}
عروض

"على ساق واحدة: سير معرفية": أسئلة في الفن والمعرفة

مها العتوم

21 يوليه 2023


تقدم لانا المجالي في كتابها "على ساق واحدة: سير معرفية" (دار لوسيل للنشر، 2018) كتابًا من طراز خاص، يتكون من مجموعة مقالات ثقافية وإبداعية ونقدية منشورة في مجلات وصحف ومواقع ثقافية، تجمع بين المعرفة والمتعة، والإقناع، لا تخرج منه إلا ممتلئًا وممتلئة بشعر وبنثر وبمعارف وبأشخاص وبحيوات عديدة. دافئ كأنه سيرة ذاتية جوانية شعرية وفنية، وبارد كأنه يراكم المقولات والأفكار والقضايا الإشكالية المختلفة، فيفكك ويحلل ويركب، هو يفعل كل هذا في الوقت ذاته. تختار المجالي الموضوع، وتحشد الكتب والأفكار والأدلة والأفلام والقصائد والروايات والقصص والأفلام واللوحات في سبيل إثبات فكرة أو نقض أخرى.
اختارت الكاتبة تعريفه بأنه سير معرفية، لتؤكد على أن الكتاب سيرة بما في السيرة من دفء وصدق وإبداع، وهو سيرة معرفية لأنه سيرة الأشياء والأفكار والمفاهيم، وهي مفاهيم مركزية في الشعر خصوصًا، وفي حقول الإبداع المختلفة عمومًا، فهي تحلل وتناقش وتفكر من خلال الشعر والأدب، وتنتقل فجأة من الفكرة إلى النص، ومن القضية إلى المقولة، ومن الإثبات إلى النقض، لأن الكتاب ليس إبداعيًا محضًا، ولا نقديًا محضًا، ولكنه نقد إبداعي، وإبداع نقدي يجمع فكر الكاتبة وإبداعها إلى ما في العالم من نظريات وأفكار ورؤى وإبداع فني وأدبي.
ولعل الشعر حاضر في الكتاب بقوة كأنه الخيط الذي يلضم حبات الأنواع الإبداعية الأخرى، وهذه السير المعرفية هي سيرة الشعر، أو سيرة مكونات القصيدة، بشكل أو بآخر، التي لا تنفصل عن كل ما في العالم، من إبداع وعلم ومعارف متنوعة، فهي تقلب هذه المكونات على وجوهها المختلفة، لتخرج آخر الأمر بشيء من الشعر، وبشيء من النقد. فمفهوم الفراغ الذي تبدأ به الكتاب هو مفهوم واسع ومفتوح على العلوم والمعارف والفنون، وتأتي له بتعريفات مختلفة من الفيزياء والموسيقى والشعر والرسم والميثولوجيا، حتى تنتهي كما بدأت بالخلاصات الشعرية ـ إذا صح القول ـ التي تتوصل إليها من كل ما قرأت وحللت واستنتجت في شكل توقيعات وتعريفات مكثفة وموجزة، وكأنها النص الذي تتوصل إليه، وكأنه محور البحث الفني والمعرفي لدى الكاتبة، تقول في بداية المقالة: الكتابة جريمة اغتيال كاملة للفراغ، الفراغ صمت مكتنز بالكلام. الامتلاء فائض ثرثرة (ص 11).
وتنهي المقالة بقولها: الفراغ فضاء يتسع للتأويل والطيران "إن بين الأرض والسماء، يا هوراشيو، أمورًا أكثر بكثير مما تحلم به فلسفتك"، كما قال شكسبير في "هاملت". أو ـ كما أقول ـ أطلقوا للفراغ فيكم العنان (ص 17).
فالشاعرة في هذا المكان، كما في سواه، تتحايل على الكاتبة والناقدة، وتوظف ما تعرف وما تقرأ، وما تحلل، في خدمة النص الأصلي، والمكون الأصلي للانا المجالي وهو الكاتبة والمبدعة، وذلك في سبيل تقديم المحور الأصلي للكتاب، وهو تشريح وتحليل وتفكيك وتركيب مكونات القصيدة المختلفة خصوصًا، والفن عمومًا.
ويمكن القياس على ذلك والتمثيل عليه في المقالات جميعها، لكن المقالات لا تتشابه، والكاتبة لا تكرر نفسها، وفي كل مرة وكل مقالة تطرح مكونًا جديدًا، ومفهوما جديدًا وتلاحقه فيما تتوصل إليه من معارف وفنون، وتقدم خلاصاتها الفكرية والفنية حوله. والأهم من ذلك أنك في كل مرة تلمس وتشعر وتذوق شخصية الكاتبة والشاعرة المميزة والمختلفة، والتي تمتلك رؤيا خاصة بها، ووجهة نظر تختلف عن السائد والجاهز والمألوف في المرايا المختلفة للقضية التي تطرحها، والتي تجد في الشعر حلها الأخير، وذروة التعريف والرأي والخلاصة تجدها في الفن الذي تنطلق منه الكاتبة، وتدور في إطاره. على الرغم من تماسها المباشر وغير المباشر بالفنون الأخرى.




