}
عروض

"دعوة إلى استلقاء طويل": فضاءات جديدة للسرد

عمر شبانة

14 يونيو 2023


تكتب الكاتبة الفلسطينية ميس داغر قصصًا تنطوي على قدر من الواقعيّة السرياليّة، ومزيج من الواقعية والتخييل يرقى إلى العبثية واللامعقول، وهي نفسُها سمات واقعنا غير المفهوم رغم شدة وضوحه، واقعنا اللاواقعي إذا جاز التعبير، لأنه غير ممكن التصديق لشدة غرابته، ولشدة استغراقه في الجنون، ومن هنا تتمتع كتابة داغر بقدر كبير من الصدقيّة، سواء في التقاط مفردات هذا الواقع وعناصره، أو على مستوى التعبير عنه تعبيرًا حقيقيًّا وصادقًا وعميقًا. أقول هذا في ما يتعلّق بتجربة داغر القصصية عمومًا، وفي ما يخصّ قصص مجموعتها "دعوةٌ إلى استلقاءٍ طويل" التي نحن معها هنا.  

صدرت مجموعتها هذه ضمن منشورات "كتاب كناية"، وهي "سلسلة كتب ومطبوعات ورقية ورقمية تصدر عن مؤسسة ميتونومي كناية، تحت إشراف الشاعر حكمت الحاج"، وهذا "مشروع ثقافي غير ربحي يهدف الى إيصال الكتاب العربي إلى العالم"، كما جاء في التعريف بها. وتضم المجموعة تسع قصص قصيرة، متقاربة في طولها النسبيّ، ومتعدّدة الأجواء والمناخات، وتتشارك لغة متقاربة في سخريتها من العالم الذي تتناوله، ثقافيًّا كان أم سياسيًّا أم اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا. سخرية تنمّ على رؤية الكاتبة لواقعها- واقعنا الداعي، وإن بهدوء وبلا شعارات أو خطابات طنّانة، إلى الاكتئاب، ولكن إلى التمرّد أيضًا.

فانتازيا العبث والخرافة

ورغم ما يتلبّس قصص داغر من رمزيّة تكاد تخفي "نوايا" كاتبتها، غير أن هذه الرمزيّة تشفّ عن قدر غير قليل من "البوح" بما تخفي خلفها، حيث يستطيع قارئ القصّة التقاط ما تكتنز من تلميحات وإيحاءات إلى واقع بعينه. وربّما تكون أوّل ملامح الرمزيّة بادية في الإهداء "إلى الصّباح، إن حَلّ"، فعن أيّ صباح تتحدّث الكاتبة وهي تُهدي قصصها هذه؟ وما هو الصباح الذي قد يحلّ وقد لا يحلّ؟ ألا يحيل هذا إلى قراءة بروح عبثية تزاحم روح بيكيت في "غودو الذي يأتي ولا يأتي"؟ ومثل هذه العبثيّة في الإهداء لا شكّ أنّها حاضرة في عدد من قصص هذه المجموعة، ولعلّ الأكثر عبثيّة هو ما يتجلّى في قصّة "سيكولوجية صاحب السيادة"، فدعونا- ابتداءً- نقف مع هذه القصة بما تستحق من عناية وتركيز.

مفردات القصّة ورموزها على قدر من الانكشاف، لكنّ ربطها بيوم القيامة يمنحها أبعادًا شديدة العمق، مع شيء من الغموض اللذيذ والغموض المؤلم في آن. فالقصّة تنسج كينونتها من واقع معيش (معيوش)، فبينما العالم تقوم قيامته، والدنيا تشهد تحوّلات "قياميّة"، نجد "صاحب السيادة" في مكتبه لا يمارس أيّ "فعل" سوى ردّ "الطرف/ الجانب الآخر" على مقترحات "سيادته"، بينما العالم كلّه لا يُبدي أيّ ردة فعل حيال المقترحات، ولا تجاه الاتفاقيات المعقودة بين "صاحب السيادة" وبين الطرف الآخر. وكلّ ما يخشاه "سيادته" أن تقوم القيامة قبل أن يتلقّى الردّ. فهل من عبثيّة أقسى وأشدّ هزلًا وبذاءة من هذا؟! إنّ البساطة والعمق والصدق والرؤية النافذة تقف جميعها وراء إقناعنا بوجود شخصيّة حقيقية تجسّدها شخصية "صاحب السيادة". شخصيّة تسمح بقراءات ذات أبعاد عدة، سيكولوجيّة أساسًا، ولكن سياسيّة وخرافيّة أيضًا! فليست شخصية صاحب السيادة وحدها موضع "العجب"، بل إن موقف العالم هو أكثر عجبًا.

وليس بعيدًا عن هذه العبثية، تكتب داغر قصّتها "الكلب المستشار"، حيث كلب حقيقيّ، كما توهمنا الكاتبة عبر السرد الذكيّ والمعبّر، يلعب دور مستشارٍ لدى طبيب ذي شهرة طاغية، كما يبدو لنا في مطلع القصّة، الشهرة التي تجعل "زبائنه/ جمهوره" مبهورين أمام براعته وقدراته، ينتظرون بلهفة خروج "الزبون" الذي لا يخرج، فمن يخرج أوّلًا هو الكلب ويتبعه الطبيب، ثمّ وسط اندهاش الجميع يعود الكلب وحيدًا إلى "الزبون" القابع في الداخل. وبينما يزعم أحدهم أن الكلب/ المستشار هو من يصنع شهرة الطبيب، تكشف لنا القصّة أن "جمهور المرضى" هم من يصنعون هذه الشهرة. يصنعونها بجهلهم الذي تغذيه رغبتهم في الشفاء على يد الطبيب العبقريّ!

