}
عروض

"تحوّلات الانسان الذهبي": تجربة مغايرة لنبيل سليمان

محمود أبو حامد

11 أغسطس 2023

يؤكد الكاتب السوري نبيل سليمان، صاحب التجربة الطويلة والغزيرة، قدرته على تقديم الجديد والنوعي والمغاير لمسيرته الإبداعية، سردًا وبناء، شكلًا ومضمونًا، وذلك عبر روايته "تحوّلات الإنسان الذهبي" التي يضع فيها جلَّ تجلياته الإبداعية والنقدية، بحرفية وبراغماتية، كي يحقق، وبتحدٍ، هدفه في كتابة الجديد عن "الحمار"، رغم كل ما كُتب عنه من عام 125م حتى يومنا هذا، موزعًا صفحاتها الأربع مئة بفصولها الأربعة، بعناية مدروسة، على عناوين رئيسية وفرعية، كاسرًا الزمن التقليدي للسرد، وضابطًا المسارات المتعددة للرواية وهوامشها، بتقنيات بنائية وفنية دقيقة، مثبّتًا فيها نحو مئة وأربعة وثلاثين مرجعًا بارزًا، بالإضافة إلى ما تراكم في ذاكرته طيلة حياته من تجارب ومشاهدات تخص هذا الكائن "الجميل"، متكئًا على كل جوانب من حياة شخوصه المتعلقة به، ضمن سرد ووصف وحوار، وتبدل للروي والرواة... مسخرًا عددًا من الأجناس الأدبية وتنويعاتها، مانحًا للشخصيات استقلالها وتطورها وأصواتها، وللغة مستوياتها وتراكيبها الدلالية ورشاقتها الموحية.

الروائي/ الناقد
النظرة العامة للحمار الغائب الحاضر يعرفها الجميع بكل تناقضاتها، فهو كائن صبور وحكيم ومحايد، أليف ومظلوم وغبي، قوي وصامت وجميل وقبيح... إلخ. وكُتبت عنه مئات الكتب التي يمكن اعتمادها كمراجع، أو طرح الآراء السلبية والإيجابية عنها، أو عنه، في حوارات لشخوص رواية ما، بيئية كانت، أو علمية، أو أدبية... لكن أن يصدّق (كارم أسعد) بطل الرواية أنه "يحمور"، وكان حمارًا في الجيل السابق، ويتبنى حالة "التقمّص" هذه، ويتصالح معها ومع ذاته وأفكاره وكتاباته وخطاباته... من دون أن تتغير شخصيته، أو أسلوب حياته، كمسخ كافكا مثلًا، أو من دون أن يكون شخصية في رواية خيالية، أو ساخرة، أو تهكّمية، أو ضمن عمل مشغول بفنتازيا عالية جدًا، أو بواقعية سحرية خاصة، تعبر عن هذه الغرائبية... فكيف استطاع الروائي/ الناقد نبيل سليمان إضافة الجديد، وتقديم تجربة مغايرة؟ ليس روائيًا وحسب، بل للكاتب أيضًا.. وكيف تسنى له تحقيق ذلك؟
بدءًا من عنوان الرواية، "تحوّلات الإنسان الذهبي"، الصادرة عن دار "خطوط وظلال" في الأردن، والذي يذكّرنا برواية "تحوّلات الجحش الذهبي" للكاتب الأمازيغي الجزائري لوكيوس أبوليس، المكتوبة منذ تسعة عشر قرنًا، ومرورًا بصفحات الرواية وهوامشها، يتبادل (الكاتب والحمار) السرد والروي والبطولة، في بناء قد يبدو تقليديًا، حيث يكتب الروائي رواية داخلها رواية تكتبه. لكن ليس كل مغاير جديدًا، فقد يكون مغايرًا في تناوله وفي علاقاته مع المكونات والأبنية والأشكال الأخرى، وفي احتضانه لمادة معرفية ضخمة عن "الحمار" استطاع سليمان أن يفردها في أربعمئة صفحة، وفي بناء اتسع لمشاركة بطلها الكاتب كارم أسعد، وباقي الشخصيات، في تلك المادة، وتفاعلهم معها وقبولها، أو رفضها بتناقضاتها وإسقاطاتها على نواحي حياتهم الواقعية المعاشة، وأفكارهم الوجودية والفلسفية والدينية والروحية. كما منح لهذه المادة الحكائية زمنًا تخييليًا مفتوحًا، وأساليب سرد متنوعة، تمتزج فيه أجناس أدبية متعددة، كالرواية والحكاية والقصة والأسطورة والأخيولة والخاطرة، والرحلات والرسائل والقصائد والأفلام والأغاني... في حين تداخلت الأصوات وتعدد الروي وتباعدت الأمكنة وتتشتت أحداث الرواية في زمن واقعي متكسر، وعلى القارئ أن يسعى لجمعها مشكلًا حكاياته الخاصة.