في معنى الزمان، تقول: "لا يمكن أن نتناول الزمان، من دون أن نعرّج على مقصلته: الانتظار"، وتطرح الأمثلة التي تطوف العالم والشعر والنثر والفن، من مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، إلى الشاعر أمجد ناصر، إلى بينلوبي زوجة ملك إيثاكا أوديسيوس، إلى الشاعرة بشرى البشوات، إليها نفسها، الشاعرة والمبدعة حين تقول في إحدى نصوصها: "عندما كنتُ حديقة": "كان لي سور طويل، أطول بكثير من نخلة، ولا ينحني ظهره عندما يدخل رحابة الله، حيث لا أستطيع الوصول إليك". فكل النصوص التي أوردتها تدور حول مفهوم الزمان، وتعاينه من زاوية معينة تبتعد وتقترب من مفهوم كل مبدع، أو مبدعة، شرقًا وغربًا، عربًا وأجانب، من المسرح إلى الشعر إلى الفنون المختلفة. وهذا الربط النقدي إنما يجعل الفنون على اختلاف أجناسها تدور حول المفهوم الواحد بطرائق مختلفة، ولكنها تصب جميعها في محيط الفن الواسع ذاته.
في هذا الكتاب، تجد شعراء وشاعرات وكتابَ قصة ورواية، من الأحياء ومن الأموات، وكاتبات، وموسيقيين ومسرحيين، وعلماء في تخصصات مختلفة، وشخصيات حقيقية ومتخيلة ممن تلتصق الكاتبة بنصوصهم وبهم، وتؤثث بهم كتابها ومقالاتها وحياتها. وبسبب التنوع في الشخصيات والمواضيع تشعر أن الوجود واحد على الرغم من اختلاف المشارب والمنابع من جهة، واختلاف المصبات من جهة أخرى. إن هذا الكتاب يشبه أن يكون نص الحياة، أو أن يكون نصًا طويلًا عن الحب وفي الحب، بمقدار ما يلتصق الشعر والفن عمومًا بالحب. وهو نص الكاتبة وعالمها الحقيقي والمجازي، ومما لا يُنتهى منه إلى غاية كما قال يونس ابن حبيب: "الشعر كالحب والسراء والجمال، لا يُنتهى منه إلى غاية"، ولذلك ستبدأون بقراءة المقالة، بل المقالات، ولن تريدوا أن تنتهي، إذ يصلح أن يكون هذا الكتاب نصًا إبداعيًا مطولًا، بمقدار ما هو نص نقدي طويل للحياة ومكوناتها المختلفة، وما يواجه الإنسانة والمرأة على وجه الخصوص من مفارقات وأسئلة، ويبدو أيضًا كما لو كان محاولة للإجابة، أو عدة محاولات للإجابة عبر طرح عدد من الأسئلة، وتفتق الأسئلة عن مزيد من الأسئلة: ما الشعر؟ وما الكلام وما الكتابة؟ وما الفراغ، وما الزمن؟ وما الوقت؟ وما الحب؟ وما الصداقة؟ وما الانتظار؟ وما الأمومة؟ وما الإنسان؟ وما الأرق؟ وما الموسيقى؟ وما اللوحة؟ وما الصورة؟ وما اللذة؟ وما الكاتب وما آخره؟ وما الحياة وما الموت؟ وما المرأة وما الرجل؟ وما الشعر وما القصة؟ كلها أسئلة مشروعة وأساسية في الفن وفي المعرفة. وأن تحسن الكاتبة الانتقال من زاوية إلى أخرى من دون أن تمس عناصر التشويق والإثارة والمتعة، التي لا تجعل من المعرفة ثقلًا، ولا من الفن خفة. وأن تحسن الجمع بينهما في نص واحد، مما يجعل النص الصلب واقفًا متزنًا على ساق واحدة، لا يتعب ولا يسقط، ولا يخرج عن طوع صاحبته وإمساكها بزمامه.
تقول في نص بعنوان: (فراشة "شوانغ سو" ولغة "بورخيس" المنسية): "يتقمص المبدع في الكتابة مشاعر شخصية يتحدث بلسانها، وتأخذه الحالة إلى مكان لا يعود يدرك فيه المسافة التي تفصله عنها، وقد يتوه الرسام داخل لوحته، أو يسافر الموسيقي على متن أحلامه. هذه الحالة التي يمر بها الحالم أيضًا عبر عنها الشاعر الصيني "شوانغ سو" بشكل طريف وهو يصف واقعية أحلامه، قائلًا: "حلمت في الليلة الفائتة أنني كنت فراشة، والآن لم أعد أدري إذا كنت رجلًا قد أبصر حلمًا رأى نفسه فيه فراشة، أم أنني فراشة ربما كانت تحلم الآن بأنها رجل".
"على ساق واحدة"، أحد الكتب العربية الذي يجعلك تتذكره، وينقلك من حالة إلى أخرى، ومن مزاج إلى آخر، ويقدم لك كل شيء في طبق واحد، وعلى مائدة واحدة، من دون أن ينال منك التعب في التنقل من صحن إلى آخر، ومن نوع إلى سواه، في بوفيه المعرفة والفن المفتوح على آخره اليوم، خاصة أن الأنواع على اختلافها متآلفة، وقابلة للابتلاع والهضم، بل إنها قد تحفز القارئ على إعادة إنتاج الأفكار والرؤى، وتفتح شهية القارئ المبدع على الإبداع، وعلى الاستمتاع بالدرجة ذاتها. ويصلح أن يكون اتجاهًا جديدًا في الإبداع، كما في النقد.
وأخيرًا، فإنه عالم لانا المجالي في سيرها المعرفية، التي تتسم بالرشاقة والصلابة، ولذلك لم تقف على قدميّ المعرفة الثابتتين، كما يحدث في كتب النقد الجافة، ولم تحلق في فضاء الكتابة الأثيري، كما يحدث في نصوص الشعر والقصة والرواية والرسم، وإنما اختارت الوقوف على ساق واحدة بخفة الفن وبصلابة المعرفة في الوقت ذاته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.