}
عروض

تفكيك السائد وكتابة المجهول في تاريخ كرة القدم

عمر كوش

12 يونيو 2023
الصحافي الفرنسي ميكائيل كوريا وترجمة كتابه "تاريخ شعبي لكرة القدم" إلى العربية 


يتتبع الكاتب والصحافي الفرنسي، ميكائيل كوريا، في كتابه "تاريخ شعبي لكرة القدم" (ترجمة محمد عبدالفتاح السباعي، المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2022)، تاريخ كرة القدم من منظور مختلف عما هو سائد، مقتفيًا حكاية الساحرة المستديرة منذ نشأتها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وصولًا إلى التطورات والتغيرات التي طرأت عليها في عصر العولمة، وأفضت إلى اتساع شعبيتها الممتدة من بريطانيا إلى فلسطين، ومن ألمانيا إلى الأرجنتين، ومن البرازيل إلى مصر، ومن فرنسا إلى جنوب أفريقيا، وذلك بالابتعاد عن اختزال تاريخ الرياضة في مساراته الرسمية، والجنوح نحو استرجاع التاريخ الشعبي، حينما كانت كرة القدم أداة لتحرير العمال والنساء وحركات مناهضة الاستعمار، مع تتبع التوظيفات السياسية، والروايات المضادة لكرة القدم، التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية.
يكتب المؤلف عن المهمش والغائب، من أجل تفكيك السائد، وكتابة المجهول في تاريخ اللعبة ودورها في مواجهة الشمولية والاستعمار والاستبداد والطغيان، باحثًا في كرة القدم الاحتجاجية، وكذلك في كرة القدم الاحترافية المؤسسية، ليتوقف عند ما وصلت إليه كرة القدم المعولمة، التي باتت نموذجًا للرياضة التجارية والثقافة الجماهيرية، وجسّدت أكثر من أي وقت مضى تجاوزات الرأسمالية الجامحة. ثم يأتي على التحولات التي أفضت إلى تشكيل كرة القدم في صورتها الراهنة المزدوجة، فهي، من جهة أولى، تشكل لدى البعض وسيلة لنقل القيم والنماذج المجتمعية بين دول العالم أجمع، فيما يراها آخرون، من جهة ثانية، بمثابة غزو حقيقي لمجتمعاتهم ودولهم، تقوم به شركات فوق قومية، أو عابرة للقومية، التي لا تهتمّ سوى بتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المالية، بعيدًا عن أية قيم إنسانية وأخلاقية. ولعل ازدواجيتها تتجلى في كونها في بعض الأحيان تشكل مناسبة للتعبير عن التعايش والتسامح الذي تخلقه لحظة اللعب والمتعة، وعن التواصل الذي يحضر بوجودها، لكنها في أحيان أخرى، تمثل مظهرًا للحقد والثأر وكراهية الآخر، الأمر الذي يتطلب تحليل فلسفة اللعبة، وتبيان الكيفية التي أصبحت وفقها "مداعبة قطعة الجلد" تجربة كونية، وأمرًا عابرًا للأجناس، وللإثنيات، والأمم، والأجيال أيضًا.
يبدأ المؤلف من يافطة معبّرة رفعها مشجعو فريق "الإفريقي" التونسي، بمناسبة مباراة جمعت ناديهم مع فريق "باريس سان جيرمان" الفرنسي في 4 يناير/ كانون الثاني عام 2017، وكتبوا عليها: "ابتكرها الفقير، وسرقها الغني"، كي يتطرق إلى واقع كرة القدم المعولمة، حيث أضحت نموذجًا للرياضة التجارية والثقافة الجماهيرية، بعد أن تحولت الأندية الكبيرة إلى "علامات تجارية"، مثل نادي "إف سي برشلونة"، الذي قارنه أحد مديريه ـ مبتهجًا ـ بشركة "والت ديزني"، قائلًا: "هم لديهم ميكي ماوس، ونحن لدينا ليونيل ميسي، لديهم ديزني لاند؟ حسنًا نحن نملك الكامب نو (ملعب فريق برشلونة)". لكن القيم التي باتت تتبناها فرق كرة القدم الاحترافية لم تعد أكثر إشراقًا، إذ إن المنافسات والمسابقات الكروية، أصبحت بمثابة وسائل إعلانية وبورصات للمضاربة، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى إثارة نزعات عنصرية وشوفينية، وانتقامية في أحيان كثيرة.




