}
عروض

"مدائن معلقة": حوارية الأجناس وتجربة السفر

ليندا نصار

20 يوليه 2023


كيف يمكن أن نتحدث عن إبداعية تروم تحطيم التصورات الجاهزة للكتابة من داخل ضوابط وقوانين الأجناس الأدبية وغيرها ما دام الأمر يتعلق بتجربة السفر كما عاشها الكاتب وهو يتنقل بنا في الفضاءات والمشاهدات كأنه يلتقط لنا حكايات معه ومع تفاصيل العبور إلى الضفاف التي جعلت من نصه نصًا مفتوحًا على العالم وعلى الإنسان بمعظم ثقافاته وهوياته وأنساقه المعيشية؟ ربما يمكن القول هنا إن "مدائن معلقة" لياسين عدنان روح جديدة في الكتابة الإبداعية التي تتخلص من ثقل القواعد وتؤسس لمقاربة جديدة في محكي السفر من خلال رحلته واتصاله بالمدن ووصفها وسرد الأحداث بأسلوب شعري.

ويعدّ كتاب "مدائن معلقة... تدوينات العابر" للشاعر والأديب ياسين عدنان، الصادر حديثًا عن منشورات باب الحكمة بتطوان المغربية، امتدادًا طبيعيًا وجنينيًا لتجربة الكتابة الشعرية في "دفتر العابر" الذي استثمر فيه مكون الرحلة في بناء شكله الخاص، ونجح على نحو شعري مخصص لنقل تفاصيل العابر داخل الأمكنة والفضاءات المرتحل إليها والتي تتحدث بهويات متعددة أسهمت فيها سردية السيرة في بناء شعرية لا تقف عند حدود المشاهدات المرئية وإنما عملت على دمج الإحساسات والمفارقات عبر التفاعل بين الرحلة والسيرة، من حيث قوة الرؤية التي كان يصدر عنها ياسين عدنان وفق فلسفة خاصة في القبض على الغامض والملتبس واللماح للمناطق التي زارها فوثّق لتجربته وعلاقته بالأمكنة والذاكرة التي تتركها. ولم يكتف ياسين عدنان بجمع الذكريات كمن يراكم تجاربه، بل استغل الفرصة ليقدّم للقارئ مادة ثرية من حيث تناول الوجه الآخر للمدن بصورتها الاجتماعية والثقافية والتشكيل المعماري، وخصّ جمالها، فجاء الكتاب أشبه بما يكون بقبعة ساحر يحكي عن المكان ويتوسل شعرية الوصف لإظهار التفاصيل التي لا تخطر على بال أي أحد منا وهو يواجه المكان نفسه بالروح نفسها. 

شاعرية السرد الرحلي 

شكّل هذا الامتداد من الشعري إلى السردي تجديدًا وحداثة، إذ ينتبه القارئ إلى حوارية الأجناس بصورة تتماهى فيها مع قوة الكتابة عن السفر وتدفقات الصورة المشهدية ودمج الروح الشاعرية لياسين عدنان بحركية الرحلة حيث أطلق العنان لفكره وقلمه ليلج في صميم حضارات المدن وموسيقاها وعاداتها ومعاملة أهلها... كما تجلّت شاعرية المدن المعلقة في السردية المخاتلة التي تتناسل حسب وضعية النظر والتي يطل منها الكاتب فيدعو القارئ إلى التفاعل مع المكان وحيّز الأجسام التي تبقى حاضرة بالرغم من غيابها؛ لهذا تتحول الكتابة عنده إلى رغبة ملحة من أجل تصوير تفاصيل العبور وتدوين الحكايات التي يشترك فيها الفرد والجماعة بحيث تبدو الشخصيات بأطباعها وحركتها وهي تتفاعل مع بعضها البعض ومع الأمكنة. إننا إذًا أمام صور تتفاعل فيها الذات مع العالم لتشكّل النقطة الأساس في الحدث.

حيوات تبتكرها الذاكرة

يبتكر ياسين عدنان حيوات تبنى فيها الذاكرة التي تغلب النسيان من خلال توظيف الاستعارات والمجازات تظهر انشغالاته الجمالية والهمّ الكتابي الذي يخصص له مساحة، فيبرز المغرب بثقافته وأمكنته وتاريخ المدن وطبيعته من هنا تكتسب نصوصه طابعًا ثقافيًّا متخذًا وضعية الرائي فتشتغل الحواس ليصوّر بعدسة المراقب الأمكنة والشخصيات، وتبدو الأنا بموقع الموثّق فيلتقط الأحداث الدقيقة.

