}
عروض

"فلسطين في النهضة الموسيقية العربية": المجتمع الفلسطيني قبل النكبة

يوسف الشايب

19 سبتمبر 2023


على الغلاف الخلفي لكتاب "فلسطين في النهضة الموسيقية العربية (النصف الأول من القرن العشرين)"، للباحث والمنتج الموسيقي الفلسطيني نادر جلال، اعتبر د. إبراهيم أبو هشهش، أستاذ اللغة العربية في جامعة بير زيت، الكتاب "إسهامًا بالغ الأهمية في استعادة فلسطين حينما كانت تمر في حالة حيوية من الحداثة الشاملة قبل النكبة، وهي استعادة لصورة حيّة تبعث على الاعتزاز والفخر، بقدر ما تثير الإحساس مُجددًا بفداحة النكبة التي وضعت حدًّا فاجعًا لهذه النهضة"، لافتًا إلى أن هذا الكتاب "إذا كان يركز جهده البحثي في موضوع النهضة الموسيقية الغنائية في فلسطين قبل النكبة، فهو لا يغفل ارتباط هذا الجانب بنشوء مجتمع مديني حيوي، ولا سيما في المدن الكبرى مثل القدس ويافا وحيفا، وبما يتضمن ذلك من وعي ثقافي، ومن بنى تحتية عصرية، ومن قوة وشائج فلسطين بمحيطها العربي، وإسهامها في النهضة الموسيقية المعاصرة، فمثلًا يؤكد على اتصال هذا النشاط الموسيقي الغنائي ببقية المارسات الثقافية من جهة، وبالعمل الوطني والوعي القومي من جهة أخرى".

والكتاب الصادر، أخيرًا، عن المؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية (نوى)، بدعم من جائزة "التعاون" للتميّز بالقطاع الثقافي 2019، يبدأ في فصله الأول الحديث عن موقع فلسطين في الثقافة العربية والمشرقية عبر التركيز على الموسيقى والغناء قبل الحرب العالمية الأولى، والفونغراف، بينما يذهب في الفصل الثاني إلى الحديث عن المقاهي والملاهي والفنادق باعتبارها مسارح أولى، وفي الثالث عن عروض النوادي والجمعيات، قبل أن يتناول في الفصل الرابع دَور دُور السينما في الحياة الموسيقية، ومن ثم يقدم في الخامس نماذج على المهرجانات والمعارض كموسم النبي روبين، والمعرض العربي في عامي 1933 و1934، ليتجه للحديث عن العروض الموسيقية والغنائية الخيرية، وعروض الفنانين العرب في فلسطين في الفصلين السادس والسابع، بينما احتوى الفصل الثامن والأخير الموسوم بـ"التسجيلات الأولى"، على نماذج يمكن سماعها بتقنية المسح الضوئي عبر كاميرا الهاتف المحمول (كيو آر)، أسماها "التسجيلات الأولى"، وهي لكل من: الشيخ أحمد الشيخ، ورجب الأكحل، وإلياس عوض، ونمر ناصر اليافاوي، ويحيى السعودي، وثريا قدّورة، ونوح إبراهيم، وغيرهم.

وعلى أهمية الكتاب، واعتراف صاحبه في الصفحة الأخيرة منه بأنه لا يمكن اعتباره توصيفًا كاملًا وشاملًا للنهضة الفنية الموسيقية التي كانت تعيشها فلسطين قبل النكبة، لكونه أسقط فصولًا لجهة نشرها في الجزء الثاني مما وصفه بالسلسلة، أو لجمع المزيد من المعلومات عن شخصيات ورموز موسيقية لعله ينجح في الوصول إلى معلومات كافية، نجده يجزم بما هو ليس دقيقًا في بعض ما ورد في المتن، الذي وصفه أبو هشهش بأنه "يجمع بين غزارة المعلومات، ودقة التوثيق، وحيوية المادة المقروءة، ما يجعله مرجعًا أساسيًا لا غنى عنه في هذا الموضوع"!

