}
عروض

كتاب وعرض "مُعلّق": سيرة مدينة بصوتها وعيون سكانها

علي سفر

17 أغسطس 2023


البحث عن المحاولات الفنية والثقافية التجريبية في فضاءات مليئة بكوارث تهدد حياة الإنسان قد يبدو ترفًا فائضًا عن الحاجة، أو "فذلكة" غير مقبولة طالما أن الأولويات التي تفرضها الحرب تبدأ وتنتهي عند ضرورة الحفاظ على الحياة، والسعي صوب التخفيف من وطأة الجحيم اليومي!

لكن تاريخ الفنون يكشف أن كثيرًا من الظواهر الإبداعية اللافتة قد ولدت في رحم الحالات المأساوية التي عاشها البشر، كما يؤكد بأن الظرف الاستثنائي الذي يحفز الحواس باتجاه البحث عن سبل النجاة يدفعها أيضًا إلى رؤى مختلفة تنقلب في كادرها العناصر، فيخلق من توضعها الغرائبي صورًا مختلفة، غير معتادة، لكنها تنتمي إلى ذات الأرضية التي يقف عليها كل من صانع العمل ومتلقيه.

ضمن إطار تحرّي التجارب المختلفة التي تنهج هذا السبيل، يمكن إدراج محاولة دمشقية مختلفة حملت عنوان "مُعلّق" رأينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورها وفيلمًا مصورًا، وحصلنا على فرصة لقراءة نصها من خلال نشر موقع أبجد للكتاب الذي يحمل نفس الاسم، وهو نص مفتوح كتبته المهندسة المعمارية يارا سمير الحسواني ووضعت له عنوانًا فرعيًا هو "يوم في حياة مدينة"! وسيعرف القارئ بسرعة أن الكاتبة لم تبتعد عن اختصاصها العلمي في تدوينها لهذا النص ولكنها اختارت أن تضع قرية/ مدينة جرمانا في وقت ما أو أوقات شتى تحت عدستها بعد أن سكنتها وعايشت تفاصيلها، فحرضت عقلها وكلماتها لتذهب إلى إنشاء نصها وإطاره الذي تشكله العناصر البصرية السمعية الأخرى.

هنا وفي هذا المشروع تحصل قرية جرمانا على صوتها، بعد أن تحولت مع مرور الزمن وتتالي التحولات المجتمعية السورية إلى شبه مدينة، تتوفر فيها طاقة سكانية هائلة، مع بقاء نمط المعيشة عند الحدود الريفية، إذ لم ينتقل الفضاء في المكان نحو التكوين المديني التقليدي، ليس لعطب فيه، بل لسبب عام، فهو يتشكل في الوقت الذي تتراجع فيه مدينية المدن السورية التقليدية نفسها بحكم ترييف المدينة الذي أسهمت فيه سياسات حكومية لم تطور النواحي البعيدة بما يكفي لكي تحافظ على سكانه، ولم ترفع مستوى المدن إلى درجة تحولها إلى مراكز كبيرة تحتوي أدوات عمل تضمن حياة السكان وطرق حصولهم على سبل المعيشة.

يمكن في ضوء هذا الواقع المعتم جعل جرمانا مثالًا للتكوّن المشوه بصريًا، وهذا ملمح صار لاصقًا بالحاضرة السورية، لكن هذا سيغفل ويلغي قدرة السكان على صناعة الفضاء المعيشي الجيد، وهو ما أثبتت الأيام وجوده، في كافة الأوقات، فرغم أن البنى الأساسية للحياة من اقتصاد وخدمات لم ترتق كثيرًا وبقيت كما هي أحوالها في دمشق إلا أن الهجرة إلى هذا المكان لم تتوقف، وقد ارتفع معدل توسع المساحات السكنية فيها مع قدوم اللاجئين العراقيين منذ عام 2003 حيث سكن هؤلاء فيه، ونقلوا إليه جزءًا من ملامح معيشتهم، ما أدى إلى خروجه عن إطاره المحلي ليصبح الاسم معروفًا على المستوى الإقليمي والعربي.

"تكوينات"، من المعرض 


لكن السؤال الذي ما انفك يلح على زوار المكان وسكانه إنما كان يتعلق بهذا الجمع الغرائبي بين التشوه المعماري الذي صار قاعدة بحكم الانفلات من الأطر القانونية وسواد منطق المخالفات السكنية، وبين الفضاء شبه المنفتح على الآخر، والذي تنتعش في جنباته القدرة على العيش المطمئن رغم الظروف القاهرة التي عاشها وما زال يعيشها السوريون؟!

المغامرة في البحث عن أجوبة هي نوع من التجريب الحقيقي في ظل انغلاق الآفاق وارتفاع الركام الحياتي الذي أفرزته السنوات الماضية، لكن هذه الأسئلة لم تولد فقط في هذه السنوات بل إنها تعود لعقود خلت، وهي مطروحة ليس فقط على هذا المكان أو ذاك بل إنها تنتقل تلقائيا إلى المدن الأخرى والفضاءات المشابهة، لكن القدرة على صياغة السؤال ونبرته وإيقاعاته تحمل في ذاتها تدفقًا مهمًا ينتج نصًا موازيًا للواقع الحياتي، وهذا ما نلحظه في الإطارات التي تحتويه لدى يارا الحسواني، انطلاقًا من السؤال الأول "ماذا لو أعطينا المدينة وعيًا إنسانيًا لتكتب يومياتها؟" والجواب الذي يليه الذي يريد أن يخفض حجم التوقعات لدى القارئ/ المشاهد فيصف الصورة على أنها "عبارة عن مشاهد، ومشاعر، ترصد وتُحكى فحسب".

