}
عروض

"تلة يسكنها الأعداء": الذات بين التيه والتشظي

دعد ديب

23 أغسطس 2023


قد تكون القصة القصيرة نشأت بين أحضان الحكاية والطرفة والأسطورة والخرافة والملحمة والسيرة قبل أن تختط لنفسها ملامح وصفات خاصة بها كجنس أدبي له فرادته وخصوصيته لناحية المحتوى الموجز بالدرجة الأولى، إضافة لمعاني التكثيف والإيحاء والترميز والمفارقة، وهي إلى ذلك لا تحتمل الإطناب أو الحشو أو الاسترسال السردي، وكما قيل تتجه إلى هدفها كالرصاصة. وهي أقرب إلى الإيقاع التلقائي المباشر للحياة وخاصة ما يتعلق بالبؤر الحرجة المؤرقة التي تتطلب تكثيف النظر إليها والإمعان في توجيه مجهر السرد على تفاصيلها.

فالقصة القصيرة وفق إنريكي أندرسون أمبرت (*) "عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص فرد برغم ما قد يعتمد عليه هذا الخيال من الواقع، فالحدث الذي يقوم به الإنسان أو الحيوان أو الجماد بإلباسه صفات إنسانية يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة حيث نرى التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ ثم تكون النهاية مرضية من الناحية الجمالية". ولكن الرؤى الجديدة لعالم ما بعد الحداثة وعلى الرغم من عدم تبيان تخوم واضحة بينه وبين المراحل السابقة قد اعتمدت على تقويض الأساليب السابقة واستيعاب أشكال تجريبية لا تخضع للنظم المتعارف عليها، وهذا ما نلاحظه في قراءتنا لتجربة فدوى العبود في مجموعة "تلة يسكنها الأعداء" الصادرة عن دار خطوط للنشر والتوزيع عام 2022 حيث نلاحظ مقاربتها لمفاهيم ما بعد الحداثة عبر مروحة واسعة من المفاهيم كالتشتت والتشكيك بالمسلمات وحالات الضياع والتداخل بين عالم الموت والحياة، الوجود واللاوجود؛  التماهي بين العوالم المتوازية والتنقل بينها؛ التشظي واللايقين؛ القلق الوجودي واللاتراتبية إضافة لعنصر المفارقة والخروج عن المألوف؛ النقد من داخل القصة والتناص.

تستهل العبود نصوصها بمقطع للشاعرة دعد حداد يتشوق لألفة الآخر، هذا الاستهلال بوابة السؤال الذي يغلف انكسار الذات عبر لوحات متتابعة ومكثفة من خيبات عدة عن التجاهل والإنكار، ولأنه هو الزمن هكذا، زمنٌ خطأ، فهي تضع القارئ منذ العبارة الأولى في البؤرة الدلالية "ولكن ماذا تفعلين هنا" حيث لا مكان يخصها ولا موضع لها، تقصى عن كل شيء وهي بكل ما فيها من توق للتآلف مع الكائنات؛ مع صديقتها التي تحتفل بميلادها؛ مع نافذة أمها المطلة على الأحاديث الشيقة، مما يبقيها على تخوم الأشياء دون الدخول فيها، ليفضي بها السؤال عن مبرر الحياة ذاتها، لتدخل في حالة عدم التعيين في متاهة الاغتراب الذي يفجر السؤال ويبقيه بكل ضبابية القلق "ولكن ماذا تفعلين هنا" حيث هو"وجود في الزمن الخطأ".

وفي "زيارة" تراوغ العبود القارئ في المفارقة بين ما يهيَّأ فهمه للقارئ والقفلة غير المحسوبة أو المتوقعة في أنها لم تتقبل وضعًا جديدًا تتنقل فيه بين عالم الموتى وعالم الأحياء مما يذكر بفيلم "الآخرون "The Others، وهذا الاعتراض عرفه من سبقها في رحلة الموت، بقول العجوز "كلهم يبدؤون بهذه المسرحية ثم ينتهون هامدون معنا". لتعبر منه إلى المشهد التالي إذ يبدو ثمة وجود في عالم الغياب، فالمقبرة الموجودة على التلة تستقبل نزلاء جدد باستمرار ولكل حكايته الموجعة والمدماة؛ القاتل ينوء بحمل على كتفه لنتعرف على أنها أداة القتل، القاتل والقتيلة في قبرين متجاورين، القاتل والضحية يرقدان ويتحاوران في عالم الموتى وحتى في العالم الآخر يحاول الموتى إخفاء أطفالهم المهشمة وجوههم من حامل السلاح الذي بقي معلقًا فيه كتهمة أزلية دامغة.

