}
عروض

محطات جمال شحيد الإغريقية واللاتينية

نبيل سليمان

15 يوليه 2023

في كتابه "من بعيد"، كتب طه حسين عام 1935: "وإنّا لا نعرف جامعةً خليقةً بهذا الوصف لا تشترط اللاتينية واليونانية، إحداهما أو كليهما، على أنهما شرط أساسي لبعض الدراسات، والدراسات الأدبية والفقهية بنوع خاص".
يصدّر جمال شحيد كتابه "محطات كبرى في الثقافة الإغريقية واللاتينية" (دار المشرق، بيروت 2023) بكلمات طه حسين. وقبل ذلك يكتب شحيد أنه درس في لبنان اللاتينية واليونانية ثماني سنوات، كما درّس الأدبين اليوناني واللاتيني في جامعة دمشق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. أما كتابه هذا فقد حدد هدفه بالوقوف عند المحطات الأساسية في ذينك الأدبين: الشعر والرواية والمسرح، وكذلك: الفلسفة والتاريخ والخطابة، على طريق العودة إلى الينابيع التي أثرت في الحضارات الأوروبية والمتوسطية، وإبراز الكنوز التي خلّفها لنا الإغريق والرومان طول خمسة عشر قرنًا "وربط اللواحق بالسوابق".
من طه حسين إلى أمبرتو إيكو في "اسم الوردة"، وسواهما، يلاحظ جمال شحيد هذا الحنين إلى اللغتين اليونانية واللاتينية، الذي ليس تكرارًا ببغائيًا، بل هو الولوج إلى حضارة متوسطية أثرت في اللغات الأوروبية جميعًا، كما أثرت في اللغة العربية، حيث نقع على مئات المفردات اليونانية واللاتينية. وينقل شحيد هنا عن رفائيل نخلة في كتابه "غرائب اللغة العربية" أمثلة كثيرة، مثل إزميل، أسطورة، إقليم، أيقونة، خريطة، درهم، سطل، طاووس، إبريز، طلسم، فندق، هذا من اليونانية، ومن اللاتينية: إسطبل، بركان، بلاط، دينار، قبّان، قناة، كركم، منديل، كوب. ولا يفوت شحيد أن يقول قائل إن الإغريقية واللاتينية صارتا من اللغات الميتة. لكنهما بسبعة أرواح، إذ اقتبست منهما لغات البحر المتوسط كثيرًا من المفردات والتراكيب، وهو ما يبرز في المفردات الصيدلانية والحقوقية، وفي مصطلحات علم النبات.
بنى جمال شحيد كتابه مما سماه "التقديم المكثف" للأسماء التي ترجم لها، مشفوعًا بـ"النصوص المعبرة". هكذا تواترت في الشعر أسماء ونصوص لهوميروس من الإلياذة والأوذيسة، وهيزيودوس، وسافو، وبندراوس، من الأدب اليوناني، وليتيتيوس لوكريتيوس، وكاتولوس، وفيرجيليوس، وهوراتيوس، وأوفيديوس، من الأدب اللاتيني. ومن المسرح، حضر إسخيلوس، وسوفوكليس، ويوريبيدس، وأرستوفانيس، وبلاوتوس، وترنتيوس، وسينيكا. أما الروايات اليونانية واللاتينية فحضر منها ما كتب أخيل تاسيوس، وهيليوذوروس الحمصي، ولونغوس، ولوقيانوس السميساطي، وبترونيوس، ولوكسيوس أبوليوس. وتحت عنوان "الفلسفة تتكلم اليونانية"، حضر هيراقليط الأفسسيّ، وبارمينيذيس الإيليّ، وأمبيذوكليس الصقلي، وأفلاطون، وأرسطو، وأبيقور، وماركوس أوريليوس، وسينيكا، والقديس أوغسطين. وإلى ذلك، حضر تسعة من المؤرخين، واثنان من البلاغة.




