وفي مجموعتها الشِعريّة الجديدة "عدالة شِعريّة"، الصادرة حديثًا عن دار لازورد، بالتعاون مع منشورات "نبض" في بغداد 2023، تواصل الشاعرة المغربيّة، منى وفيق، نحتها الهادئ والمتزن في تفاصيل الحياة اليوميّة، عبر تدوينها لأحاسيس ومشاهد حياتيّة تلك المتناهية في الصغر والهامشيّة في أغلب الأحيان، وذلك انطلاقًا من الهم الخاص إلى الجمعي العام، تقول: "تَفْتِنُني التفاصيل الإنسانية المرهقة في حالات الحركة، الميكانيكيّة الإنسانية، حالات الجموع والتزاحم، العزلة والخوف، حالات الشرود... أفعال الصمت لا الحديث... يَفْتِنُني السكون". ما نجده في هذا المقطع من السلاسة اللغويّة والتكثيف، جنبًا إلى جنب مع خصوصيّة الصورة الشِعريّة لدى الشاعرة، وما لها من جماليّاتٍ آسرة تبهر القارئ وتشدّه إلى عوالم قصيدتها، ينسحب على جلّ قصائد المجموعة؛ حيثُ تقول أيضًا: "يَفْتِنُني النّهر. يُجرِّب أن يَفتح قلبه للحيوانات الضّخمة العاشبة، في حين تتقاتل في ما بينها للسّيطرة على مجالٍ صغيرٍ منه. في قلبي كما في أيّ نهرٍ عذب، أسماكٌ لا يراها أحد". العبارة الختاميّة في المقطع السابق أتتْ مغايرة وغايةً في المفاجأة والإدهاش، وهو ما يسمّى ببؤرة الشعريّة والتوتّر، حيثُ أضفت مزيدًا من المباغتة والعفويّة إلى أجواء القصيدة.
الشاعرة منى وفيق ترسم صورًا في غاية السوريالية، والسوريالية المتوحشة، ولكن الساخرة الهازئة:بربرية تحمل رَجُلَها فوق ظهرها وتركض في غابة شائكة لتأكُلَه وحدها. تلك، كانت فكرتي الجميلة عن الحب. الشاعرة منى تشخصن الحب، كما السياسيون يُشخصنون السياسة، وكأنه تصادم أجساد، وفي وجهٍ آخر اختزال للحب ـ ما هكذا الحب، وإن كانت صورتها لهُ وعنهُ ترسمُها على أساس التورية واللعب بالكلمات التي تنسخ منها صورته بزيِّه السوريالي. الشاعرة تكتب قصائدها بوعي ساخر، وبيقظة ذهنية، محاولة التجدد والتجديد والتميز الخاص.
مع ذلك، فإن الشاعرة (مواليد الرباط 1981) تكتبُ وكأنها تبحث عن ذاتٍ ضائعة، تكتب بلغةٍ شفيفة مشحونة بالأمل والتفاؤل؛ "المنسيّون على حق"، "ما أنبل العزلة"، "بيت بعيد"، "مهجور"، "ضائعة في المقاصد"، "العزلة مناعة ضدّ الألم"، "أرض وعرة"، وغيرها كثير من المفردات والعبارات نجدها بين جنبات قصائد هذه المجموعة. حيثُ تقول في قصيدة بعنوان "ألمٌ لا يدركه وصف": "أنّى لي بذكاء الآنية لأنكسرَ، فأُلامسَ الصوتَ الخفيضَ في عمقي. وأنجحَ في العودة إلى البدء حيثُ لم أَكُ شيئًا".
منى وفيق في قصائدها هذه نلحظ أيضًا أنها تشتغلها بصيغة تحليلية نفسية بعيدًا عن الخطاب الدعائي، وأن بعض القصائد تثير الغرائز الليبيدية كقصيدتها "ستريبتيز بالمقلوب": كنتَ تنظرُ إليَّ من ثقب الباب... والآن وقد وضعتُ من الداخل مفتاحًا مكان الثقب، أغلقُ رِجلَيَّ كي ربَّما أخيرًا تنتبه إلى قلبي. صورة مثيرة، ولكن الشاعرة تحاول كبح الغرائز، وأنها ليست غرائز عدوانية، وذلك لكي تقوم القصيدة بالتنفيس عن الطاقات المكبوتة التي لو أبقينا الباب عليها مُغلقًا لصارت ذات فاعلية سلبية. إنَّها كتابة جارحة، مع أنها كتابة تثير الفكاهة، فصورها تبدو هزلية وكاريكاتيرية صادمة: ماذا سيفعلُ بتماثيل الشمع المُذابة من هتافات الشعوب... هناك فاتنة لفقرة أخبار الطقس تلك من ينتظر، هات أخبار المطر.
مجموعة "عدالة شِعريّة" جاءتْ في 72 صفحة من القطع الوسط، وهي الإصدار الأدبي السادس لمنى وفيق، إذْ سبقَ لها أن أصدرت الكتب التالية: في الشعر، "فانيليا سمراء" (دار أزمنة، الأردن)، "نيون أحمر" (دار النهضة العربية، بيروت)، "حافة حادة لنصف صحن مكسور" (دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة). وفي مجال القصة القصيرة، "نعناع، شمع وموت" (دار شرقيات المصرية)، "لعب دوت كوم" (دار آفاق المصرية).