ولعلّ أكبر إشكاليات الكتاب، برأيي، اعتماده التوصيف الجازم الحاسم لما جاء فيه، بالانحياز إلى (أل) التعريف، كوصف "التسجيلات الأولى" عوضًا عن "تسجيلاتٍ أولى"، وهي بالتأكيد ليست الأولى وحدها دون غيرها ممّا لم يرد فيها، على رغم ندرتها، فليس ما ورد حول "الجيل الأول من الروّاد" ينأى بآخرين أن يكونوا بين الروّاد، ولكن هذا ما تحصّل عليه الباحث، وهو ما أشار إليه في خاتمته التي أسماها "ليست خاتمة"، أو حين تحدث عن "عروض الفنانين العرب في فلسطين"، عوضًا عن عروض فنانين عرب، فهو لم يتطرق لعروض الكثير ممّن غنوا في فلسطين ما قبل عام 1948، قبل بديعة مصابني، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر الفنان محمد عبد المطلب مثلًا، وإن كان برّر بأنه أجّل الحديث عن تجربة الفن الإذاعي في إذاعتي "هنا القدس" و"الشرق الأدنى"، لكنه تحدث هنا عن فن إذاعي لا غنائي، ما يجعل العمل باقتطاع ما تم اقتطاعه منه، عملًا مجتزءًا، لعدم معرفتنا إذا كان العديد ممّن أسقطوا في عروض "الفنانين العرب" كما جاء في التوصيف بالفهرس، مع تعديل السياق في المتن بالحديث عن "مغنين وموسيقيين" متنازلًا عن (أل) التعريف، سيتم إضافتهم في الجزء الثاني، وهو ما يجعل من الكتاب، على أهميته، مبتورًا، لكونه غير متسلسل تاريخيًا، بل مقسّم إلى أجزاء متناثرة يمكن بجمعها الحصول على صورة ما ليست شاملة باعتراف المؤلف للنهضة الموسيقية الفلسطينية وفي فلسطين قبل النكبة.

ويبدو أن هذا التقسيم، وأحيانًا التقشف أو عدم التوسّع في تفاصيل نادرة ومهمة في إطار مواضيع فصول الكتاب، يتأتى لاعتماد الباحث على المتاح فقط من أرشيف الصحافة الفلسطينية على موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وهو ما وقع في شركه باحثون آخرون، فالمتاح هنا لا يشكل إلا النزر اليسير ممّا هو مسروق ومحجوب من صحافتنا، وكتبنا، وأفلامنا، وغيرها في الأرشيفات الإسرائيلية المختلفة، وباعتقادي، لو ذهب إلى الاشتراك في المكتبة ذاتها لوسّع من دائرة بحثه بالحصول على المزيد من المرجعيات في مجال الموسيقى الفلسطينية وفي فلسطين قبل النكبة بمزيد من المجلّات والصحف والدراسات والكتب غير المدرجة على المبحث العام، كما أنه لو قام بتصنيف وتبويب وبحث وتمحيص حتى فيما هو متاح، لوجدنا تفاصيل أكثر في كتابه المكثف دون تبرير، علاوة على أن إصدار الجزأين معًا كان يمكن أن يسد بعض هذه الثغرات، دون حسم ذلك.

كما ذكر جلال، البعض ممن لم يكونوا من الموسيقيين والمغنين كما عنون داخل المتن، كحال "كشك بك"، مثلًا، الذي حضر ومرافقوه لتقديم عروض مسرحية وظفوا فيها الغناء، رغم التسمية "جوق الأوبريت كوميك"، أو "جوق الأوبرا كوميك"، ولم تكن عروضًا غنائية موسيقية، بل كان الغناء والموسيقى جزءًا فيها من أعمال مسرحية، فلفظ "جوق" أو "جوقة" لا يعني فرقة موسيقية فحسب، بل ينطبق على الفرق المسرحية أيضًا، وهو ما يتضح من سياق الإعلانات السائدة في الصحف الفلسطينية قبل النكبة، في الحقبتين العثمانية والبريطانية، وهو ما ينطبق على لفظ "رواية" الذي ذهب إلى توصيف الفيلم السينمائي أو العمل المسرحي.