تكسير الزمن
ربما يمكننا القول إن المشهدية، أو حركة وعلاقة الشخصيات بالأحداث التي يعيشونها ويصنعونها في زمن الرواية "الوقائعي" لا تشكل حاملًا يحتمل هذا الكم من المادة المعرفية عن الحمار، ولكن هل هذا يشكل دافعًا لتكسير هذا الزمن؟ أو تغييبه عن السياق التسلسلي لحياة الشخصيات وتعاقب أيامهم وأعمارهم... فالزمن في الرواية لا يحدده أي "تأريخ"، بل يشي به ذكر شخصيات حقيقية، مثل جمال عبد الناصر، أو ناديا لطفي، أو الطيب صالح، أو حوادث واقعية، مثل موت باسل الأسد، أو إصدارات مجلة ما مثل "المضحك المبكي"، أو أجواء فعالية ثقافية ما، مثل مهرجان أصيلة في المغرب... وعلى القارئ أن يستعيد الزمن المحدد لها، ضمن "روزنامة" حياة، امتدت بكل جوانبها في أمكنة بعينها، من خمسينيات القرن العشرين حتى الثورة السورية وتداعياتها... وبهذا يمكننا أن نقول مثلًا: إن حرب حزيران واستقالة عبد الناصر تشي بتاريخ 1967م، أي يكون البطل كارم أسعد في مرحلته الجامعية، ومن ثم وفاة جمال عبدالناصر، حيث كان حينها مدرسًا، ومن ثم كاتبًا ومحاضرًا، ومشاركًا في الدورة الثانية لمهرجان عبد السلام العجيلي للرواية، التي كانت في مدينة الرقّة السورية عام 2006م. فهل يمكن لقارئ لا يعرف تاريخ سورية مثلًا، أو غير مطلع على "سيرية" الكاتب سليمان، أن يقوم بهذا التقصّي بين تلك الأحداث التي شتتها الكاتب أصلًا بتوزيعه فصول الرواية الأربعة على كثير من العناوين الفرعية؟ وإن كان مصرًا على استخدام مفردة "زلزال" في عناوين ثلاثة من تلك الفصول، للتأكيد عليها، أو لانتزاعها من سياقات قديمة ووضعها في جديدة، فإن العناوين الفرعية التي ناهزت 383 عنوانًا، لم يأبه سليمان بطولها أو قصرها، أو أكانت تحمل اسم امرأة، أو حمار، أو مكان، أو أكانت كلمة، أو جملة من داخل النص، أو خارجه... ولم يكتف بهذه العناوين وحسب، بل قام بتقطيع المندرج تحتها بالأرقام والنجوم، مما يثير التساؤل: هل هذا التكسير للزمن الوقائعي تقتضيه علاقات الشخوص، أو الانتقال في الأمكنة، أو تبدلات في الروي، أو في مزاج الشخصية، كالهذيان أوالحلم؟ مع أن الروي قد يتبدل فجأة من دون تقطيع، كما في صفحة "37"، وقد يحدث تقطيع لمحتويات الصفحة من دون أية أسباب تذكر، كما في صفحة "158"، وقد يُحدث الترقيم قطعًا للزمن والحدث والحكاية كما في صفحة "291"..