من هذه الجمهرة، هوذا هيليوذوروس الفينيقي من مدينة حمص السورية، الذي كان ينتمي إلى المدرسة الفيثاغورية المحدثة، وكان يشدد على عبادة الإله الشمس، مثل حمصييّ زمانه. وقد ألّف في شبابه رواية "الأثيوبيات أو غراميات ثياجينوس وخاريكليا". وفي سيرته أنه بعد أن أصبح أسقفًا أمره سينودوس ثيساليا بأن يتلف روايته أو يستقيل من منصبه الكنسي، فآثر الرواية، واستقال. ويذكر شحيد أن في هذه الرواية من ملحمتي هوميروس ومن مسرحيات يوريبيدس. وهي تدور حول أميرة أثيوبية ـ والمقصود أنها من بلاد النوبة ـ تخلت عنها أمها، فعاشت في مدينة ذيلفي اليونانية، وبلغت أن تكون كاهنة للإلهة أرتميس. وحين حضرت الألعاب الأولمبية في أثينا التقت الشاب ثياجينوس، وتحابّا، فأنذرتها نبوءة بمغادرة ذيلفي. وبعد مغامرات بحرية، بلغا مصر، وسيقا إلى بلاط الملك الأثيوبي هيداسبوس، وتنتهي الرواية بزواجهما. ويفيدنا شحيد أن هذه الرواية طبعت عام 1534، وترجمت إلى الفرنسية عام 1547، وإلى الإنكليزية عام 1569، وكانت تصنف في القرن السابع عشر من أهم الروائع العالمية. وفي عام 1958، ظهرت في السلسلة الفرنسية المرموقة لابلياد بعنوان "روايات يونانية ولاتينية".
من جمهرة كتاب شحيد الكبرى: هو ذا أيضًا لوقيانوس السميساطي نسبة إلى مدينة سميساط السورية، التي تقع الآن شمال مدينة منبج، جنوبي تركيا، قرب سد أتاتورك، وقرب الحدود السورية، على ضفة نهر الفرات، ومنها كانت الجيوش الإسلامية تخرج إلى بلاد الروم.
كان لوقيانوس يجيد السريانية واليونانية، وبالأخيرة ترك ستةً وثمانين كتابًا. وقد عاش في فترة حكم العسكر الذين كانوا يكرهون المثقفين، وكتب عن ذلك. وكان خيري الذهبي لا يفتأ يتحدث عن لوقيانوس بإكبار، كما سبق أن فعل كثيرون تأثروا به، مثل فولتير، وسويفت، وتوماس مور، وشكسبير، ورابليه و... وفي المقابل، وصفه الألماني رودولف هيلم بالسوري الطائش، ووصفه إدوارد نوردن بالشرقي السطحي. ومثل خيري الذهبي، عُني سوريون آخرون بتراث لوقيانوس، مثل سعد صائب، الذي ترجم محاوراته، وإلياس سعد غالي، الذي ترجم "مسامرات الأموات"، وموسى ديب الخوري الذي قدم "الإلهة السورية".
تميز لوقيانوس الذي لقّب نفسه بـ "السوري" في المخيلة الخلاقة، والسخرية الكاوية. وعنه يقول جمال شحيد إنه مؤسس قصص الخيال العلمي. ففي كتابه "قصص حقيقية" يتخيل رحلة إلى القمر، وفي "رسائل إلى زحل" يتخيل رحلة إلى الكوكب الذي افتتن به: زحل. أما كتابه "مسامرات الأموات" فيوشّج العلاقة بين عالم الأحياء وعالم الأموات، في إهاب من السخرية لم تنج منه هيلانة التي سببت حرب طروادة، ولا الإسكندر، ولا أبوه فيليبس، ولا أفلاطون الذي يصمه بتمليق طغاة صقلية. وإذا كان قلم لوقيانوس لا يرتوي من نيل الأغنياء، هو الذي نشأ فقيرًا، فقد أنهى مسامرات كتابه بالقرار: "لما كان الأغنياء قد ارتكبوا في حياتهم كثيرًا من الأعمال المخالفة للقوانين، كالسلب والغصب والإهانات من جميع الأنواع بحق الفقراء، فَلْيَحْسن لدى المجلس والشعب أن تُعاقب أجسادهم بعد موتهم كسائر المجرمين، وترد أرواحهم إلى الأرض، فتدخل في الحمير، وتظل هناك مئتين وخمسين ألف سنة، تنتقل من حمار إلى حمار، يحملون الأحمال ويسوقهم الفقراء وهم ينخسونهم بالمنخس، وبعد ذلك يُسمح لهم بأن يموتوا". وقد طرح القرار على التصويت فأقره الشعب.