يشير التاريخ الرسمي إلى أن ذكر كرة القدم جاء للمرة الأولى مرتبطًا بشكل أساسي بإرساء النظام السائد سياسيًا، إذ جاء في مرسوم صدر في أبريل/ نيسان عام 1314 عن "نيكولاس دي فارندوني"، عمدة لندن في ذلك الوقت، باسم الملك إدوارد الثاني ملك إنكلترا، أنه "بينما يذهب مولانا الملك إلى بلاد اسكتلندا في حربه ضد أعدائه، وبما أنه عهد إلينا باتباع سبل صارمة لحفظ السلام، ولأن هناك ضوضاء تعم المدينة نتيجة لعب مباريات كرة القدم في الملاعب العامة، وتحسبًا لما يمكن أن ينجم عن ذلك من شرور كثيرة ـ نسأل الله أن يحفظنا منها ـ قررنا ومنعنا، باسم الملك وتحت عقوبة السجن، ممارسة تلك الألعاب في المدينة من الآن فصاعدًا". وامتد هذا المرسوم ليشمل مدنًا أخرى في المملكة في عهد ولي العهد وريث العرش الملك إدوارد الثالث.
غير أن تاريخ اللعبة، يشي بأن ثمة توترًا نشأ مع الزمن بين عالمين لكرة قدم، يتمثل أولهما في الميل نحو منطق التاجر السلطوي، فيما يسعى الثاني إلى التحرّر من ذلك الميل الجشع، والعودة إلى جذور كرة القدم الجماهيرية، حيث ظهرت كرة القدم في منتصف القرن التاسع عشر، وفي خضم الثورة الصناعية، كنتاج لتوحيد أكثر من نوع لكرة القدم الشعبية التي كانت تُلعب في الساحات والأحياء والمدن منذ العصور الوسطى، ثم جرت عملية تقنين تلك الأنواع، بواسطة مؤسسات تعليمية تخص نخبًا بريطانية، أفضت إلى دمج كرة القدم الوليدة في بوتقة علم أصول التربية الفيكتوري، وذلك بغية تهذيب جيل الشباب البرجوازي، ونشر روح المبادرة وتقاليد المنافسة، اللتين أفرزتهما الرأسمالية الصناعية الصاعدة، ومشاريعها الاستعمارية، لكن في الوقت نفسه ازدادت شعبية كرة القدم بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأسهم أصحاب العمل البرجوازيون في نشرها، على خلفية اعتبارها وسيلة لتعليم الطبقة العاملة كيفية احترام سلطات الدولة الرأسمالية وتقسيم العمل.
لم يطرأ على قوانين اللعبة سوى تغيرات بسيطة، وذلك منذ تقنينها لأول مرة عام 1863، وبقيت قواعدها الأساسية موجزة بشكل خاص، لكن قوة الجذب نحو كرة القدم تنبع من بساطتها، إذ تتطلب ممارستها وسائل بسيطة، تنحصر في كرة يمكن أن تكون بدائية، ومنطقة هواء مفتوحة، يمكن أن تكون زاوية في شارع، أو أرضًا قاحلة. وتوفر قواعدها البسيطة حرية مذهلة، من خلال السماح بتعدّد طرق اللعب، ضمن مبادئ وحدة المكان مجسدة في الملعب، ووحدة الزمان المتحددة بمدة المباراة، ووحدة الحركة المتمثلة بكون اللعبة تجري أمام الجمهور، الأمر الذي يجعل من كرة القدم رياضة سهلة ومناسبة لكل الناس، ذكورًا وإناثًا، وصغارًا وكبارًا، وأصبحت مداعبة قطعة الجلد "كرة القدم"، وكأنها تجربة كونية، وعابرة للأمم والأجيال، وللأجناس كذلك، حيث هناك ما يقرب من 40 مليون سيدة وفتاة يمارسن كرة القدم في العالم. إضافة إلى أن ركل الكرة يُعد مصدر سعادة صافية، حيث يضفي اللعب الجماعي روح الفريق، عبر تمرير وتدوير الكرة على أرض الملعب، فضلًا عن الانخراط الجسدي في المواجهة، والقيام ببعض اللمحات الفنية المجسدة لجماليات اللعب. كما أن لكرة القدم سحرها، وشعبيتها المستمدة من قوتها الدرامية، إذ لكل مباراة حبكة تختزن جرعة مكثفة من الدراما، التي تُكتب نهايتها أمام المتفرجين والمشاهدين، الذين يتابعونها أمام شاشات التلفزة بانفعال كبير، وتبلغ أعدادهم بالمليارات. وقد يقود الانفعال الهائل إلى كوارث، مثل انتحار عشرات البرازيليين في إثر الهزيمة غير المتوقعة لمنتخب البرازيل أمام الأوروغواي في نهائي مونديال عام 1952 في استاد "ماركانا" في ريو دي جانيرو.
يسجل للمؤلف تضمينه الكتاب ثراء معلوماتيًا كبيرًا، وظفه لتحليل حيثيات تطور كرة القدم، ومكنه من تسليط الضوء عليها من زوايا نضالية مختلفة، ضد الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية والنازية والعنصرية، وتبيان كيفية تحول الكرة المستديرة إلى وسيلة "مقاومة العمال ضد النظام البرجوازي"، وإلى سمة ثقافية للطبقة العاملة، وشكل من أشكال مناهضة الأنظمة الشمولية في إيطاليا وألمانيا والاتحاد السوفياتي وإسبانيا، وإدارة ذاتية ضد الديكتاتورية في البرازيل، وسواها من دول أميركا اللاتينية، إضافة إلى حضورها في قلب الثورة المصرية عام 2011، عبر مشاركة "ألتراس أهلاوي" بحراكها الاحتجاجي في ميدان التحرير.
لم تبتعد الكرة عبر تاريخها عن السياسة وتوظيفاتها، حيث سعت الأنظمة الاستبدادية والشمولية إلى تسخير قوة الجذب التي تمارسها الرياضة على الشعب لمصلحتها، وإلى استخدامها كأداة تلميع سياسيًا، ووسيلة لبسط هيمنتها، وترويض المجتمع، وإلهاء مختلف مكوناته. وعلى هذا الأساس استخدمت كوسيلة من أجل خدمة نظامي هتلر النازي وموسوليني الفاشي. ولم يتوان هتلر عن سوق لاعبين إلى معسكرات الاعتقال، بل وقتل بعضهم، عقابًا على مواقفهم السياسية.
يتوقف المؤلف عند تمادي نظام هتلر النازي في توظيف كرة الكرة واستخدامها، كاشفًا عن الطرق التي سلكها من أجل ذلك، ويروي أنه بعد غزو الجيش النازي النمسا (الفيرماخت) في 12 مارس/ آذار 1938، قرر المسؤولون النازيون في 3 أبريل/ نيسان، تنظيم لقاء كرة قدم ودي في فيينا بين ألمانيا و"أوستمارك" (الاسم الذي أطلق لاحقًا على النمسا، بعد أن حولها النازيون إلى مقاطعة ألمانية). وسُميت المباراة "مباراة الضم"، التي جرى الاتفاق على نتيجتها بشكل مسبق، وعلى ضرورة أن تنتهي المباراة بالتعادل (0 ـ 0)، وذلك إرضاء لكلا الفريقين، وتجسيدًا لوحدة الرايخ في المساواة الرياضية. لكن خلال المباراة، ونظرًا لتفوق الفريق النمساوي على الفريق النازي، تملك اللاعب النمساوي "ماتياس سينديلار" شعور عارم بالغضب، فقام بتسجيل هدف في مرمى الفريق الألماني، وأشار بعدها بعلامة النصر، ثم اهتزت المدرجات، وتملك الحضور شعور بالرهبة مما سيأتي، وزاد من التوتر والخوف قيام زميله "كارل سيستا" بتسجيل هدف ثان، ابتهج له اللاعبون النمساويون الفخورون بأنهم لعبوا كرة قدم بموهبة وبكرامة، على الرغم من تهديدات المسؤولين النازيين. وكان الجميع على يقين بأن اللاعب النحيف سينديلار قد وقع على شهادة وفاته، حيث اختفى بعد فترة، وعاش حياة سرية مع رفيقته، فيما قامت الشرطة السرية بتعقبهما، بعد إدراجهما في قوائم على أنهما "متعاطفان مع اليهود والتشيكيين والديمقراطيين الاجتماعيين"، ثم تمّ العثور على اللاعب ورفيقته جثتين هامدتين في شقتهما في 23 يناير/ كانون الثاني 1939.