ولولا أن الخط البياني لأعمار وتطور الشخصيات، لكدنا أن نقول: في إمكان القارئ أن يبدأ الرواية من أي صفحة يريد..!

صياغة الشخصيات
قد يكون فعل صاغ: (صاغ، يصوغ، صائغ.. صاغ الشيء: صنعه. الكلمة: أخرجها واشتقها على هيئة معلومة. المعدن: سبكه. الكلام: رتبه. الله: خلقه...) هو الأكثر تعبيرًا عن الكتابة والصناعة في آن، فالشخصية عنصر من الحكاية مصنوع من الكلام، والحديث عن الشخصيات الحقيقية يحتاج إلى ترتيب الكلام بحذر، خاصة في رواية "معرفية" يختلط فيها الحقيقي مع التخييلي والواقعي مع "الفنتازي"، حتى في الشخصيات...
يصوغ نبيل سليمان شخصياته بتأن ودراية، يبعدها عن "النموذجية"، يقربها من الواقع ويمنحها تلقائية في تفكيرها وحواراتها وعلاقاتها مع غيرها، وفي لغتها وأصواتها، واستقلالية في تطورها. لكنها تظل استقلالية نسبية، لأنه يقوّلها ما يريد "أنىّ" يشاء. فرغم تشتيته للزمن يستثمر الشخصيات في تداول وتبادل وتقديم الحكايات في كل أشكال البوح، العادية منها والرسمية، مذكرنا بكيفية تدويرها في "ألف ليلة وليلة"، فتكون ظريفة وتلقائية وممتعة أحيانًا، كما في حكايات كارم مع "تولاي"، ومملة وثقيلة أحيانًا أخرى، كما في محاضراته.
في الرواية شخصيات متنوعة المشارب والمرجعيات، أبناء قرى ومدن من دول عدة، كنيبالين، قرية البطل "كارم" في سورية، وأنطاكيا في تركية، وبريمن في ألمانية، وأصيلة في المغرب... رجال ومخاتير وفلاحون وعسكر وأساتذة جامعات وكتّاب ورؤساء وفنانون وممثلون ونساء عازبات ومطلقات وأرامل ومثليّات ومتعلمات وأميّات ومثقفات.
أستاذة الجامعة تولاي سيرجين، امرأة جميلة مثقفة متحررة، زوجة وأم بلا زوج، ليست أرملة وليست مطلقة، تجيد الفرنسية والإنكليزية، متعصبة لتركيّتها، تشكل في الرواية الشخصية الرئيسة الثانية؛ اشتغل الكاتب سليمان على هذه الشخصية بدقة وعناية، متكئًا على "علم النفس التحليلي" في سبر دواخلها ورصد تناقضاتها، وحالات اكتئابها وانطوائها، وحالات جنونها وغموضها. فهي مندفعة لرغباتها تارة، متمنعة تارة أخرى، لها صديقة مثلية تحبها، لكنها لا تبادلها الجنس، وفي الوقت ذاته ظلت مترددة في علاقتها مع كارم إلى ما قبل نهاية الرواية. وإضافة لتقبلها لشخصيته وأفكاره، تساهم مع (أصلان علي)، المعارض التركي السوري الأصل وزوجته (أسيل)، في توشيج علاقة صداقة تاريخية مع كارم، تتطور مع أحداث الرواية، وتشارك في نقل مادتها المعرفية.
وفي الرواية عدد من الشخصيات المتعالقة مع كارم الزميل والصديق كزميله في التعليم إياد شمّوحي، وصديقه في الثانوية الصناعية، غالي لبلابي، الذي صار أستاذًا جامعيًا، وسُجن لسنوات في سجون النظام السوري، وطرد من عمله، ومنصورة، زوجته المصرية، التي تشاركه في صداقة كارم، وفي النقاشات السياسية، وفي أفكار كارم الثقافية والدينية، وتكون شاهدة على اقتناع "غنوة" في التقمّص وانتقال روح "زلفى" حبيبة كارم لها. كما تصير صديقة لوزية، التي تقوم على خدمة كارم وتحبه من دون زواج، وتدفع ثمن ذلك استيلاء أخيها على بيتها والتنكيل بها.
يمنح سليمان لهذه الشخصيات المتنوعة أصواتها المتباينة، ضمن مستويات لغوية متفاوتة بين ما هو فكري وما هو سياسي، أو أيديولوجي، وبين أصحاب الشخصيات البسيطة، وأساتذة الجامعة، ويحاول أن يفرق بين الخطاب الأكاديمي في المحاضرات، والحوارات مع الكتّاب والمثقفين، وبين تبادل الأحاديث العادية في اليوميات... في حين لا تتضح الفروقات بين تلك المستويات في اللغة الخاصة بالترجمات عن الفرنسية، أو التركية. يرتقي سليمان بلغته الخاصة بالوصف، كوصفه لوالد كارم والمختار، ولحبيبته تولاي، وصديقتها إيسون. وتكون تلك اللغة بليغة وجزلة، موحية ورشيقة في تجلياتها بين الحالة النفسية لشخوص الرواية والطبيعة بجمالها وطقوسها وتبدلاتها.. ويستخدم سليمان أحيانًا الغريب من المفردات، والفصيح الذي قد يبدو عاميًا، مع تكراره الملحوظ للشمس والقمر.

