ماذا يعني القول الشِّعري بعد بلوغه آخرَ آفاقه، أي بعد أن يستنفدَ الشَّاعرُ إمكانيّات اللغة التي يكتب بها، ويذهب بأفكاره ومشاعره وتأملاته إلى أبعد الأقاصي؟ أَيمكن هنا أن ننتظر من الشَّاعر تفسيرًا لمعنى وجودنا في هذا العالم، أو نكتفي بوصفٍ يقدّمه للمسرحيّة الكونيّة الكبرى التي تتقافز فيها الموجودات الإنسانيّة مثل دمى محشوّة بالقشّ إلى أن تصل إلى نهاياتها المحتومة؟ أَنذهبُ إلى أبعد من ذلك من أجل التساؤل عن جدوى قبولنا بالصياغات اللغويّة العالية، أو الصوّر التركيبيّة الخلّاقة، أو فنّ توجيه اللغة نحو ذاتها، لتكوين عوالم شعريّة تنبع من مُخيّلة قادرة على توظيف الألفاظ والمعاني على نحوٍ مولِّدٍ لانطباعات خادعة عند المُتلقّي لا علاقة لها بالحقيقة الواقعيّة؟ ثم كيف لنا أن نقبل بأنَّ الشِّعر قادر على تقديم معرفة موضوعيّة يمكن أن تكشف لنا جانبًا، أو جوانبَ، من حقيقة الوجود، وهو قائم، أصلًا، على تلاعب بارع بتراكيب الألفاظ لتقديم دلالات ناتجة عن علاقات مصطنعة بين الأفعال والأدوات والأسماء داخل اللغة؟ أخيرًا، أَتبطُلُ هذه التساؤلات كلّها بترجيح أن يكون النصّ الشِّعريِّ الأصيل ذا معرفة كاشفة للواقع الموضوعيّ من دون أن نكون قادرين على تقديم تفسير منطقيّ، أو علميّ، لطبيعة المعرفة الشِّعريّة؟
أثارت قراءة ديوان أسامة إسبر "شمس مستعجلة" المنشور في سلسلة تحوّلات، والصادر عن المركز العربيّ للصحافة في القاهرة في مايو/ أيار 2023، كثيرًا من التساؤلات في ذهني؛ ذلك أنني وجدت نفسيّ بإزاء نصٍّ يمتاز بخصيصة مهمة، وهي أنَّ الخطاب الشِّعريّ الذي يؤلِّفه هذا النصّ يهدف إلى توجيه صدمات معرفيّة متتالية إلى القارئ، أو بالأحرى نكتشف في هذا الخطاب نوعًا من الغزو الفكريّ المستمر لكلّ ما يمكن أن يركن إليه الإنسان من أجل الاطمئنان لطُرق تفكيره وأساليب حياته. وتوجِّه قصائد هذا الدّيوان نزعة تشاؤميّة تدلّ على أنَّ هذا الشَّاعر أصبح شاهدًا على الخراب النهائيّ، ونذيرًا باقتراب حدوثه.
إذًا، نحن هنا في إزاء مضامين فكريّة محدّدة تنقلها اللغة الشِّعريّة؛ لذلك ليست الأولويّة للجماليّات التي تنسجها الصياغات اللغويّة للقصائد؛ بل الأولويّة للمعرفة التي تقدّمها وتغيّر نظرتنا إلى الأشياء، فلم تعدْ مهمة الشِّعر هنا هي تزيين اللغة بجعلها سبيلًا لإعادة خلق نفسها، على نحوٍ مجذوذ الصّلة بالعالم الخارجيّ.
