرةً على التوليف مع العقيدة المسيحيّة، طالما أن توما الأكويني ركّزَ على فكرة أساسيّة تتمثّلُ في أنّ الفاعل الأوّل [اللّه] غيرُ خاضعٍ للحتميّة والضرورة في أفعالِه، فهو يتصرّفُ بكاملِ إرادته، إضافةً إلى أن العناية الإلهيّة هي إحدى ميزات الفكر الوسيطي الوافد أصلًا من الفلسفة اليونانية.
عن منزلةِ الإنسانِ في الفكر المسيحي الوسيط، يحيلُنا د. إشو الى مرجع جيلسون "روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط"، حيثُ رأى المفكِّر في ذلك العصر الإنسانَ كائنًا مخلوقًا على صورة اللّه، وهي مُسلَّمةٌ مُستمدّةٌ من التيولوجيا المسيحيّة، فاكتسى بموجبها منزلةً عظيمةً، فلا غرابة أن يصبحَ من المألوف منذ القرن الثاني عشر فصاعدًا أن تحملَ عظمةُ الانسان في طيّاتها التشابهَ الإلهي.




حولَ عواملِ نضجِ الفكرِ المسيحيّ في القرن الثالث عشر، يردُّنا د. إشو إلى أبرزِها، وهي ظهورُ الجامعات وازدهارُ حركةِ الترجمةِ ووصولُ الفكر العربي الإسلامي إلى أوروبا اللاتينيّة، ذلك أنّ مجملَ الدراسات التاريخيّة التي اهتمّت بانتقالِ التراثِ الفكريّ للحضارة الإسلاميّة الى أوروبا في العصر الوسيط [ومن ضمنها دراسات جيلسون] لا تختلفُ في شأن المركزيْن اللذيْن شكّلا نقطةَ التقاء بين حضارتينْ وثقافتيْن متباعدتيْن، ويتمثّلان في مدينة طُليطِلة بالأندلس، وصقليّة التي كانت تحت حكم مملكة بابل، وفيما كانتْ فلسفةُ ابن سينا اكثرَ انسجامًا مع فلسفة تيولوجيي المسيحيّة في العصر الوسيط، كانتْ فلسفةُ ابن رشد محدودةَ الانتشارِ في العالم الإسلاميّ، إلّا أنها كانت واسعةَ الانتشارِ في الغرب اللاتيني، على الرغم من الهجوم عليها ومنعها رسميًا، فالذين أدخلوا ابن رشد إلى الفكر المسيحي الوسيطي هم خصومُه، ذلك أن فلسفَتَهُ كانتْ مزعجةً لهم. ويرى د. إشو في هذا المجال أنّ أكبرَ شاهدٍ على هذا الاتجاه هو المنهجيّة التي كتبَ بها توما الأكويني مؤلّفه "ضد ابن رشد"، وهو رسالةٌ تشتمل على ردودٍ على مجموعةٍ من الرشديّين اللاتينيّين الساعين إلى فصلِ اللاهوت عن الفلسفة، وكان ذلك، باعتراف جيلسون، مصدرَ تأثيرِ هذا الفيلسوف القرطبي في الغرب، فلم يجارِه تاليًا تأثيرُ أيّ فيلسوف مسلمٍ آخر، ومن هنا نشأتْ رشديّة لاتينيّة.
وعن مظاهرِ الفكرِ الوسيطي في الفلسفة الحديثة، يلّح د. إشو على كونِ ديكارت مؤسّسًا للفلسفة الحديثة، إذ تميّزَ هذا الفيلسوف بأمريْن أساسيّين، أولّهما اهتمامُه بوضعِ منهجٍ لتحصيل المعرفة وبلوغها، وثانيهما تأكيدُه على علميْن جوهرييْن هما الهندسة والحساب، لأنّ حقائقهما لا تناقضَ فيها، كما أنهما لا يتعارضان مع مقتضيات العقل، إذ أنّ نتائجهما يقينيّة لا يَرقى إليها الخطأ، فلا عجبَ إن أخرجَ ديكارت القضايا الميتافيزيقيّة من مدارها، إلا أنه لم ينْسلخ عن تراثه المسيحي، ومن هنا اتساقه مع فلسفة القدّيس أوغسطين.

إتيان جيلسون  


يأخذُ د. إشو على جيلسون عدمَ نقده المبدأ الذي قامتْ عليه التيولوجيا في العصر الوسيط، وهو اعتبارُ "الفلسفة خادمة اللاهوت"، بل إنّه سعى الى اصلاح هذا المبدأ وإضفاء الشرعيه عليه، وفي هذا السياق يتساءل د. إشو: ألا يكونُ تأكيدُ جيلسون أنّ العصر الحديث الذي أفرزتْه الحركة الفكريّة في أوروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر محاولةً فحسب للتقليلِ من دور حركة الإصلاح الديني المعادي للكاثوليكية في انبثاق عصر جديد في أوروبا إبّان القرنين السادس عشر والسابع عشر؟ لذا يرى المؤلّفُ انّ انبثاقَ الأزمنةِ الحديثة في أوروبا لم يكنْ بفعلِ عاملٍ واحدٍ محدّدٍ، وإنّما ساهمتْ في ذلك جملةٌ من الحوادث الجوهريّة، بدءًا من نهضة شارلمان إلى ترجمة التراث العربي الإسلامي، وتأسيس الجامعات، إذ فتحتْ أمامَ أوروبا آفاقًا علميّة جديدة مكّنتْها من الكشوفات الجغرافيّة، وتطوّر البحوث الفلكيّة، ثم الى النهضة الثانية بالعودة الى التراث اليوناني، مرورًا بالإصلاح الديني في أوروبا.
"من تيولوجيا العصر الوسيط إلى فلسفة الأزمنة الحديثة: من منظور الفيلسوف إتيان جيلسون"مبحثٌ أساسي سعى فيه د. محمد إشو إلى تبيانِ موقعِ إتيان جيلسون على خارطة الفلسفة الحديثة من وجهة عودة هذا المفكّر الفرنسي إلى الكشف عن مصادر فلسفةّ العصر الوسيط في تأثيرها على مسار الفكر الحديث في أوروبا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.