الحمار/ البطل


إضافة إلى البناء الذي يمنح للرواية مساحات واسعة لفرد ما قام به نبيل سليمان من بحثٍ وتقصٍ لسنين عديدة عن الحمار، تلعب شخصية كارم أسعد، وله من اسمه نصيب، دورًا محوريًا في قول ما يريده الكاتب من جهة، وفي إضفاء منطقية على تقبل القارئ لغرائبية الفكرة من جهة ثانية، فتحول الإنسان إلى حمار، أو العكس، يحتاج إلى فنتازيا وتخييل، وبناء شخصيات مركبة ومقنعة تتبنى هذه الفكرة وتمنح للأحداث مصداقيتها، وخاصة إذا كان الكاتب/ البطل مصرًا على ألاّ يكون حماره قناعًا، أو وسيلة للتورية والمواربة أو السخرية أو التهكم. وهكذا الحمار/ البطل، يقتنع من والده أنه متحول عبر "التقمّص أو التجييل"، وليس عبر السحر، كما في رواية "تحولات الجحش الذهبي"، وليس عبر تحولات جسدية، أو حتى حسية عند بطل الرواية، كما في رواية "المسخ"، رغم أن هنالك بعض المؤشرات الحسية، كشعور كارم باستطالة أذنيه، أو مؤشرات عن تأثير علاقة الإنسان بالحمار، كتأثير حليب الحمير على البشرة مثلًا، أو غيرها من التداخلات والتخيّلات.