يجب هنا أن نحدِّد ماهيّة القصيدة بناءً على النُّقلة التي تُحْدثها في وعي القارئ، غير أنَّ القارئ مُكتنف في الوجود الإنسانيّ الذي تتلاشى حقيقته وتضيع في غور مرعب، ويدخل في أنفاق متلَفِّعة بالظلام، ويتشظّى في شخصيات متناقضة إلى أبعد الأمداء. وتتجلّى هذه الشخصيات في مبدعين ومتصوِّفين ومجرمين ولصوص وسفّاحين وفقراء على نحوٍ لا نهاية له، فَمَن هو القارئ للقصيدة من بين كلّ هؤلاء؟
لا بدّ هنا من توجيه سؤال مفاده: مَنْ هو قارئ الشِّعر المُفترض في نظر الشَّاعر؟ هنا نكتشف مباشرةً أنَّ القرّاء الحقيقيين للشِّعر أكثر ندرة من الشِّعراء أنفسهم؛ لأنَّ مهمة القارئ الحقيقيّ هي القبض على ماهيّة المعرفة التي ينضوي عليها الخطاب الشِّعريّ من أجل إحداث نُقلة في الوعي، وإلا لذهبَ جهد الشّعراء هباءً وقبض ريح، وكان الوصول إلى المتعة الفنيّة هو آخر غايات الشِّعر! إذ ينبغي في هذا السِّياق أن نميِّز بين رسالة المتعة الفنيّة التي يؤديها الخطاب الشِّعريّ وبين الرسالة المعرفيّة التي يحملها هذا الخطاب عينه في تضاعيفه؛ ولذلك ليست مهمة الشِّعر تحقيق الالتذاذ، أو الإحساس، أو التمتّع بجمالية الصوّر التي تثيرها التراكيب اللفظيّة الموزونة، أو الحرّة؛ بل مهمته الأصيلة هي تقديم معرفة كاشفة لظُلمات العالم، ليس من أجل وضع معيار للخروج منها، بل من أجل إيضاح الحقيقة، فمهمة القول الشِّعريّ هي الإيضاح، لا العناية بصياغات لغويّة تزيد من الاستغراق في الضَّلال.
تنبع أهميّة عمل أسامة إسبر من كونه يؤدّي مهمة معرفيّة إيضاحيّة في قوله الشِّعريّ، ولا يُعنى ِبسِيَاقَةِ القرّاء إلى نسيج من التراكيب اللفظيّة التي لا يوجد وراءها أيّ إمكانيّة لتحفيز الوعي نحو الخروج من أفقه الراهن نحو آفاق مستقبليّة.
يقول: "(...) ربّما إذا صلّيتَ/ ستقعُ في شَرَكِ ركعتك./ (...) ربّما ستعيشُ على الهامش ظانًّا أنّك في المركز./ (..) ربّما سيواصل جرحك نزفه/ ولن يندمل./ (...)/ ربّما ستتحوّل حياتك إلى أرقام تفتح بها أبواب نفسك وتغلقها./ (...) ربّما ليس أمامك إلا بحر من الظلمات/ ربّما ليس خلفك إلا السَّراب./ (...) ربّما أنت تولد كي تموت فقط/ (...) ربّما ستظلّ في المدينة نفسها/ جالسًا في البار نفسه/ تكرّر القصةَ نفسها/ لمن لا يصغي إليك/ (...) ربّما ستواصل الجري عبر الحدود/ ولن تعثر على أيّ بلد" (قصيدة: الجري عبر الحدود، ص: 8 ـ 18).
يمتاز هذا النمط من القول الشِّعريّ بأنّه نازع للحُجب التي تَحُولُ دون رؤية المشهد الحقيقيّ، أي أنّه يسهم في انتشال القارئ من مستنقع أوهامه، أو من اقتناعه بكينونته. نجد هنا تقويضًا لِمَا يُعَدّ مسارَ حياةٍ طبيعيّةٍ للنّاس كافّةً، حيث يعيشونها وينغمسون فيها، ويستغرقون في نهب ملذّاتها، ويعانون من مرارات آلامها؛ لكن ما يعنينا هنا أنَّ هذا الضَّرب من المعرفة الشِّعريّة لا يصدر عن موقف الحكيم، ولا صاحب النبوءة، ولا المُربّي؛ بل يصدر عن إنسان يخضع هو نفسه لقوله الشِّعريّ؛ بل بالأحرى يمكن أن يكون، أصلًا، قد وجّهه، يائسًا، إلى نفسه.
