}
عروض

"فراغات الوحشة": الشعر في حروبه الغامضة

صدام الزيدي

13 يونيو 2023



يحتشد الكتاب الشعري الأول للشاعر اليمني، فخر العزب، المعنون بـ"فراغات الوحشة" بـ "لاءات" كثيرة ولا تنتهي في موازاة حياة بائسة تتماهى في أتونها قصائد منفعلة، تقاومها، وتسعى للانتصار على وحش غامض يكمن في مجاهيل النفس ويتغذى بانكساراتها.

في "إضاءة" سريعة تتصدر الكتاب، ينوّه الشاعر اليمني فتحي أبو النصر، أن فخر العزب شاعر ولد بين جيلين من الفقد والخسائر السياسية والاجتماعية والثقافية، لكنه الجيل الأنقى، لأنه الأكثر استقلالًا ذهنيًا، والأكثر ثوريةً، وفي التجريب على صعيد الكتابة أيضًا؛ يكابد، من أجل الاختلاف واللمسة الخاصة.

ويتابع أبو النصر، معترفًا بضياع أحلام كثيرة بعد 2011 (العام والحدث الثوري) الذي كان فخر العزب أحد أبرز قادته... ومن هنا فثمة حالة اغتراب مزدوجة يعيشها (كشاعر وكثائر) تنعكس في نصوص كتابه الشعري: صارت قصيدة فخر القاسية الرقيقة "حلمة الكون" بالنسبة لنا نحن رفاقه، الذين نحارب معه الطواحين كدونكيشوت ونلعن عبث الأقدار الوطنية والوجدانية التي حلت بالبلد والخيال بالمحصلة.

يكتب العزب قصيدة التفعيلة، محمولًا على أجنحة واقع بائس، إثر تحولات سياسية أفضت بأحلامه (وأحلام كثير من شباب ثورة فبراير 2011 الشعبية في اليمن التي كان أحد الفاعلين فيها)، إلى مآلات جعلته يكسر أقلامه ويمزق أبيات شعره، كما يقول:

دعوني أبوح لكم ما يجيش بصدري من القول
والهلوسات
وما تغتلي داخلي من حمم
وأنفض عني ركام الجراح
وأحيا الحقيقة بعد العدم
وأمضي أبدل لاءات أيامي اليابسات
-جميعًا-
"نعم"....

تتخذ نصوص الكتاب تقنية النص الواحد منذ الصفحة الأولى حتى نهاية الصفحات البالغة 298 صفحة من القطع الوسط (إصدارات أروقة للنشر- القاهرة)، فعوضًا عن أن يعنون كل نص بعنوان منفرد؛ يترك الشاعر قوسان تتخللهما عدة نقط (...........) كدالة على (فراغات الوحشة) أو: الحياة القاسية التي يخوضها ولا تحتمل جهدًا في أن ينفرد كل نص بعنوان يليق به كعتبة ضرورية:

أشعر أني هويتُ إلى دركٍ أسفل
من أعالي القمم
فأسهر في حضرة الليل وحدي
ويأتي الصباح
وعيني على حالها لم تنم
ثويت بروحي إلى مرتعٍ موحشٍ
من شديد السقم!؟

ونتوقف أمام ثورة شعرية تكتب تشظيات روح تغوص عميقًا في مخاوفها وتكتبها مشتبكةً مع أحلامها القديمة والراهنة على الحافة الأخيرة للانهيار أمام هجمة وحش "الاكتئاب"، أو: كائنات الوهم المتضخمة التي، أمامها، يجد الكائن نفسه متزحزحًا إلى المجهول فاقدًا السيطرة على كل شيء لولا مناورة دؤوبة بالقصائد والأماني البعيدة- العتيدة.