يكبر يحمور الطفل، ويصير الحمار/ الشاب المتحمس ليصبح أستاذًا، ومن ثم الكاتب المتخصص في المحاضرات "الحميرية". ولا يتوقف عليه نشر المعلومات في تبادل للروي، عن الحمار وعنه، في المحاضرات والمهرجانات والمقالات وحسب، فكارم الأشقر القصير صاحب العينيين الزرقاوين، وسمنة الأربعيني، له شبكة علاقات متنوعة مع زملاء وأصدقاء وصديقات وأساتذة وكتّاب وصحافيين ونساء... يحاورهم بهواجسه وقناعاته وأفكاره، عبر اللقاءات والحوارات وحتى المراسلات، ويصير حاملًا لمادة الرواية المعرفية حتى في تشابك تلك العلاقات.
علاقات كارم مع المرأة مميزة وثرية في الرواية، ورغم أنه لم يصادف امرأة قد "رفضته" طيلة الرواية، فأغلب تلك العلاقات لا يكتمل "مشمشها" أو تكون نهاياتها فاشلة، أو كئيبة، أو حتى مأساوية، كموت "زلفى"، وإجهاض "لوزية"؛ والمفارقة أن هذه النهايات تواكب تشكل نقاط انعطاف مركزية في حياة كارم، وفي الحياة الواقعية، كموت "أريام" مع موت جمال عبد الناصر، وإجهاض لوزية مع موت حافظ الأسد... وكما يحمّل الكاتب هذه النهايات للظروف الموضوعية العامة، يحمّل أيضًا المسؤولية لكارم وظروفه الذاتية، فتبنّي كارم لفكرة تحوّله، أو تقمّصه، لها تداعيات سلبية وايجابية على حياته الشخصية والفكرية، فإضافة إلى رفضه فكرة الزواج "لأنه حمار" كان لحياده الاجتماعي سلبيات تصل إلى الجبن والخوف والارتباك، في حين كانت لحياده السياسة نظرة ثاقبة، وموقف أثبت صحته بعد "الزلزال"، وكان لشخصية كارم المؤمن بالله ورسوله، المسالم والمحب لوطنه وشعبه، الأثر البليغ في موته، والبصمة الواضحة على جنون هذا الزلزال الذي (لا يعد بتغيير على المستوى السياسي وحسب، بل على مستوى الحياة والنظرة الى الوجود...). وربما المعايش لنبيل سليمان قد يلتقط وجود "سيرية" في هذه الشخصية، وباقي جوانب حياتها، وربما تكون السياسة الأكثر وضوحًا، لأنها جزء من تاريخ سورية الذي عايشه... لكن النواحي الاجتماعية والثقافية والدينية فيها كثير من التخييلي المتداخل مع الحقيقي إلى حد يربك القارئ ويشككه بالكثير من معلوماته وذكرياته، وخاصة في دمجه، أو اقحامه، لشخصيات حقيقية، أو استشهاده بها.
يقول كارم أسعد في الصفحة 309 لمخرج المسلسلات التلفزيونية أبي عمر: (عن أي حقوق تتحدث؟ أنت في بلاد العرب، ولست في أوروبا. عادة يكفي أن تذكر المصادر مع الشكر لأصحابها، الأحياء منهم والأموات.). إذًا، فالشخصيات الحقيقية التي تم ذكرها في الرواية، وفعلت وقالت، أو تم تقويلها لما يريد الروائي، عليها المطالبة بشكره، أو الثناء على ما كتب، أو الاحتجاج عليه. لكن الأموات منهم، إذا لم يكن لهم ورثة، كبطل الرواية، فحقهم في أوروبا، أو عند الله، وإذا كان لهم ورثة، فكيف لنا ولهم أن نعرف، بين الحقيقة والتخييل، صحة ما فعلوه أو ما قالوه؟

