}
عروض

الجراثيم: صانع خفي للتاريخ!

إيهاب محمود

20 أغسطس 2023


ليست الحروب وحدها هي من صنعت تاريخ البشر. وليست الصراعات الخفية والمعلنة بين الدول. وليست التحالفات الكبرى، والمعجزات الفارقة... ثمة شيء آخر أكثر فاعلية، ولا يقل قوة وتأثيرًا وخطرًا، ساهم، بل كان عنصرًا أساسيًا في تشكيل تاريخ البشر: الجراثيم!
يرى جوناثان كينيدي، مدير برنامج الصحّة العامة في كلية الطب في جامعة لندن، أن كل هذه التصورات حول تشكل التاريخ تغض الطرف عن فاعل أساس تأتي الشخصيات والأفكار والتكنولوجيات بعده، وربما نتيجة له، حيث الجراثيم والفيروسات، التي صنعت فضاءات تبلور الحالة البشرية عبر سلسلة من الأمراض والأوبئة، وأدارت مسار تطورها عبر الأيام. فالأمراض المعدية، منذ طاعون صور، الذي انطلق منه هوميروس في الإلياذة، إلى كوفيد ـ 19 في الزمن الحالي، تعد جزءًا أساسيًا من هويتنا الإنسانية، وبالتالي من تاريخنا الجمعي بوصفنا بشرًا.
في كتابه الصادر حديثًا "الأمراض: كيف صنعت الجراثيم التاريخ؟"، يسرد لنا كينيدي قصته المخالفة للسائد لدينا، حول محاولات الإنسان الأول للحياة، وكيف تجاذبته مسارات التحضر البشري، بغرض إظهار كيف أن تفشي الأمراض المعدية قد قضى على ملايين الأرواح في المراحل المختلفة، فدّمر حضارات بأكملها، وأعاد صياغة المجتمعات التي نجت، فيما تكفلت موجات الهجرة الهائلة والنزوح اللانهائي بتغيير النوع العرقي لمنطقة ما بالكامل، أو تحصينه، وذلك عندما جلبت قوافل القادمين معها أمراضها المعدية التي لم تعرفها مجموعات السكان الأصليين، ولم تطور أجسامهم مناعة ضدها إلى حد ما، فقضت عليهم نهائيًا، أو أن المهاجرين وجدوا أمراضًا لم تختبرها مناعتهم من قبل فمسحوا عن وجه الأرض التي هاجروا إليها، فكأنهم لم يأتوا يومًا للحياة.
الإنسان وحده من نجا، ونجح في البقاء. كينيدي يستكشف احتمال أن يكون الإنسان العاقل المتجول من أفريقيا، الذي اكتسب مناعة قوية خلال الرحلات الطويلة، قد أصاب ببساطة إنسان نياندرتال بالفعل في أوروبا بمسببات أمراض جديدة لم تستطع أجسام أولئك المستقرين محاربتها، فانقرضوا تمامًا كما قضى المستعمرون الأوروبيون، بعد عشرات الآلاف من السنين، على سكان الأزتك بنقلهم مرض الجدري لمن نجا من الهلاك بالأسلحة.




يذكر كينيدي أن إلياذة هوميروس أحد أقدم النصوص التاريخية التي تتوفر لدينا من العصر الإغريقي تبدأ من لحظة انتشار الطاعون في المعسكر اليوناني خارج طروادة. واجتاح وباء التيفوس، أو الجدري، أثينا من عام 430 قبل الميلاد، ما قلص قدرة أثينا على القتال ضد الأسبارطيين، وكان له تأثير حاسم على مسار ونتائج الحرب البيلوبونيسية.
"أي شخص نجا حتى سن الرشد كان سيكتسب مناعة للعيش في روما، لكن الأشخاص الذين جاءوا من الخارج، بمن فيهم أولئك الذين قدموا لغزو المدينة، كانوا معرضين لخطر كبير"، يقول المؤلف.
الوباء الأكثر فتكًا الذي تم تسجيله على الإطلاق كان الموت الأسود في القرن الرابع عشر، حيث حصد الطاعون أرواحًا يُقدّر عددها بمئة مليون نسمة، أي أكثر من 60% من مجموع سكان القارة الأوروبية، وتسبب في نيل العصور الوسطى لقب أزمنة الظلام، إذ انهارت الأعراف الاجتماعية، وجاع الناس، واندثرت المباني، ولوحق اليهود وذبحوا كسبب محتمل للعنة الإلهيّة التي جلبت المرض كعقاب. وقد تكررت جولات الطاعون عدة مرات بعدها، وضربت مرارًا وتكرارًا في جميع أنحاء أوروبا، فقتلت مثلًا نصف سكان نابولي وجنوة في إيطاليا عام 1656، وسمحت لاحقًا بصعود قبائل العثمانيين، الذين جعلتهم حياتهم البدوية أقل عرضة للخطر من أولئك الذين يعيشون في المدن المكتظة. يقول كينيدي إنه "من دون الطاعون، لم يكن من المعقول أن يتمكن العثمانيون من فرض سيطرتهم بسرعة على مثل هذه المناطق الشاسعة". وفي بريطانيا الثورة الصناعية، انتشرت الكوليرا في الأحياء الفقيرة المزدحمة، مما أجبر الدّولة على تولي إدارة الصحة العامة. ويجادل بأن تدابير الحجر الصحي وتعميم استخدام المطهرات في تلك المرحلة يمكن أن ينظر إليهما على كونهما علامة فاصلة لبداية الدولة الحديثة التي امتد نفوذها على الحياة البشرية العادية تدريجيًا بطرق غير مسبوقة. وفي الوقت نفسه، يزعم أن النقص في العمالة الزراعية الماهرة الناجم عن التكرار في تفشي الطاعون كان مفيدًا في انهيار منظومة الإقطاع لصالح نظام للعمالة المرنة لدى مصانع الرأسماليين. في وقت لاحق، فإن قابلية الجنود الشماليين للإصابة بالملاريا خلال الحرب الأهلية الأميركية: "ربما أخرت النصر لأشهر، أو حتى سنوات"، ما منح لينكولن الوقت الكافي للتوصل إلى فكرة إلغاء العبودية في عام 1862، وتجنيد العبيد السابقين في الجيش. وكتب لينكولن لاحقًا: "إن النظرة المجرّدة لخمسين ألفًا من الجنود السود المسلحين والمدربين على ضفاف نهر المسيسيبي ستُنهي التمرد في لحظة واحدة"، وبحلول نهاية عام 1863م، تضمن الجيش 20 فوجًا من السود الذين كان لهم دور حاسم في تحقيق الانتصار النهائي للولايات الشماليّة.
"الحد من التفاوتات الطبقية الصارخة سيكون بداية ممتازة للغاية لمواجهة الأوبئة المستقبلية" ـ هكذا يستخلص كينيدي في نهاية كتابه، بعد أن وضعنا أمام فرضية جديدة وذات وجاهة، أن الجراثيم كانت من مكونات التاريخ البشري، ولم يكن سهلًا أن يصل الإنسان لما وصل إليه الآن إلا بالمرور بها والتغلب عليها وتسجيل انتصاره الواضح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.