}
عروض

"جداريات العزلة": انتصارٌ على الموت فيسبوكيًا!

صدام الزيدي

5 مايو 2023



عن منشورات ابن عربي في تونس صدر حديثًا للكاتبة التونسية المقيمة في فرنسا، فتحية دبش، كتاب بعنوان "جداريات العزلة"، وهو كتاب يندرج ضمن أدب الجداريات وأدب الذات في الوقت نفسه، فيه أضمومة من منشورات وتفاعلات فيسبوكية للكاتبة، وفيه أيضا ما ليس بتفاعلات.

تقول دبش إن ميزة هذا الكتاب أنه يمنح للنص الفيسبوكي امتداده الورقي، مستعيدةً في سياقه جملة من التأملات والحوارات، كما أنه يمثل خلاصة تجربة تفاعلية- ذاتية مع كورونا عندما عادت إلى الحياة بعد تجربة مريرة في مقاومة المرض.

تهدي دبش كتابها إلى "المنتصرين والمنتصرات على الموت وهو يعربد بيننا، وعلى الحياة وهي تغوينا".

وعن فكرة تحويل منشوراتها وتفاعلات الأصدقاء عليها إلى كتاب، تقول إن فكرة الكتاب هي الانتصار على الموت الرقميّ، والاستجابة لرغبة إخراج "أدب الجداريات" من الهامش إلى المركز.

على امتداد 216 صفحة من القطع الوسط، تنجز دبش أدبًا فارقًا بأسلوب سردي يشبه كتابة اليوميات لكن بلغة مختزلة مشذبة: هكذا، في غفلة منا ارتدّت آفاقنا من تيهها في العالم الخارجي إلى استقرارها بعالمها الداخلي. صرنا ننظر إلى الشوارع الطويلة العريضة بعين التمنّي والرجاء وننتظر لحظة الإفراج عنا والخروج من سجننا الجماعيّ.... ثم استبدلناها بشوارع الجدران الافتراضية على اختلاف التطبيقات.

الكتاب يُخرِج المخبوء في الصفحات الافتراضية من تعليقات ولايكات وأيقونات إلى ضوء الورق وإلى رفوف الأمل.

ولأنه من الضروري أن يتضمن الكتاب تفاعلات الآخر، تقتبس دبش تعليقات لأصدقاء في فيسبوك أسهموا في بناء جدارياتها (الافتراضية)، منوهةً أن تلك التفاعلات وضَعَها أصحابها اختيارًا وقرارًا منهم وهي بذلك تحمل الترخيص بشرعية استخدامها (ضمن كتاب ورقيّ) مع حفظ ملكيتها لهم.

وتُجبِر الوحدة الكاتبة على التماهي مع عزلة مفروضة بسبب وباء اجتاح الأرض، فإما تقبُّل الأمر الواقع أو الاستسلام المميت، وهنا تقتبس (مصدّرةً كتابها) من تشيخوف: "علّمتني وحدتي أن أبحث عن شيء ما أعيش من أجله، أو شيء ما أموت من أجله"، ومن غاليانو "الجدران دور نشر الفقراء".

(كوفيديات)...

في أوقات متفرقة، تسنّى للكاتبة تدوين ونشر يوميات الوباء وتجربتها المريرة معه إذ أصيبت بكورونا مرة أولى في مارس/ آذار 2020 وثانية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، لتتشكل محتويات الكتاب من سلسلة تدوينات منها ما نشرته هي على صفحتها الشخصية ومنها ما توالى نشره ضمن مجموعة فيسبوكية كانت أنشأتها في أثناء إصابتها بكوفيد 19، حملت اسم الكتاب نفسه "جداريّات العزلة"، ومنها ما كتبته لاحقًا وألحقته بنصوص الكتاب.

وتنوه الكاتبة، أن تحويل الجداريات (الافتراضية) إلى كتاب (ورقيّ) يأتي استجابة لرغبة الانتصار على الموت الرقميّ، رغم وعيها -كما تقول- بما سيحصل لنصوص كهذه، من تشوّه، حيث تفقد النصوص التفاعلية والنصوص الرقمية الكثير من خصوصياتها وعلاقاتها (الخصوصية؛ الأيقونات؛ الألوان؛ الصور؛ الروابط؛ تسلسل الردود)، لكن المحاولة تبقى شرعية من حيث هي استجابة لفكرة الخلود الورقي التي كانت تدبّ في ذهنها بين رغبة وامتناع.

وبصدور هذه الجداريات تعزز الكاتبة من قناعتها بضرورة أن تنتزع الكتابة على الجدران الافتراضية الاعتراف بها كأدب له خصوصيته، برغم غياب تراكمية تجارب مماثلة وغياب التعاطي الجاد مع إصدارات (نصوص) من هذا النوع، وفي السياق نفسه، تعتقد أن هذه الجداريات تسهم في "دمقرطة فعل الكتابة"، أي أننا أمام توصيفات جديدة تخلقت بفعل المنصات، ستؤسس لأدب جداريات افتراضي.

وصدرت في الآونة الأخيرة كتب تضمنت جداريات فيسبوكية ربما بأقل من أصابع اليد الواحدة... فثمة كتابان من هذا النوع أصدرهما أحد الكتاب، وفقًا لدبش، التي وصفت تجربة جدارياتها بالطريفة.

وتؤمن دبش بمشروعية كتابها، متناصةً مع العبارة الفلسفية التي تقول: "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، بعبارة: "أنا أُفَسبِك فأنا موجود"، وهي عبارة بعنوان عريض تضمنها الكتاب متبوعة بهامش تعريفي: "أفسبك" فعلٌ وقع اشتقاقه من التسمية الصريحة لموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، وهو فعل يتداوله المدونون على هذه المنصة للتعبير عن فعل ممارسة الحضور كتابة ومتابعة وتفاعلًا مع مستخدمي هذا الموقع.

ويتضمن الكتاب 42 جدارية اتبعت الكاتبة في عناوينها تراتبية الكلمة الواحدة التي ينشقّ عنها رقم متسلسل: الجدارية الأولى... الثانية... الثالثة إلخ...، متبوعة بتاريخ كتابة الجدارية وفقًا للتقويم الميلادي.

ومحاصَرة بجدران غرفة عزل في شقتها حيث تقيم في مدينة ليون الفرنسية (التي صارت أشبه بمدينة أشباح بين عشية وضحاها مثلها مثل عديد مدن حول العالم)، تكسر امرأة وحيدة طوق الرتابة والكآبة، قافزة (إلى الحياة مجددًا) من أرخبيلات الحمّى وهلوسات المرض، مشتبكة مع صمت مرعب يغلف الأركان والزوايا والشوارع والمدن وأودية فيسبوك (الغامضة).


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.