المسكوت عنه
ربما من ضروب "المسكوت عنه" في هذه الرواية تعامل الكاتب مع الشخصيات الحقيقية. ومع أنه لا يريد أن يكون وراء شخصية الحمار أي قناع، أو تورية، أو مواربة، أو سخرية، فقد كان في أحداث الرواية وبين سطورها كثير من التهكم والنقد اللاذع، والبراغماتية، وتناول مغاير لما يسمى كشف، أو نبش المستور. فقد منح سليمان للمسكوت عنه استخدامات جديدة، وإشارات وترميزات مغايرة، وليس في تحديد ما الذي يمكن السكوت عنه، وما الذي يمكن نبشه وحسب، بل في كيفية حدوث ذلك، وصياغة دلالاته وموارباته. فما الذي حطمه سليمان من "تابوهات"، وما الذي أعاد ستره من جديد، وما الذي حاول إلغاءها من حياتنا نهائيًا؟
على الصعيد الجغرافي، سمّى سليمان كل الأمكنة بمسمياتها، مبتعدًا كليًا عن تصنيف سكانها العرقي، أو الإثني، أو الديني، أو الطائفي. وفي تنقله بين قريته، "نيبالين"، واللاذقية والرقة وقرى العاصي وأنطاكية وإسطنبول، لم يذكر جملة "انسلاخ اللواء" أبدًا، رغم أنه أشار مرات عدة إلى أن هذه الأماكن امتداد لسورية، وقال إن بنات أنطاكية سوريات. كما تم سجن أصلان علي، صديق كارم أسعد، ثلاث سنوات، لأنه قال في المحكمة: أنا تركي من أصل سوري.
وامتدادًا للنواحي السياسية في الرواية، كسّر سليمان كل "التابوهات" المتعلقة بما يسمى الكتابة عن الراهن وانزلاقاتها، إذ تحدث في روايته، بكل وضوح وجرأة وبالتفصيل، عن الأوضاع والأحداث السياسية في سورية والوطن العربي، من خمسينيات القرن الماضي، وصولًا إلى الربيع العربي، ولم يبق للقارئ إلا أن يهتم بها، أو لا يهتم، يكون قريبًا من آراء بطل الرواية وتناقضاته، أو بعيدًا عنها، يتقاطع مع آراء صديقه اليساري غالي لبلابي، أو يعارضها، مقتنعًا بما انتهت إليه الرواية في توصيفها، أو تفنيدها للزلزال السوري، أو للثورة السورية، أو لا.
ومن الأمور اللافتة في الرواية رصد الكاتب لحالات وفاة عدد من القادة والرؤساء، كحافظ الأسد، والسادات، ورابين، وإن كان قد سكت عن ذكر أسباب الوفاة، أو ابتعد عن نقاشها، أو لم يؤرخ لها، لكنه قام بتدوين، أو "توثيق" أسماء أهم الرؤساء وكبار الشخصيات الذين حضروا الجنازات، أو شاركوا في العزاءات والمديح، وأسماء أهم الشعراء والكتّاب الذين فعلوا ذلك أيضًا، وقدموا أو أرسلوا المرثيات، أكان في وفاة باسل الأسد، أو والده. ولم تفت الكاتب علاقة الريف بالمدينة، وعلاقة الإقطاعيين بالنظام، وكيف يمكن للمختار في قرية كارم، مثلًا، أن يمتلك سلطة تخوّله توسيع أرضه على حساب الغابات العامة التي تملكها الدولة.
طرحُ الكاتب للقضايا الدينية جاء بتلقائية العارف، فمنها ما تمت الاشارة إليه بشكل عابر، ومنها ما كانت من نسيج المادة الحكائية، ومنها ما تم السكوت عنها نهائيًا. وقد يبدو للقارئ أن ثمة تهكّم، أو سخرية، في طرح فكرة "تحول الإنسان إلى حمار، أو العكس"، لكن الكاتب يؤكد على جدية هذا الطرح، ويدعم مفهوم "التقمّص" من خلال صياغته لشخصيتين في الرواية أيضًا، فالشابة "غنوة" مقتنعة تمامًا بانتقال روح "زلفى" حبيبة كارم أسعد لها، وعلى مسمع من منصورة زوجة صديقه غالي تتلو آيات من سور قرآنية وتفسرها تأييدًا للتقمص. وربما هنا يتساءل القارئ من جديد: إذا كانت الروح تنتقل من أنثى إلى أنثى، فهل تنتقل من أنثى إلى ذكر، أو من إنسان "ذكر" إلى حيوان؟

