}
عروض

"سأرسم لك البحر": رمزية الماء وصوره المتعددة

عزيز العرباوي

1 يوليه 2023

تكتب الشاعرة المغربية فوزية عبدلاوي القصيدة كي تقتحم عوالم متعددة، تعبر عنها بلغة شعرية وجمالية محملة برصيد مؤثر وقوي تحاور به الآخر؛ الآخر الذي يدرك أهمية الشعر في بناء الوعي الفردي والجماعي، وتغيير الرؤية إلى العالم والإنسان. فرمزية الموقف والأشياء والفكرة هي المنطلق الأساس الذي تبني عليه عددًا من الموضوعات في قصائد ديوانها الجديد "سأرسم لك البحر" (منشورات باب الحكمة، تطوان، ط1، 2023)، وفي دواوينها السابقة (تقاسيم الريح، بقعة حناء حزينة...)، حيث ترسم صورًا متعددة الأفكار والمواقف الإنسانية والأحداث والتفاصيل الكبيرة والصغيرة والمشاعر الإنسانية الفياضة المفعمة بالأحاسيس المرهفة.

إن شعر فوزية عبدلاوي يمثل عالمًا شعريًا متميزًّا ومكثفًا، حيث تندمج في شعرها، ومع شعرها، لتحقيق الإبداع السامي والراقي في سماء الأدب العربي عامة. ومن خلاله تصل إلى الجدية في الكتابة الشعرية، والإخلاص في الإبداع باستحضار صور شعرية جميلة ورموز وإيحاءات تجعل من شعرها أدبًا مقلقًا، فاضحًا للعديد من القضايا والأمور التي لا غنى عنها. ومن هنا يمكننا أن نخلص إلى أن قصيدة عبدلاوي قصيدة رمزية بامتياز، تعبر فيها عن رمزية عدد من الظواهر والأشياء، ومن أهمها رمزية الماء وصوره المختلفة والمتعددة وفق رؤية ثقافية وأدبية محددة.

رمزية الماء في الشعر الحديث والمعاصر
استخدم أغلب الشعراء العرب في العصر الحديث والمعاصر الرمز بفعالية متقدمة وكثيفة، وبأساليب متعددة، وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، فلا تكاد تخلو قصيدة شعرية من قصائد هؤلاء الشعراء من الرمزية، سواء كانت هذه الرموز أسطورية، أو دينية، أو طبيعية، أو ثقافية، أو تراثية... أو غيرها، فلم يكن استخدامها عبثًا، بل هدفًا في إضاءة وتقديم دلالات متعددة لهذا الرمز المستخدم. فالواقع العربي، بكل تحولاته السياسية والثقافية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، يدعو إلى استخدام الرمز في الشعر، فكان استدعاء الرمزية والغموض والصور الشعرية غير المألوفة والمعنى غير المعتاد ضرورة لخلق اتجاه جديد في الشعر العربي يخالف الشعر القديم. وصار الرمز ظاهرة فنية ضرورية من ظواهر القصيدة الحديثة، وقد يكون هذا الرمز من التقنيات الفنية المشذبة للصخب الغنائي، حيث تم إدخال عدد من محمولات الثقافة الحديثة، من فكر ومجردات على الشعر، فبدأ الشعراء العرب يستخدمون الرموز والأوصاف والصور من الطبيعة العربية المختلفة، والتي تغيرت وتحولت بفعل الزمن والوقائع المتلاحقة والأحداث المتعددة... "فالبنية اللغوية في عملية التوصيل لها عالقة مباشرة بالرمزية التي ترى أن وسائل الفن هي التنوع في اللون والشكل... وعلى الشاعر أن يحول الكلمات الجارية عن معناها التقليدي من دون أن يشتق كلمات جديدة، أن يبرز رنين الكلمات المركب، بعض التناغم الذي لم يعزل بعد، ولكنه مع ذلك محسوس، ولا تتم هذه العملية إلا إذا أضاء بيت الشعر الكلمة إضاءة خاصة، لأن الكلمة المعزولة لا تستطيع مطلقًا أن تأخذ قيمة جديدة، وسياق الكلام هو الذي يميل بها نحو هذا الامتداد أو ذاك"(*).




وقد تعدد الشعراء الرمزيون في الشعر العربي الحديث، حيث اعتمدوا الرمز لتوليد الصور الشعرية المختلفة والمتعددة. وبما أننا هنا نهدف إلى اكتشاف الصور الرمزية لعنصر الماء في ديوان "سأرسم لك البحر"، فإننا نؤكد أنه لا يخلو أي شعر لشاعر عربي حديث، أو معاصر، من الماء ورمزيته المتعددة، واستحضاره في التعبير عن أحاسيس مختلفة ومواقف سياسية ودينية وفكرية واجتماعية.