في رحلته إلى بيروت في مهرجان بيروت 39 احتفالًا باختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب في 2009 تناول ياسين مقاهي الحمرا وحاناتها والكورنيش، ويعتبر أنها نَحَت منحى خاصًا على امتداد أربعة أيام بفعاليات ثقافية حيث منح الشعراء أسلوبًا تجديديًا في التحرك، كما يذكر الشاعر توزعهم في الجامعات والساحات والمكتبات والمسارح... ويتوسّع في أسئلة الجمهور وتفاعلهم.

أما في الدوحة فيتبدّى لنا حرص الكاتب على الاستفادة من كل لحظة وعنايته بالشأن الثقافي.

ففي رحلة الترانزيت، قرّر المرور بمعرض الكتاب حيث كان له لقاء بالأصدقاء وكان الاستقبال جميلًا وحافلًا.

في طنجة يستعيد ذكرى محمد شكري وينهج العبور على نهجه ويصف نهارات طنجة ومناخها وانشغاله بفتنة المدينة. ينتقل إلى القاهرة في مكان آخر من الكتاب حيث كان المهرجان الشعري فيتحدّث عن افتتاحية أحمد عبد المعطي حجازي ويصف ميدان التحرير والثوار المناضلين في تلك المرحلة.

مشقات السفر والتنقل في رحلة زار فيها أميركا، نيويورك، يصف جلسة المطارات والتنقل من مطار إلى آخر والترانزيت والجولات في تلك المدن، حيث كان العربي الوحيد في فيرمونت التي تعد أكبر تجمع للأدباء والفنانين في العالم.

الإبداع والحدود الأجناسية 

إن هذه الحالة الإبداعية التي تسكن الشاعر جرّدته من الاهتمام بالحدود الأجناسية في نوع من الحرية الإبداعية التي لا تقف عند تجربة واحدة بل يمكن أن تعدّ تجربة شاملة تضمّ اليومي والتاريخي يحضر معهما التخييل والتصوير الذي لا يعدّ مبتذلًا، إذ اعتمد الكاتب على تضمينه للنصوص بخفة لتحقيق الشروط الجمالية باتزان، والإفادة من الموروث للمدن ومحاورة التاريخ والذاكرة المرجعية والمعرفية بحضور الحوار أحيانًا والوجه الثقافي والوجه الحياتي لها.

فننتبه إلى أنّ الشاعر ينتقل لتتوسط قصيدته الأمكنة ويتكون المكان من داخل القصيدة في ذكرى العودة اليه. فدفتر العابر سفر القصيدة في الأمكنة وتشَكّل انطباعات الشاعر حول الشخصية والمكان والدور الذي تؤديه مكوّنة من عاداتها وتقاليدها وثقافتها إنها الرحلة الحقيقية التي تضاف اليها الاستعارات بحيث تتجلى الرحلة في نصوصه بآفاقها الجمالية. 

حضور الذات الشاعرة

يبدو سؤال الذاكرة من خلال الحكي حيث تعبر الأنا الشاعرة الأماكن وتسرد الأحداث، مستوحية من الحوارات مع الشخصيات، تضاف إليها تفاصيل لا تنتمي فقط إلى الشعر وانفتاحه وإلغاء الحدود الأجناسية بينه وبين الرحلة بل أيضًا تستعير القصيدة من ذاكرة المكان ما يوحي إليها بالطابع الشعري.

هذا العبور الذي سبق أن شكّل عنوان ديوان "دفتر العابر" ينتظم في مسيرة ترتبط بعمر الإنسان وتحاصر الزمن فيه. تتحرك هذه الأنا أو الذات الشاعرة لتترك انطباعات مستمدة من منظوراتها للتعريف بالأمكنة وثقافتها وهنا برزت المفارقة بين الواقع والمتخيل.

في هذا الكتاب يمكننا الاعتبار ختامًا أنّ ياسين عدنان يضعنا أمام الماضي المتجدد والممتد إلى حاضر عابر للحدود وسط فضاءات مفتوحة على الشعر والأدب. وقد رصد المثقفين ودورهم في إثراء المشهد الثقافي ودخلت الأنا في عمق المشهد لتوثقه في المجتمعات والحضارات حيث راح يكتب تاريخ المدن من خلال السردي والمعرفي ومن خلال تجاربه وتفاعله ولقاءاته برموز ثقافية من الأدباء والمبدعين بالإضافة إلى جمهور الأدب والقرّاء الذين لطالما يشكّل رأيهم دعمًا وأساسًا للمسيرة الإبداعية والأدبية.
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.