هوامش وتهميش
قد يبدو العنوان لغويًا، لكن الهامش في هذه الرواية يتقاطع ويتكامل ويتعارض ويتفاعل مع التهميش، كما يتفاعل مع المتن، والتهميش يتبادل الحضور والتغييب مع المسكوت عنه، وشريك في صياغة الشخصيات، وتكثيف أو اختصار السرد، أو حتى الرواية التي تحمل هذا الكم الكبير من المواد المعرفية والفعاليات الثقافية والاجتماعية والأحداث السياسية، مما يثير أسئلة لصاحب "مدارات الشرق" لماذا لم تأتِ هذه الرواية في عدة أجزاء، هل بوضعها الحالي غطت "السيرية" التي يريدها الكاتب، أم هي لعبة التهميش؟
يمكن للقارئ أن يتساءل عن تهميش الكاتب لجغرافية وديمغرافية الأمكنة، ففي الرواية، يذهب كارم أسعد من قريته نيبالين إلى اللاذقية، و"يطنّش" سليمان مدينة جبلة التابعة القرية لها، كما طنش كثير من المدن السورية الأخرى. وديمغرافيًا، يذكر مثلًا الأكراد واليزيديين، ويهمّش الباقي. وعلى الصعيد السياسي يتحدث عن الإخوان المسلمين والبعثيين، وينسى نهائيًا القوميين السوريين. وعلى الصعيد الاجتماعي، يتعامل بانتقائية مع المناسبات والعادات والتقاليد، ولكن في تهميش العائلات، أو الأفراد، في الرواية شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية، يساهم التهميش في سيطرة الكاتب على علاقاتها وتطورها، إذ مثلًا: في الوقت الذي يكون التهميش لعائلة كارم، يكون ذلك من صلب بناء شخصيته وتجرده من المرجعيات الدينية والعشائرية، كي يتوازى تفكيره بضمير الحمار مع حياديته، أو موضوعيته. وفي الرواية كثير من الأمثلة عن التهميش الفكري، أو الأيديولوجي، أو الديني، تتقاطع معها الهوامش أحيانًا، أو تفندها، أو تشير لها، كما في الصفحة 114، حين يتحدث الهامش عن "كواكب" أخت كارم أسعد.
يولي الكاتب، في هذه الرواية، لعتبة الهوامش اهتمامًا خاصًا، بل تساهم هذه العتبة في جعل هذه التجربة مغايرة، فإضافة إلى إشارتها إلى المراجع، التي ناهزت 134 مرجعًا، وشرحها ونقدها وتوثيق موادها المعرفية، تدّعم الهوامش بناء الرواية، وتدعم متنها بأن تكون جزءًا منه، أو تتقاطع معه حينًا، أو تكمله أو تعارضه أو تفنّده أحيانًا. وقد يكون الهامش تعقيبًا على رأي ما، أو تصحيحًا لخطأ أو اعتقاد، أو حتى لوهم ما، كما في هامش الصفحة 117: (سأكتشف بعد حين أن الكاتب هو ميخائيل نعيمة). وقد يكون الهامش توثيقًا لحدث ما، أو تعريفًا بمكان ما، أو بمعنى كلمة ما، أو بكتاب، أو جريدة، مثل "حمارة منيتي" في الصفحة 153. وقد يكون سيرة ذاتية لشخصية ما، أو نبذة عن قائد ما، كصلاح جديد في هامش الصفحة 182. هذا، ويكون الهامش رسالة اعتذار، أو نكتة، أو غزلًا، أو تداعيًا. ويأتي خاطرة وشذرة، شعرًا ونثرًا... حكاية وقصة، كما في الحكاية عن شخصية لوزية في هامش الصفحة 90.
يؤكد حجم وتنوع المصادر، التي رجع إليها الكاتب، من أقدم الكتب حتى موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كثافة الجهد والتقصي الذي قام به لاختياره ما يناسب روايته وفكرتها ومادتها المعرفية. ويثبّت تلك المراجع في نهاية كتابه، ويشير إلى هوامشه التي وصلت الى 93 هامشًا في أسفل صفحات الرواية.
بين المحاكاة والتخاطر والاقتباس والتناص. كيف للقارئ أن يعرف أن ذاك النص من مرجع ما، أو الذي يشير إليه هامش ما برقم ما، هو لصاحب المرجع، أو للروائي، أو لصاحب الهامش، في ظل غياب التنصيص بالأقواس، أو بالألوان، أو بخط مغاير؟ وهل كلمة "بتصرف" تكفي لإقناع القارئ، أو الناقد، بأن هذا النص صار جزءًا من المتن، ومن ملك صاحب الرواية؟

*كاتب وصحافي فلسطيني/ سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.