تقوم التّجربة الشِّعريّة الأصيلة على فهم حقيقة مأساة الوجود الإنسانيّ في العالم، وقد تكون هذه المأساة مستورة غير ظاهرة، إذ نجد حيوات مُدمَّرة لا نهاية لها لأُناس يتوهّمون ـ وهم يحترقون ـ أنّهم يرفلون في نُعْمَيَاتٍ لا حدود لها. من هنا يأتي القول الشِّعريّ ليقتلع الإنسان من عوالمه الموهومة من دون أن يعطيه أيّ عوالم بديلة!
ولا يمكن للتّجربة الشِّعريّة أن تكون أصيلة إلا إذا قامت على فهم عميق شامل لماهيّة اللغة، فالشَّاعر يحوِّل الكلمات الموجودة في اللغة إلى شِعر، ولن يكون هذا التَّحويل ممكنًا إلا على أساس نقل اللغة من مستوى إلى مستوى آخر مختلف تمامًا، ولكن هنا يجب التركيز على قضيّة ذات أهميّة عظيمة، وهي أنّه ليس كلّ تحويل للغة يُعدّ شعرًا، إذ نجد كثيرًا من المؤلّفات التي تُوصف بأنّها دواوين شِعريّة، وهي تقوم فعلًا على عمليّة تحويل للغة الخام إلى لغة مقروءة تحت صنف الكتابة الشِّعريّة؛ غير أنَّ ما يثير الانتباه في هذا الاتّجاه هو تساؤل يمكن صياغته وفق الآتي: أَيُعَدُّ الشَّاعر شاعرًا حقيقيًّا إذا استطاع استقطاب جمهور عريض له؟
إنَّ الشِّعر الحقيقيّ لا يبني جمهورًا، بل يَغرق في ليل العزلة القاتلة، ويُغْرِق معه قرَّاءَه، فلا يمكن أن يكون الشِّعر حاملًا لخطابٍ فكريٍّ عميق، ويكون في الوقت نفسه مقبولًا من عامّة النّاس؛ وهذا الكلام لا يعني ـ على الإطلاق ـ انتقاصًا من رأي الغالبيّة السَّاحقة من النّاس؛ بل يعني أنَّ الشِّعرَ الحقيقيَّ ضِدٌّ للذائقة العامّة، ولا يوجد أيّ معيار يدلّ على انحطاط الذّائقة العامّة، في مقابل الذائقة النخبويّة، فما هو شعبيّ وما هو نخبويّ، لا يوجد أي شيء قادر على تحديدهما، ولا على تصنيفهما؛ بيد أنَّ ما يمكن أن يكشفه جوهرُ الشِّعر هو قدرته على سبر المعاناة الدّاخليّة للإنسان ودفْعِهِ إلى تجاوزها؛ فكلّما كان الشِّعر قادرًا على تنمية القدرة على كشف حقيقة الواقع في مختلف أبعاده استطاع أن يكون شعرًا أصيلًا. وهذا يعني أنَّ استفادة القارئ من النصّ الشِّعريّ من أجل تغيير موقفه في العالم، ومن العالم، هي أمر نادر الحدوث، ولذلك قلنا: إنَّ الشِّعر الحقيقيّ ضدّ للذائقة العامّة، لأنَّ الجمهور يفهم وظيفة الشِّعر، بصفتها، "إمتاعًا ومؤانسة"، ولا يفهمها بصفتها خلقًا لنمط وعي جديد بالعالم، لأنَّ الوعي بالعالم تكوّن، تاريخيًّا، بالنسبة للأغلبيّة السَّاحقة من النّاس، في أُفق معارف تنبع من اللاهوت، أو الميتافيزيقا، أو الأيديولوجيا، أو العلم؛ لذلك لن يكون الشِّعر سببًا ـ عند الكثرة الكاثرة من البشر ـ لتغيير فهم العالم!
