}
عروض

"تسريد الأيديولوجيا في المتخيّل الروائي": براءة من ضيق الأيديولوجيات

صدام الزيدي

21 يونيو 2023


في كتابه النقدي الصادر حديثًا (متون المثقف للنشر/ 178 صفحة)، بعنوان "تسريد الأيديولوجيا في المتخيل الروائي: قراءة سوسيونصية في رواية ’بخور عدني’ لعلي المقري"، يلفت الناقد اليمني، عبد الحميد الحسامي، الانتباه إلى نجاح رواية "بخور عدني" في مساءلة الراهن الثقافي الذي تصطرع فيه الأيديولوجيات في مدينة عدن في لحظة تاريخية متشابكة ودالة، تجعل من المدينة العربية ممثلةً بـ "عدن" مكانًا تُصاغ فيه هوية الآخر الغربي المتمثل ببطل الرواية الذي فقد هويته في الحرب العالمية.

ويفيد الحسامي، بأن "بخور عدني" شكلت - عبر متخيلها- استعادة لنموذج المدينة العربية المحتَفِي بالمتعدد الثقافي، وبمظاهر الحرية، والفن، والجمال، والتسامح، واللقاء مع الآخر في سياق تكامل، لا تنابذ، إيجابي يساهم في صناعة الحياة، لا سلبي، يهدر كل مقوماتها. كما شكلت دعوة ضمنية للبراءة من ضيق الأيديولوجيات التي أفضت بالمجتمع وبالزمان والمكان إلى التفتت والزوال، وانتصارًا لإنسانية الإنسان في مواجهة عوامل الغياب والتغييب.

ويجد أيضًا أن رواية المقري، تمكنت من تسريد الأيديولوجي بشكل فاعلٍ ومتفاعلٍ، ارتقى بالخاص المحلي إلى أفق عالمي إنساني، ينتزع أهميته من حوارية الخطاب الروائي بوصفه مجسدًا لمجموعة من الأيديولوجيات المتعايشة في فضاء مدينة عدن، والمتناغمة في (الأفق الإنساني) آنًا، والمتنافية، المتقاتلة آنًا آخر.

كما اشتغلت الرواية على تسريد أيديولوجيا البطل، وهو مسكون بأسئلة الهوية والوطن، منحازًا للسلم والتعدد، والحرية والفن، بيد أنه افتقد الوعي الممكن الذي يجعله يشارك بالفعل، وإثارة الأسئلة، وتوجيه الأحداث، فاكتفى بالمشاهدة، والمراقبة، ومتابعة الأحداث.

وتلاحظ القراءة أيضًا أن الشخصيات الروائية في "بخور عدني" قُدِّمت في متخيل روائي يصوّر الدوائر الأيديولوجية في مجتمع عدن وهي دوائر تتفاوت بين الانفتاح والانغلاق، التعدد والواحدية، العالمية والقومية والمحلية، المحلية الوطنية والمحلية الجهوية المناطقية.

كما لم يقتصر تسريد الأيديولوجيا في المتخيل الروائي على الشخصيات، بل قدم المكان والزمان، واللغة الروائية وهي مصبوغة بصبغة أيديولوجية، تتواشج وأيديولوجية الشخصيات، وبذلك يتلاحم الشكل والدلالة في صياغة العالم الروائي.

ويذهب الحسامي للقول إن "بخور عدني" وهي تنطلق من وعي جليٍ، ترد الاعتبار للرواية العربية التي نشأت في ظلال الوعي الاجتماعي، بوصفه الفضاء الذي احتضن ميلاد الرواية، ثم انصرف عنه كثير من الروائيين تحت وطأة النزوع التجريبي، وبذلك فإن الرواية تجسيدٌ لأسئلة الراهن الثقافي المتصدع، وصدور عنه في متخيل لا يغرق في المرجعي؛ فيفقد ماهيته، ولا يتنازل عنه فيفقد روحه.

وفي المجمل، تمثل "بخور عدني"، تأويلًا للذات وللآخر، عبر متخيل يستدعي الآخر؛ من خلال (البطل)؛ ليكون شاهدًا على الذات الغربية، والعالم الغربي في لحظات تفككه، واحترابه، وشاهدًا على الآخر (من منظوره) الذي هو (العربي/ اليمني على وجه الخصوص) وهو يمثل مأوى لكل غريب.