في المقابل، استخدمت كرة القدم كسلاح في نضال الشعوب، وخاصة الشعب الجزائري، للتخلص من المستعمر الفرنسي، وكطريق نضال للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وكانت وسيلة لمقاومة عنصرية ما زالت مستشرية في الملاعب. كما تمكنت كرة القدم النسائية من كسر حصن الرجولة غير المتجانس الذي حدته الاتحادات الرياضية لكرة القدم.
ليس من المبالغة القول إن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، كونها ببساطة غيرت المفاهيم والعلوم التي كان تدرس في السابق حول الدول والمجتمعات في العلوم السياسية، فالتعريف التقليدي للدولة، والقائم على الشعب والدولة والحكومة والإقليم، بات يشمل المنتخب الوطني لكرة القدم، بوصفه عنصرًا إضافيًا لا غنى عنه لاكتمال مقومات الدولة، إذ لا تقوم الدولة بالمعنى الحديث لها إلا بوجود منتخب يلعب باسمها، ويرفع علمها، ويدافع عن سمعتها. كما أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) هو أقوى اتحادات العالم، ويمتلك موقعًا مميزًا في مقابل المنظمات الدولية والأممية، إذ أن دولًا وأقاليم لا يتم قبول عضويتها في الأمم المتحدة، لكنها تمتلك عضويتها في الفيفا، مثل فلسطين، وتايوان، وتاهيتي، الأمر الذي يبيّن مدى الدور الكبير الذي تلعبه كرة القدم في حياة الشعوب والمجتمعات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.