وعليه، يجب الانتباه إلى علاقة الشِّعر بالقضايا الفلسفيّة الكبرى، مثل: معنى الوجود، ومصيره، وأصله، وقيمة الحياة على هذه الأرض في أُفق موقوتيّة الإنسان وإلى ما هنالك، ذلك أنَّ هذه القضايا الأصيلة لم تعدْ موضوعًا للشِّعر؛ لأنَّ موضوعًا آخر حلَّ محلّها، وأعني به الجسد الحيّ في تحولاته وانعطافاته وتغيّراته؛ وهذا أدّى إلى ظاهرة خطيرة جدًّا، وهي أنَّ كثيرًا من الشُّعراء في عصرنا يميلون إلى بناء نصوصهم الشِّعريّة على أساس حالاتهم المِزاجيّة والنفسيّة والانفعاليّة، فيحوِّلون اللغة بعظمتها الهائلة إلى مرآة لهذه الحالات التي لا تحمل فيها ـ بوجه عامّ ـ أيّ أُفق يمكن الاتّجاه نحوه من أجل الاقتراب من الحقيقة الموضوعيّة، فطغيان سطوة الذاتيّة على الشِّعر الراهن جعلت الحقيقة الموضوعيّة مطموسةً تمامًا في الأعمال الشِّعريّة الراهنة. ونحن هنا نبحث عن تأسيس علاقة بين الشِّعر والحقيقة، ولا يجب أن تكون هذه العلاقة مباشرة؛ بل يجب أن تُبنى بطريقة رمزيّة، عن طريق الدّخول في حوار أنطولوجيّ عميق مع الأشياء في العالم، من أجل الإفصاح عنها داخل النصّ الشِّعري، بطريقة تدفعنا إلى إعادة النّظر في ماهيّة هذه الأشياء أنفسها في أُفق علاقتنا بها.
يقول إسبر: "هكذا تدخلُ وتخرجُ الرِّيح/ لا يلمحها أحد في صالات العزاء". (قصيدة حبق مفروك بيد الموت، ص: 21). ويقول: "أيُّتها الشجرةُ المنسيّةُ في قصّة هذا الجذع الذي رمته الأمواجُ/ ها أنذا أُعيد غرسك في هذا التّراب المهاجر في جسدي/ ولن أتأخّر عن سقايتك كلّ فجر/ سأسهر على أوراقك وثمارك/ وأحضن جذعك في نومي ويقظتي" (قصيدة موجة تعيد رسم المشهد، ص: 125).
يُعنى الشِّعر بما هو غير مُكْتَرثٍ به، ويؤسِّس نظرته للعالم على الهامشيّ والمنبوذ والمحجوب؛ أي إنّه يستحضر إلى الوجود ما يضيع ويتلاشى ويُنسى. ولن يكون الشَّاعر قادرًا على التأثير إلا إذا واجه الأصنام من مُخْتَلِف الأنواع، وسعى لتحطيمها بحماسة مشبوبة تدفعه نحو إحياء فكرة تجاوز الواقع من أجل القفز في هاوية المجهول.
غير أنَّ ما يجب قبوله، بصفته حقيقة لا تقبل الرّد، هو أنَّ الشِّعر ولو واجه أصنام العالم، وحقّق كشوفًا عظيمة، إلا أنَّ تأثيره المُفترض يبقى محدودًا، أي إنَّ فعَّاليته تقتصر على قلّة من الأشخاص، بمعنى أنَّ تأثير الشِّعر، وإن كان حاصلًا، إلا أنّه محدود، ولا يتعدّى أشخاصًا قلائلَ يهتمون بهذا النوع من الخطاب. وعليه، يجب على الشَّاعِر أن يفهم أنّه غير قادر على تغيير الواقع، ولا يمكن للشِّعر أن يكون سببًا في خلاص الإنسان. وهنا يمكن أن نفكِّر في جدوى الشِّعر، وما يمكن أن يقوم به الشُّعراء من أجل إضاءة ليل العالم، لنكتشف أنّه لا يمكن للشِّعر أن يبني العالم، وأقصى مساعي الشُّعراء هو مخاطبة أفراد محدودين جدًّا، من النّوع الإنسانيّ، وتغيير تفكيرهم؛ لكن قّلة أو ندرة المتأثِّرين على نحو حقيقيّ بالخطاب الشِّعريّ لا تلغي مهمة الشِّعر؛ بل تؤكِّدها.
والحقيقة أنَّ علاقة الشَّاعر بالجمهور فكرة يجب تجاوزها أو الابتعاد عنها، فالشَّاعِر الأصيل لا يحتاج إلى جمهور، بل يحتاج إلى مُؤول.