فيلم مُعلّق أنت المدينة



مرآتي.. يا مرآتي.. حدّثيني عن الجمال!
ركن حرّ في هذا العالم، مريح كغرفة طفل مدلل، كافٍ ليستقبل كل الأصدقاء.. اتّسع فأصبح بحجم مدينة.

المدينة حين تتكلم، لا يمكن زجر كلماتها وحروفها وضبطها ومنعها من إثارة الأفكار، والتأويلات أيضًا، وكذلك فإنها حين تصاغ على شكل كتل كرتونية تحاكي الأخرى الأسمنتية الواقعية، لن يتوقع المشاهد أنها ستكون مرحبة بخلفيات فسيحة، بل إنها ستبقى كما هي مزعجة وصلدة، فتقول كل شيء دفعة واحدة: "أنا جرمانا، مدينة تملؤني الدهشة والأمنيات وتواجهني العقبات، نشيطة في أغلب الأوقات، أصل الليل بالنهار لأنمو باستمرار. يقولون إنني صعبة المزاج، متبدلة، يعيش في أحيائي بشر متنوعون، وكل منهم يشعر بأنني مكانه الصحيح. تميزني أشجار الجوز والسهول والنهر، نعم.. النهر، أحد فروع بردى يسقيني، تقول ورقة صفراء. ولكن، لمن كل هذا الأسمنت؟"

يؤسس النص في الكتاب المنشور للمشروع الحاصل على منحة المورد الثقافية، وهو أشبه بخطة عمل لبناء موازٍ جرى الاشتغال عليه في العرض التجهيزي، الذي قدم في غاليري "زوايا" في دمشق ثم انتقل إلى صالة "بيت القدّيس ألبيرتو هورتادو اليسوعي" في جرمانا ذاتها، وهو يفتح من خلال تكونه كنص مفتوح على مجموعة خيارات فنية تبدأ بالنص النثري مرورًا بالأغنية الشعبية وصولًا إلى الحوار المسرحي الصريح، والحوار الداخلي الهواجسي، ومن خلال هذه الإمكانية التنوعية، يصبح الموضوع بذاته أقوى من صناعه، ويمكن أن يكون حاملًا لهناتهم أيضًا إن حدثت أو واجهت رؤاهم، وفي المحصلة لن يكون بإمكان المرء أن يرتفع بالتكوين الفني نحو التجميل والتزويق إن أراد الإبقاء على الصدق الفني كعنصر فارق بين الكتابة الحياتية وتلك التي تُصنع لغايات ترويجية.

من العرض في صالة ألبيرتو اليسوعي و"وجوه المدينة"


الرسومات المرافقة للنصوص خطاطات أولية لا يجتهد صناعها نحو خلق الجماليات، بل يسعون إلى جعلها مكملة للنص، رغم توفر الإمكانات للقيام بما هو أعلى لجهة الصناعة الفنية، وهذا جزء من عملية التكامل التي تتوفر في مثل هذا النوع من العروض، فلا يطغى ملمح على آخر، بل يجتمع كل شيء من أجل القول والمعنى، فإذا كان رصد التفاصيل المكثفة في الشارع وفي الأبنية وفي البيوت ذاتها هو الهدف وجعلها تتحدث فإن على القارئ/ المشاهد أن يستعد للتفاصيل المعهودة وإلى جرعة مختلفة أيضًا كقول النافذة في النص:

"سأصغي بانتباه إلى هذه المدينة،

سأصدِّقها،

سأتألّم معها،

سأحاول أن أتذكر نفسي دومًا،

سأحتفظ بذكرياتي عن الشجر والبساتين والحرب..

عن الطيور والبيوت والأعشاش الباردة.

أنا النافذة المشلولة وسط جدارٍ ضخم،

سأعبرُ كل الأصوات...

كي أتعلَّم كيف ترحل الأشياء من دون أقدام،

وكيف تصبح الأماكن

وحشًا طيبًا يحكي قصصًا عن مدينة اسمها جرمانا".

العناوين التي وضعتها يارا للشذرات/ صوت المدينة، تنفع أن تكون بنودًا لخريطة دالة، يمكن لأي ممن سكنوا المكان أو عرفوه أن يسترشدوا بها من أجل استعادة الذاكرة الغائبة، وضمن هذا الإطار تصبح الكتابة أو لنقل محاولة نقل صوت العناصر في المشهد فعلًا محرضًا على كتابة نص جديد، قد يختلف مع المضمون الحالي لكنه سيكمله بشكل أو بآخر، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المتلقي السوري لم يعد محجوزًا في مكانه الأصلي، بل صار يشغل وجودًا ما حول العالم في ظل الواقع الحالي، ووفقًا لهذا سيكون الأثر الإيجابي لفعل التجريب في الكتابة وصناعة التجهيز أشد حضورًا، وإذا قيض للباحث أن يستعيد التجارب السابقة في المشهد الثقافي السوري سيخرج بنتيجة ضئيلة لكن هذا لا يلغي جدية وتأثير التجارب القليلة السابقة.

صدر كتاب "مُعلّق" عن دار نينوى، وقد شارك في تكوين شخصيات النص كل من: عمر الهادي، وميرما الورع، ورزق حامد، ولين مهايني، وروز بريك، وضحى النوري. أما فريق العمل لعرض "مُعلّق" الذي أشرفت عليه يارا الحسواني فتألف من: ميرما الورع (القصص المصورة)، وإياد أبو سمرة (الشخصيات)، ومريم الفوال (الفيديو)، وماهر بجور (الموسيقى)، وشام العلبي (الكولاج)، وعيسى قارصلي وعلي يازجي (المجسمات). 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.