صورة الماء الرمزية
عالجت فوزية عبدلاوي موضوع الماء في دلالته العامة والخاصة في أغلب قصائد الديوان، أو لنقل رمزية الماء وقيمته المادية والمعنوية في حياة الإنسان، مبتعدة عن النظرة السطحية التي تنطلق من الحقيقة المادية الخالصة للماء إلى حقيقته المعنوية والدلالية المجسدة في إيحائية ضمنية تجعل من الماء مادة لها من الأهمية بمكان في تحقيق الرغبة في البوح والإبداع والتعبير عن المشاعر والآلام والواقع الإنساني المزري الذي تعيشه الشاعرة وتحسه في قضايا معلومة وظاهرة للعيان في أرقى صورها. وفي المقطع/ القصيدة التي سنستحضرها هنا، نتبين الطرح العاطفي الواضح، حيث تتضمن دلالات متعددة للماء من خلال كون هذه المادة الحيوية رصيفًا تمشي عليه شرايين البوح منهكة مجبرة على نفسها، حيث يصبح الماء مادة للوضوء وغسْل جبين الحرف وجنون السؤال، منذ زمان طويل. تقول الشاعرة في قصيدة "لِنغْسلَ جبِينَ الماءِ":
لكَ هنَا في مفْرقِ اللُّغةِ
مَدارٌ للأَسْماءِ
مدَارٌ لأَسْئلَةِ المَاءِ
ورَصيفٌ تَمْشِي علَيْهِ
شرَايِينُ البَوْحِ
مُنْهكَةً مجْبرَةً
عَلى فَكِّ أُحْجيَاتِ العِشْقِ  (ص19).
إن لجوء الشاعرة إلى استدعاء اللغة باعتبارها مدارًا لأسئلة الماء ورصيفًا تمشي عليه ليس مجرد لجوء ضروري تطلبته اللغة الشعرية بقدر ما هو أسلوب أدبي يستدعي الرمزية، رمزية الماء الصافي والزلال الذي يصلح لوضوء الصلاة، وملجأً لفك الأحجيات والألغاز الرومانسية التي تتطلبها العلاقات العاطفية. وليس أمر استدعاء العاصفة القوية مثلًا سببًا في تدميرها لكل شيء، بقدر ما هي صورة لإعلان الضعف أمام المحبوب، أو صورة لخسارة معركة ما؛ تقول الشاعرة في قصيدة "القيامة الآن":
قِيامَتِي الآنَ
عرَفْتهَا منَ الدُّخانِ المتَصاعِدِ
منْ أحْجارِ اللُّغةِ
منَ العاصِفةِ التِي أخَذَتْ كلَّ أشْرعَتِي
ورَسمَتْنِي علَى الماءِ ورقَةَ شجرٍ صفْراءَ
تعْلِنُ خرِيفَ حُلْمٍ
وأثَرَ مِجْدافٍ مخرُومٍ
على صفْحةِ موْجةٍ ثائِرةٍ (ص24 ـ 25).
ويبقى الماء هو أصل الكون، أصل الخلق كله، واستحضاره في شعر فوزية عبدلاوي لم يكنْ مجرد ترف لغوي، أو حتى أفكار عادية للتعبير عن أهمية الماء المتمثلة في قيمته اليومية، بقدر ما يكون استحضاره قوة للترميز والإيحاء، حيث تصير الوديان المالحة مصاحبة للكهوف والمعابد والأديرة والتكايا والصكوك... إن صورة الماء عند الشاعرة منسجمة مع أفكار الشاعرة ومواقفها ومشاعرها الخاصة تجاه الأشياء والآخرين ورؤيتها الفكرية للعالم.
لا تستثني الشاعرة أو تترك تفصيلًا أو فكرة عن الماء وعن تجلياته إلا واستحضرتها، فيتحد الماء مع الشاعرة في حد ذاتها، كما يتحد مع باقي العناصر الطبيعية، ومع القيم الأخرى... ويغلب على شعر عبدلاوي الحدس في رسم عوالم شعرية متعددة الأفكار والاتجاهات، حيث يتجسد الماء من خلال رموز شعرية أنجزتها الشاعرة، قد تكون مختلفة في بعض الأحيان عن صورة الماء في الثقافة الشعبية والمخيال الجمعي العربي، حيث تسعى في بعض الأحيان إلى تجريد الماء من صورته الطبيعية المعروفة في جريانه المعتاد في الأنهار والجداول الصغيرة والغدران، وفي نزوله من السماء على شكل أمطار، ليعطيه بعْدًا دلاليًا إنسانيًا يتجلى في علاقة الإنسان بالحياة وبالطبيعة والموت والسلم والأمن والقيم والأخلاق والراحة والحرية. تقول الشاعرة في قصيدة "الكون رقعة نرد":
بيْضَاءُ كالْقطْنِ رُوحِي
خلْفِي وِدْيانٌ مالِحَةٌ شَربْتُ مِياهَهَا
كهُوفٌ علَّقْتُ في طرَاوَتهَا صَلوَاتِي
ومعَابِدُ وأدْيرَةٌ تمَسَّحْتُ بمَحارِيبهَا
خلْفِي تكَايَا أوْفَيْتُ بها نُذورًا
وشَربْتُ بها عَرقَ المُتصَوِّفةِ والزّهّاد (ص27).
تؤكد الشاعرة على أن الماء لا يكون عنوانًا للسلم والأمن والصلاة والعبادة إلا إذا كان في جدول ماء، أو في وديان مالحة، أو غير مالحة، لا فرق، ومعابد وأديرة يتم التمسح بها، وخلفها تكايا وفضاءات فسيحة للتعبير عن المحبة والعشق، ومواجهة المتصوفة والزاهدين. وتؤكد علاقة الشعر بالماء، لأن الشعر غالبًا ما يصل في مفهومه إلى مقام القدسية والجمالية في صورته القيمية والثقافية... فالشعر ينطلق من القلب فيتقاطع مع أهمية الماء لهذا القلب البشري في البقاء والحياة... إنه ملجأ للكائنات الحية، سواء منها المائية أم البرية؛ إن الماء هو الوطن وهو الأرض بالنسبة للإنسان عمومًا.

هامش:
(*) جلال عبد الله خلف، "الرمز في الشعر العربي"، مجلة ديالى، العدد 52، العراق،2011، ص. 10.

*ناقد مغربي. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.