وهنا لا يمكن قبول فكرة أنَّ الشِّعر غير قابل لتأويل جوهريّ بذريعة أنّه مفتوح على تأويلات لا نهاية لها؛ لأنَّ هذا النّوع من الفهم لتأويل الشِّعر يقضي نهائيًّا على المعرفة الأصليّة التي يقدّمها النصّ الشِّعريّ، إذ كل مؤِول وضع تأويلًا من بين تأويلات متعدّدة للنصّ ـ مهما تباينت ثقافة المؤوِّلين ـ أصبح قادرًا على إقحام نمط من المعرفة يراه التعبير الأمثل عن منطوق النصّ الشِّعريّ. وبذا تضيع المهمة الحقيقيّة للشِّعر في تعدّد التأويلات واختلافها. كما يجب تمييز تأويل الشِّعر عن نقده، فالدّراسات النّقديّة لا تُسهم في كشف حقيقة المعرفة الشِّعريّة، وإنما تتجّه دائمًا نحو إرجاع النّص الشِّعريّ إلى أصول مدرسيّة وإخضاعه لمعايير تحتاج هي أنفسها إلى إعادة نظر!
تتجلّى مهمة الشِّعر في اختراق كثافة العالم، ودفع اللغة نحو أقاليم وجوديّة مظلمة فيه، فينشر الشِّعر على هذه الأقاليم شفوفًا يمكّن من بزوغ فهم جديد يلغي على نحوٍ تامّ الفهم السَّابق القائم على مبادئ المعرفة السَّائدة والمشتركة بين النّاس، ولن تكون اللغة مُشِفَّة إلا إذا كانت كاشفة، وقدرتها على الكشف نابعة من قوّة علاقتها مع الحقيقة الموضوعيّة، بنقلها كما هي في ذاتها، لكن بعد تقديمها في صور غير مألوفة، غير أنّها تثير الفكر بطريقة دافعة إلى تغيير النّظرة إلى العالم على أساس توحيد الذّات مع أكثر الأشياء هامشيّة.
يقول: كلَّ شتاء/ يتكوّم الماء في مدخل المبنى/ فينعكس فيه ظِلّي/ أثناء الدّخول والخروج/ وأشعر به يشدّني بيديه/ كي يغرقني معه./ (...) / صار الإسفلتُ جِلْدَ الأرض/ الإسمنت جلد السَّماء/ ومعدن الآلات جلد المسافة./ حين تأتي نسمة/ تتصفّى من عذوبتها/ وتأتي مطبوخة/ على نارهم./ تركتُ فجأةً كلَّ شيء/ وسافرتُ/ أو بالأحرى/ تركني كلّ شيء/ ورماني خارج المشهد/ لأنني لم أكن أملك شيئًا/ ولا أنتمي لشيء(...)/./ (...) / أوراق يجرفها السيل/ سقطت من أشجار/ على ضفة النّهر/ نجت ورقة/ وبفعل مصادفة/ ارتفعت فوق حجر وتمدّدت/ في هذه اللحظة/ انعكس شعاع/ على عروقها النّحيلة/ في توهّج تفتّحَ فيها كوردة/ كان الخريفُ يضمُّ الرّبيعَ ويعتذر (قصيدة لم أنتبه إلى الثقوب في صوتي، ص: 204 ـ 206).
نجد هنا عوالم غامضة للأشياء المهمَّشة والمنسيّة في العالم؛ لكن اللغة تكشف هذه العوالم ببراعة، وحينما تكشفها تكشفنا نحن أنفسنا، وتنقلنا من فكرة مركزيّة الإنسان، أي من كونه الموجود الأعلى في الوجود، إلى فكرة خضوعه لنظام كونيّ لا يمتاز فيه عن أيّ شيء آخر، أي إنَّ له حضورًا موقوتًا في هذا العالم، ولن توجد معرفة كاشفة لحقيقة هذا الوجود الموقوت أعظم من المعرفة الشِّعريّة. إذ إنَّ هنالك هاوية سحيقة بين الوعي الإنسانيّ والحقيقة الموضوعيّة، وليست مهمة الشِّعر العظيم سوى دفعنا للسقوط في هذه الهاوية.
*أكاديمي وباحث في الفلسفة.