عملت الكاتبة على خدش وكسر المقدس في أكثر من موضع، فالعجوز التي تصرخ بالملاك كي يقوم بتسجيل ما يظهر على كتف الجندي مؤنبة إياه بسخرية على عدم قيامه بدوره المكلف به من قبل الاله، وفي صرخة استنكار للقتل معبأة بالقهر تقول العجوز إن القتلة يولدوا بكتفين فارغين إذ لا مجال في جسدهم للملائكة.

تهدم فدوى العبود الجدار بين الواقع والحلم، وقد قوضت قبله الحاجز بين الحياة والموت، إذ تدخل عالم كافكا الرمادي، ولا تعرف إذا كانت في حلم أو تحت تأثير كتاب، فهذا اللاتعيين والتداخل بين العوالم- عالم الموت وعالم الأحياء- وتقويض المسلمات كلها من ملامح ما بعد الحداثة اشتغلت عليها العبود بحرفية عالية بالإضافة لحالة التناص، التناص مع عوالم ديكنز وكافكا وبورخيس و1984 لجورج أورويل وهمنغواي ولويس لانديرو ودينو بوتزاتي في حشد من الأعمال الأدبية وضمن حيز ضيق من التداعيات ذات الحمولة المعرفية، حيث تقفز من عالم رواية إلى أخرى وكأنها تجسدت في حلمها الواعي وكأنها في مقابلة لجنة صنع الله إبراهيم، في إشارتها للجهات المهيمنة ومجتمع المحسوبيات والتمييز والخوف والقمع الذي تُسمع فيه أفكار المرء قبل أن يتكلم وحتى بالحلم لا يتجرأ المرء أن يفصح عن كرهه للحكومة في عالم يزدري الإنسان الذي ينتهي إلى الخوف والقلق والترقب لكل شيء سيء.  

هذا التناص مع نخبة من الآداب العالمية وظفت كل منها بسياق ما، على غرار دون كيخوت الذي يكون دائمًا في المكان غير المناسب؛ الضحايا الذين يعاقبون أنفسهم على خطايا الآخرين، ومشاكسة المقدس كتقويض للمسلمات ولما هو سائد، يعكس رؤى ما بعد حداثية عبر تناوله بالنقد بأكثر من موضع.

بين زمن الطفولة وزمن الساردة وزمن الكتابة، يتطاول زمنها الخاص على الزمن الحقيقي، من طفلة تمزق القصاصات التي لا تعطي معنى الحقيقة، فلا مبرر للكتابة عن شيء غير موجود، ليبقى الحرمان قدر الطفولة في هذه البقعة البائسة، الطفولة المفقودة، دائمًا الطفلة لور تتكرر في مواقف مختلفة مما يؤكد على تواشج النصوص مع مفهوم المتوالية القصصية، وخاصة بالأجواء المتشابهة لجميع قصصها ولكن فدوى العبود جاءتنا باسم مكافئ "متجاورات قصصية".

يتوزع الرهاب والقلق بين هواجسها وطفولتها مركزة على مصدر كوابيسها وخوفها في الحفرة التي سيقام بها حديقة والتي تحولت لمكب نفايات، وبعد الحرب احتضنت آلاف الجثث؛ هو ذاته الخوف الذي ترك شرخًا عميقًا بالنفس يطل في كل مفترق. لتصل إلى حالة متكلسة وجافة في ردة الفعل لكل هذا التاريخ من الوجع، ولأن الحزن هو القدر في لعبة المفارقة بين المقدمات والنتائج التي تلعبها فدوى العبود مع القارئ موظفة التناص كذلك مع نموذج السيدة هافيشام في الآمال الكبيرة لديكنز التي وقف التاريخ عندها في مشهد عرسها والخطيب الذي لم يأت في انتقام يعود على الذات دون سواها، إذ هذا ما تدرب عليه المرأة لتقمع رغبتها ومشاعرها لتتحول إلى كيان جامد يشبه الميدوزا في الأسطورة قد تؤثر نظرتها القاسية وتتعدى لتصيب المشاعر عند الآخرين بالبلادة والتحجر.