يصف جمال شحيد كتاب "مسامرات الأموات" بأنه سردية متخيلة، وقد تأثر بها كتاب أوروبيون كثيرون، منهم فونتينيل صاحب "محاورات الموتى" (1680)، وفينيلون صاحب "محاورات الموتى التي تتوخى تثقيف أمير" (1692)، ورابليه في روايتيه "بانتا غرويل"، و"غارغانتوا"، وسواهم.
وفي كتابه "فلاسفة للبيع"، يتخيل لوقيانوس سوقًا للعبيد يعرض فيها الإله زيوس للبيع كلًّا من سقراط، وهيراقليطس، وديوجين، وفيثاغورس. وقد صرح لوقيانوس نفسه بأنه في كتابه "قصص حقيقية" كتب حول أشياء لم يرها، ولم يعشها، ولم يتعلمها من الآخرين؛ وهي أشياء لا وجود لها، ولا يمكن أن توجد، "ويجب على القراء ألا يصدقوا شيئًا واحدًا منها". وما صنيعه، إذًا، إلا التخيّل والتخييل.
يحار المرء في الجمهرة الكبرى التي ملأت كتاب "محطات كبرى في الثقافة الإغريقية واللاتينية" في من هو أكبر أهمية. غير أن لوكسيوس أبوليوس بالنسبة لي هو أكبرهم أهمية، لأنه أورثنا روايته "تحولات الجحش الذهبي" بعبارة علي فهمي الخشيم، أو "الحمار الذهبي"، و"الامّساخات" بعبارة جمال شحيد.
لقد سكنتني رواية أبوليوس سنوات طويلة قبل أن أكتب رواية "تحولات الإنسان الذهبي" (2022)، فأقلب لعبة أبوليوس، وإذا بالحمار يتحول إلى الإنسان، أو يمسخ إنسانًا، بالاشتقاق من ترجمة جمال شحيد "الامّساخات" الذي دقق النظر في ترجمات رواية أبوليوس، فتبين له أن الترجمة العربية غير أمينة، ومختزلة، فالسطور الـ 26 الأولى لم تترجم، ونقرأ: "وبعد إجراء عدة أسبار، أستطيع القول إن النص العربي يمثل 65% من النص الأصلي"، عدا عن أن مترجم الرواية إلى الفرنسية بيير عزيمال زوّد ترجمته بواحد وعشرين صفحة من الحواشي العلمية المفيدة والضرورية لفهم مقاصد أبوليوس.
عبر المغامرات الحمارية العديدة، يكتب شحيد أن أبوليوس وصف في أثناء تحوله إلى حمارٍ المجتمعَ الروماني في عصره. ومن فضل القول أنني حاولت مثل ذلك في تصوير المجتمع السوري بخاصة، والعربي بعامة. سوى أن حمار أبوليوس عاد بشرًا سويًا، بينما اختفى كارم أسعد، الذي كان حمارًا وتحول بشرًا في روايتي، ولم أعرف، بالأحرى لم تعرف الرواية ما إذا كان قد عاد حمارًا سويًا أم ظل بشرًا غير سويّ في مجتمع غير سوي.
يعدد شحيد من أعمال أبوليوس ذي الأصل البربري الجزائري، رسائل فلسفية، منها واحدة حول إله سقراط، تكلم فيها عن شيطان الفيلسوف اليوناني، ورسالة عن أفلاطون، وثالثة عنوانها "حول العالم" وقد ضاع قسم من أعمال أبوليوس، وبينها روايته الفلسفية "هيرماغوراس".
لجمال شحيد، بالإضافة إلى كتابه "محطات كبرى في الثقافة الإغريقية واللاتينية"، ترجمات ومؤلفات أخرى بالغة الأهمية، أحدثها تأليفًا كتاب "مارسيل بروست أو ملاك الليل"، ومنها كتابه "في البنيوية التكوينية: دراسة في منهج لوسيان غولدمان"، الذي صدر عام 1982، وكان له أثره البليغ في سياق التطور الفكري والنقدي المتعنون عربيًا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالماركسية والبنيوية. وفي هذا السياق، أيضًا، جاءت ترجمة شحيد لكتاب ميخائيل باختين "الملحمة والرواية" (1982). أما مساهمة شحيد الكبرى فهي ترجمته للجزأين السادس "البيرتين المختفية"، والسابع "الزمن المستعاد" من سباعية مارسيل بروست "بحثًا عن الزمن المفقود"، وكذلك مراجعته لترجمة إلياس بديوي (1932 ـ 1997) للأجزاء الخمسة الأولى من هذه السباعية. وكان بديوي، الذي رحل قبل أن يتم ترجمة السباعية، يجيد اليونانية واللاتينية. والحق أن جمال شحيد ككاتب وناقد وأكاديمي ومترجم ـ ترجم إلى الفرنسية رواية لجبرا إبراهيم جبرا، ورواية لحنان الشيخ ـ هو مساهم بامتياز منذ نصف قرن في خلق جو تنويري وحداثي، وشعاره أن المواطنة الصحيحة يجب أن تترسخ على العقلانية والحوار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.