ذهب الحسامي للقول إن "بخور عدني" وهي تنطلق من وعي جليٍ، ترد الاعتبار للرواية العربية التي نشأت في ظلال الوعي الاجتماعي

الأيديولوجيا والعمل الأدبي

تروم القراءة ملامسة إشكالية بحثية مهمة وهي: كيف تتلبس الأيديولوجيا العمل الأدبي، وكيف يمكننا أن نقارب المكون الأيديولوجي وهو يسري في عمل جمالي تخييلي روائي؟ وما مدى تمكن هذا الجماليّ من تحويل الأيديولوجيّ إلى صيغة سردية، يتماهى فيها الواقعي بالمتخيل، ويتناسخ فيها الشكل والمضمون، في علاقة عضوية فاعلة، ومتفاعلة؟

ولتحقيق ذلك، فقد تخيّرت قراءة الحسامي رواية (بخور عدني) للمقري، لأن متنها المقروء ينزع فيه المتخيل الروائي منزعًا خاصًا؛ يتكئ على علاقة تفاعلية بين عناصر المتخيل والسياق الثقافي التاريخي الذي تسعى تلك العناصر إلى تمثيله، وتمثّله، منهمكةً في محاولة لتسريد الأيديولوجيا من خلال اقتناص متخيل جمالي ينهض في فضاء حافل بأشكال الأيديولوجيات، وإشكالاتها، ومتعرض في الوقت نفسه، لتحولات عميقة، في سياق تاريخي شائك؛ ذلك الفضاء الروائي هو مدينة (عدن) وهي ترزح تحت الاستعمار البريطاني، وكان العالم حينها يعيش أحداث الحرب العالمية الثانية، وتزامن ذلك مع هجرة يهود اليمن إلى فلسطين، ونشأة وعي الاستقلال، وظهور الأفكار والحركات الثورية، فأخذت الرواية في هذا الفضاء الزمكاني، تتعقب - عبر عناصرها المتفاعلة- أسئلة العلاقة بالآخر الغربي، وتشكُّل رؤى الثورة، وأسئلة الهوية في أبعادها المختلفة، والأيديولوجيات ذات المنازع الدينية، والقومية، والوطنية، والمناطقية... إلخ، تتعقبها، وتعمل على تحيينها، وتبني كل هذه المعطيات الجمالية في نسق جمالي فاعل ومتفاعل.

وانهمك المتخيل الروائي - انطلاقًا من مدينة (عدن)- في الاشتغال على هذه الأسئلة وهي تتنافذ على (المبدأ الحواري)، الذي تتحدد دلالته "أساسًا بوعي الكاتب، بتعدد أشكال الحقيقة، وبنسبية معانيها، وبتنوع زوايا النظر إليها، وبكثرة الأحوال والمقامات التي تعطي لكل شكل، ولكل معنى، ولكل وجهةِ نظرٍ قيمتها الخاصة"، فأخذت الرواية تعمل على تسريد الأيديولوجيا؛ أي أن تقولَ الأيديولوجيا روايةً؛ فتصوغها في نسيج المتخيل الروائي وعيًا مهيمنًا -في حضوره- بوصف الأيديولوجيا "مجموعة الأفكار والقيم والتصورات التي يحملها شخص أو هيئة، والتي تتعلق بالمجتمع والتاريخ". وقد تكون تلك الأيديولوجيا على شكل قيم ومفاهيم، وربما تتجلى في سلوك الشخصيات وممارساتها. ومن هنا تتجلى أهمية القراءة لهذا المتن الذي يصطبغ - برمته- بالإيديولوجي، منحازًا لأيديولوجيا التعدد والمحبة، والسلام، والتواصل، والحرية والفن، في لحظة تاريخية رهيبة تفشّى فيها العنف، والكراهية، ونفي الآخر، وتردّت فيها البشرية في دهاليز موجةٍ عالميةٍ عاتيةٍ من العنف تتدثر بالأيديولوجي، وتلتهم الأخضر واليابس، على حد تعبير الحسامي.