ربّما تكون هاتان القصّتان من أكثر قصص المجموعة إيغالًا في الرمزيّة الشفيفة، والفانتازيا العبثية، لكنّ بقية القصص تنطوي على هذا القدر أو ذاك من هذه السمة المميّزة، فقصة "سمّاعة" تروي حكاية "فطّوم" بنت "المخيم" ورحلتها النهارية، منذ الفجر حتى المساء، بين المعابر والحقل الذي تعمل فيه بقطف البندورة، ولأنّها من دون سمّاعة الأذن، فهي ترى "كلام" الآخرين ولا تسمعه، ترى اللغة العبرية على شفاه الإسرائيليّات والإسرائيليّين في الحواجز، وحيث يمكن أن تتعرّض للتفتيش بجسدها العاري، ولكنّها حين تعود إلى البيت وتضع السمّاعة، تشعر بالانفجار.

وفي قصّة "رغوة صفراء"، نحن مع فتاة في صالة السينما، تتلهّى بقراءة "خرابيش" على ظهر المقعد الذي أمامها، وينتهي الفيلم من دون أن تشاهده، ويخرج الناس جميعًا، فيتقدم منها رجل الأمن ويوجّه لها عبارة غامضة "لا تؤاخذيني يا شابة، فمعظمكم جيلٌ معطوبٌ مخّه". أما قصّة "الشِّعر في زمن الكوليرا" التي تستعير عنوان رواية ماركيز الشهيرة، فهي تحكي جانبًا من جوانب علاقة الشاعر (والمبدع عمومًا) مع الناشر، وهي هنا ناشرة تدعى حورية تريد من الشاعر كتابة قصص للطفل، فيدخل في دوّامة "الورقة البيضاء" وصعوبة إجبار نفسه على ما لا يستطيع، لكنه يجد نفسه يكتب تحت وطأة العقد الذي وقّعه مع الناشرة.

ونبقى في مجال الكتابة والإبداع، مع القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "دعوة تشريفية إلى استلقاء طويل"، مع كلمة "تشريفيّة" التي تعني أن الدعوة تنطوي على التشريف، ولكن لمن هذا التشريف؟ والقصة قائمة على أمسية تكريمية لأحد رموز الأدب في البلاد، الأديب الكبير لطفي الحيران، لكن ما يجري في الأمسية لا يمتّ بأيّ صلة لتكريم الرجل، بل هو عرض لـ "إنجازات" الحزب الذي يشارك في الأمسية، بينما يعرض ابن الحكومة "منجزاتها"، وتستعرض كاتبة شابّة شكواها من الإهمال الذي يلقاه جيلها... فتنتهي الأمسية باستلقاء الأديب الكبير في كرسيّ معدّ للاستلقاء طوال الوقت، من دون أي ردّة فعل أو اعتراض، فهو في موضع تكريم.

وفي قصّة "مواء"، نحن أمام موظف شاب مصاب بداء السكريّ، يضطرَ بضغط من أحد مدرائه، في حفلة لموظفي الشركة، أن يتناول كميّة من الحلوى ويعود إلى بيته فيفقد الوعي، فيما قطته الجائعة تهرب للشارع وتجد سيدة تحتضنها بعد أن كادت تدعسها. وفي قصة "ثلاثون بوصة"، تغوص الكاتبة مجدّدًا في سيكولوجيا البشر، من خلال متسولتين، عجوز وصبية، تتخذان ساحة لعملهما جانبي بوّابة محل للصرافة، وتتنافسان على نحو يكشف عن قبح نفسيّة كل منهما، وعن نفسيّات من يتعاملون معهما، لتنتهي بعامل النظافة يكنس، آخر النهار، قذارات الشارع.

تحمل القصة الأخيرة عنوان "مديرته"، وتحكي قصة الموظف عبد الله، وما فعلته به المديرة بتوبيخها له على سوء التقرير الذي قدّمه لها. هذا التوبيخ الذي جعله يتوهم شجارًا في الخارج، يشاهده من نافذة المكتب، يقوم خلاله رجل بمواجهة المرأة التي كانت بجانبه في السيارة، ويتطور الشجار حتّى يدقّ الرجل رأس المرأة على السيارة، وهو ما يبدو انعكاسًا لرغبة عبد الله في ضرب المديرة.

على هذا النحو تقدّم الكاتبة عوالمها، فمع أنّنا حيال أحوال ووقائع بسيطة، وشديدة الواقعية ربّما، لكن داغر تبدع في جعلها تبدو خيالية، ومن بنات خيالها، الأمر الذي يضعنا في سياق لقصص جديدة، تؤكد إمكانية تطوير الفن القصصي وإنقاذه من ترهّلات التجارب الخانقة بواقعيّتها الفجّة، الواقعيّة السطحية المدججة بالشعارات والأيديولوجيا القاتلة للإبداع. وهكذا فنحن نكتشف فضاءات جديدة للسرد وإمكانياته غير المحدودة. وهذا ما كانت ميس داغر قد بدأته منذ مجموعتها "الأسياد يحبّون العسل"، وصولًا إلى قصصها "ما جرى في الدومينيكان"، العائدون للنشر/عمّان 2022.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.