تثبت الكاتبة زمنًا وتلعب بالزمن الآخر، فالزمن الثابت في طلب الأب من الطفلة أن تأتي بملح من المطبخ وزمن آخر يأخذ خطواتها إلى متاهة تغرقنا فيها بالديستوبيا. تبدو كتهويمات ولكنه كان صوت المحيط، صوت الزمان الذي تحدث فيه أحداث خارج وعيها، هل هي هذيانات أم حقيقة أم توهان فعلي لفتاة تضيع دربها ضمن حالة ذهانية حلمية، فمرة وقعت في بئر ولأنها ليست يوسف وليست بنبية لن تجد من ينقذها، ومرة أخرى ضاعت في الغابة حيث الافتراس والجنود في النهر والرجل الكوخ في الغابة.  

أما العنوان في قصة "وعول محنطة" فهو بحد ذاته قصة مكتملة بكل ما تمنحه الفكرة من معان وتضاد، فلطالما كانت الوعول رمز الحرية والانطلاق والجمال لكنها محنطة ميتة في المعنى المناقض، فهل تكون الحقيقة عار العصر الذي نخفيه في دهاليز نفوسنا، إذ تقفز البكاءة من قصة أخرى عبر مشاهد متلاحقة من الزيف وتجاهل قضايا الآخرين، سهام الجارة التي غُرست فأسًا في رأسها؛ وحلم الأب على جدار؛ وطفلة القصاصات؛ وكتف الشاب المتورمة لتلم قصص المجموعة في حكاية واحدة وتنهي كل شيء بموجة كبيرة من الضحك، الضحك الذي يشكل جديلة من المعاني منها الهزء والسخرية ومنها العجز عندما يقفل كل شيء، وربما في زاوية بث روح الأمل بتأويلات عدة محتملة تجعل القارئ شريكًا في التقاط المعنى.

ولأن المتتالية القصصية يلم شتاتها خيط أو شخصية أو مكان فالمجموعة باعتقادي تنتمي لها، للشخصيات التي يتكرر وجودها في أكثر من قصة والمناخ النفسي العام المسيطر بالإضافة لغياب المركزية السردية، أي ما يتعلق بتتابع الحدث وتدفقه، فالقصة القصيرة وإن كانت متميزة بقصرها ومحدودية الكلمات ولكن مساحتها التعبيرية تنفتح في ذهن المتلقي بدلالات تخييلية مختلفة تمتد برؤى ارتدادية نظرًا لقدرة فدوى العبود على التعبير المحتشد بطاقة نفسية عالية، فالمجموعة تحفل بتكثيف ذي شحنة عالية من المعاني المضمرة في تأمل الذات عبر تقطير وتنقية الأحاسيس المكتومة، مستفيدة من تقنيات الاسترجاع والاستباق في خلخلة المعنى وصولًا لحالة التشتت الكامنة في داخل النفس الإنسانية التي رصدتها في أقصى حالات التوتر والمعاناة. فالساردة تتحرك وتكتب على أنقاض وجع مفتوح، لذا من الطبيعي أن تشتمل قصصها على هذا الكم من الديستوبيا والخيبة والاكتئاب، فالإدراك الحاد بالحياة يأتي بعد الخسارة كما قالت، وتلك المسافة بين الشعور التلقائي والشعور المتخيل ما هي كلها إلا انعكاسات لشعور أو إحساس نما في لحظة أو وقت من الأوقات وتم استحضاره جماليًا بنسبة عالية من الحرفية  والاقتدار.

(*) إنريكي أندرسون أمبرت: كاتب أرجنتيني صاحب كتاب "القصة القصيرة: النظرية والتقنية"، ترجمة علي إبراهيم علي منوفي، إصدار: المجلس الأعلى للثقافة- مصر 2000

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.