وتشكلت القراءة من ثلاثة فصول، يسبقها مقدمة وتمهيد يلقي الضوء على محورين أساسيين هما: وصف الرواية، والجمالي والأيديولوجيّ. وينشغل الفصل الأول بالشخصيات وتسريد الأيديولوجيا، عبر مبحثين: يتناول الأول البطل/ الراوي، ويهتم الثاني بأنماط الشخصيات الروائية الأخرى، بينما اختص الفصل الثاني بـ(المكان والزمان) وتسريد الأيديولوجيا، وتكون من مبحثين: الأول كان مداره المكان - بمكوناته وتحولاته- وتسريد أيديولوجيا، والثاني تناول الزمن وتسريد الأيديولوجيا، ليختص الفصل الثالث باللغة الروائية وتسريد الأيديولوجيا منقسمًا إلى مبحثين: تناول الأول تعدد المستويات اللغوية، وتناول الثاني الأجناس المتخللة، وأنماط الخطاب. ويتبع ذلك نظرة أخيرة تطلّ من شرفة رواية (بخور عدني) لتتأمل وشائج قربى بين أيديولوجية الخطاب الروائي وأيديولوجية الروائي، ثم تختتم القراءة بخاتمة تستخلص أبرز النتائج تلتها قائمة المصادر والمراجع.

ويزعم الحسامي أن قراءته هذه لم تُسبق بقراءة سابقة، لرواية "بخور عدني" من خلال هذه الزاوية بالتحديد، وقد حاولت أن تستهدي بالقراءات التي عمدت إلى مقاربة العلاقة بين الروائي والأيديولوجي في عموم أطروحاتها، ولا سيما الخطاب الروائي لباختين الذي قدم فيه مقالات عن الرواية والأيديولوجيا، فضلًا عن تحليله رواية "البعث" لتولستوي، والنقد الاجتماعي لبيير زيما، الذي تضمن فصولًا في التحليل الاجتماعي للنص؛ تنظيرًا وتطبيقًا وكذلك كتاب: نحو تحليل سوسيوبنائي للرواية، رواية المعلم علي نموذجًا لحميد لحمداني، وكتاب النقد الروائي والأيديولوجيا: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي، للكاتب نفسه، وكتاب النص السردي: نحو سيمائيات للأديولوجيا، لسعيد بنكراد.

وتسهم القراءة - من طرف خفي - في إعادة الاعتبار للمدينة العربية، وهي تزهو في تعددها، وانفتاحها، وتسامحها. كما تشكل دعوةً لمغادرة التخندق الأيديولوجي، الذي أرهق الإنسان العربي، وأزهق روحه، في (المعركة الغلط)، وأدى إلى تمزق الدول والمدن، والمجتمعات، وبذلك، تغدو القراءة، دعوةً مضمرةً لاستعادة إنسانية الإنسان والانتماء لقيمه، وإحلال مبدأ الحوار مكان القطيعة والتنافي، والقبول بالآخر بدلًا عن الرغبة في إقصائه وإفنائه. إنها دعوة للسلام، والتعايش، لا الدمار والتفاني، وفقًا للحسامي.

واعتمد الناقد المنهج (السوسيونصي) للبحث عن تسريد الأيديولوجيا في "بخور عدني"؛ ومساءلة خطابها الروائي استنادًا إلى حال تلفظه، وهي وُجهةٌ شاقةٌ؛ نظرًا لما يعتريها من صعوبات تجعل الناقد أمام مسؤولية التقاط ما تروم القراءة تحقيقه من تضاعيف عالَمٍ روائيٍ شائكٍ، ومتشابكٍ بأحداثه، وشخصياته، وأزمنته، وأمكنته، وإحالاته؛ فـ"الدخول إلى روايةٍ ما شبيهٌ بـ(رحلة الجبل)، توجِبُ اختيار نفَسٍ، واختيار ايقاعٍ للسير" بحسب أ. إيكو.

وتستجلي القراءة، أشكال الأيديولوجيا، وتبنيها، ليس من خلال العلاقة الجدلية بين الداخل النصي والخارج التاريخي - بحسب لوكاتش- الذي يرى أن النص انعكاسٌ آليٌّ للخارج الاجتماعي، ولا من المراوحة بين الخارج الاجتماعي ورؤية العالم الذي تشكّل لدى المبدع في نصه كما هو في البنيوية التكوينية لدى غولدمان، التي تنطلق من منطلقٍ جدلي؛ إذ "تقول باستقلالية المادة الأدبية، وارتباطها في الوقت نفسه بالبنى المحيطة بها، وأهمها البنى الفكرية التي تتناظر معها"، بل من منظور القراءة الباختينية (السوسيونصية) التي تستنبط الأيديولوجيا من المتن النصي عبر تجلياته، بوصفه دالًا يقتضي بحثًا عن مدلوله الأيديولوجي، في ثنايا مكوناته الداخلية، سواء تلك التي تخص المحتوى، أو تخص الشكل. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.