وبتجاوز عتبة الإهداء القصيرة: "إلى اللا أحد، من بقي معي في مواجهة الوحشة"، يفتتح العزب مجموعته (بسم الرحمن/ إله الإنس المخلوقين من الصلصال/ إله الجان/ إله الحب/ النابتِ ملء جمال الوردة)، ثم رويدًا يعلن عن سجن مزدحم وقيد شائك يكبلانه في رحلة تيه وخوف توارى فيها الأصدقاء وبقي هو (ووحوش الليل) في طريق المجهول: أنا يا رفاقي خلقتُ وحيدًا/ وعشتُ وحيدًا/ وفي كل يومٍ أموت وحيدًا...

سيرة انكسار

غير أنه يمضي في تدوين سيرة شعرية مأهولة بالندوب والانكسارات، ما هي إلا صورة مصغرة من واقع أكبر يمتد على مساحات هائلة من الجغرافيا حيث الحرب تجول وتصول وتحصد وتحرق والجموع التي كانت في نشوة هتافها ذات يوم لم تعد تجرب شيئًا في أمنياتها وتطلعاتها إلا انكسر وتلاشى، في خضم انتظارات واشتعالات موعودة بالمزيد من العتمة حينما  يغرس الليل أنياب الوحشة في الصدور بلا رحمة، ولعل من الجميل أن ينبري الشاعر في مناهضة هذا الصلف المرعب المتفاقم بالكتابة ضدًا على حالة جمعية من الغيبوبة والانهيار، وليس في وسعه وقد تمادت الخسارات المتكررة فصارت وحشًا يركض في خبايا النفس ويضاعف أوهامها، إلا الكتابة، ملخصًا في ثلاثة أسطر تتوسط الصفحات الأولى من الكتاب حالة  من التجلي الشعري وإن على حساب هزيمة لا آخر لشعابها: كنت أشعر بالحزن/ ثم شعرت ببعض الكلام/ فكانت قصيدة.

ويستعيد الشاعر فتوحات قصيدة كانت بالأمس شيئًا من الانفعال المدهش، المعجز، الباذخ، البليغ، حينما اعتلت الروح الثائرة منصة الانعتاق وأخرجت أحلامها المكبوتة طويلًا على الملأ، متماهية مع نزف الأرواح الهائمة في عذاباتها، غير أن القصيدة (الحلم الثوريّ) آلت إلى اليتم لا يمسح على رأسها أحد، مثل يتيم (ضحية) لم يعد ثمة شيء يفعله سوى الضجر صبح مساء، تنخره الفاقة وتتسع المسافة بينه وبين الحنان والدفء، لا أحد يبتسم له أو يتحدث إليه أو يواسيه، الوحدة مسكنه ولا يصفق له الناس، وبالتالي يتنامى شعور بقبح العالم، فالكل ضده حتى خلف جدران عزلته، والشر يتغول في الأرجاء:

العالم يطفح/ بالظلمات/ ويغرق في بحر العتمة/ ويعيش الناس وحوشًا/ كالغابات....

وفي موازاة تدفق مشاعر الهزيمة لدى ضحية لا حول ولا قوة لها إلا بمزيد من الانعزال والكتابة، يتداعى الانغماس في أفق معتم تزداد وتيرة سطوته في الليل أكثر منه في النهار، ومن معركة خيال إلى أخرى ومن تشظيات لحظة وهم وقنوط إلى تباشير بصيص ضوء تبعثه نافذة السماء بين ساعة وأخرى، يفرّ الشاعر من قدر أثقل رأسه وبدد حكمته وصبره، حيث سنقرأ قصائد مكسورة وأخرى معبأة بهروب جميل وجهته السماء: ابتهالات لتتشبث الروح التائهة المظلمة بالنجاة بينما تتواصل في رأس الشاعر وفي صلب نصوصه وغاراته الشعرية حروب الإنسان المكسور مع غابات وحشته الكاسرة: أنت الذي لا والد ولا ولد/ أنت الذي خلق الحياة/ ومدّ فيها كل أزمنة الأمد/ ونفخت روحك في الجسد/ مددٌ مدد.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.