ويبقى الخطأ الكبير الذي يجب عدم اعتماده تاريخيًّا، هو جزم الباحث هنا أن أول زيارة فنية للموسيقار محمد عبد الوهاب إلى فلسطين كانت في عام 1930، وقدّم فيها ثلاث أمسيات، علمًا أن أول زيارة عثر عليها موثقة في صحف فلسطينية صدرت ما قبل النكبة، تحدثت عن قدومه إلى فلسطين في إطار "جوقة" مع الإشارة إليه لأهميته كموهبة صاعدة بدأت تحقق حضورها، وكان ذلك عام 1921، ولا ندري إن كانت الأولى أم لا، وإن كان اللامبرّر لتجاهل أو عدم معرفة هذه المعلومة هو أنه جاء في إطار جوقة لا منفردًا، فإنه أرّخ لما وصفه بالحضور الأول لبديعة مصابني إلى فلسطين عام 1920 ضمن فرقة الفنان حسين صدقي، وهنا برأيي، كان على جلال الحديث غير الجازم عمّا عثر عليه هو، كالبدء مثلًا بالقول "كان أقدم ما حصلت عليه بخصوص زيارات الموسيقار محمد عبد الوهاب"، وليس "كانت أول زيارة فنية للموسيقار محمد عبد الوهاب إلى فلسطين في عام 1930".

ولكن هذا لا ينفي ما ينطوي عليه الكتاب من أهمية كبيرة في سد ثغرة بالمكتبة الفلسطينية والعربية لجهة توثيق الحراك الموسيقي الفلسطيني وفي فلسطين قبل النكبة، وخاصة الجزء الأخير الذي يتميّز به جلال عن غيره، كمؤسس للمؤسسة الفلسطينية للتنمية الثقافية (نوى)، وهي جمع الأسطوانات والتسجيلات النادرة الفلسطينية قبل النكبة، وبعدها يعود لنهايات القرن التاسع عشر، ويمكن للقارئ الاستماع إليها من داخل الكتاب.

ولعل هذا ما دفع د. عيسى بولص، ويعمل حاليًا كمنسق لمركز الموسيقى والفنون المجتمعية في كلية هاربر بشيكاغو الأميركية، في تقديمه للكتاب، إلى اعتبار دراسة نادر جلال عن موقع الصناعة الموسيقية في فلسطين خطوة رائدة، بل وتتميز بأنها تصف بشكل دقيق الأنشطة الموسيقية المحلية أو الإقليمية التي كانت مزدهرة في فلسطين، تلك الحقبة، وبأن هذا الكتاب يجذب قرّاءه إلى عوالم الموسيقى الغنيّة والمتنوعة في فلسطين والمحيط المشرقي، بحيث يزودنا أيضًا بمعلومات عن كيفية تفاعل الفلسطينيين مع الأنشطة الموسيقية وارتيادهم لها، وأنواع الموسيقى والغناء الشائعة أو المفضلة لهم، وطبيعة حياتهم اليومية والليلية، ووصف أجواء المسارح والمقاهي والسينمات ومدى انتشارها، ما يجعله، وفق بولص، مصدرًا مهمًا في دراسة تاريخ المدن الاجتماعي في حقبة الانتداب البريطاني.

وفي حديث عن مبررات إصدار الكتاب، أشار صاحبه، إلى أنه جاء لكون كتب قليلة جدًا لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تناولت التراث الموسيقي المديني أو "المتقن"، في الوقت الذي كانت فيه مدن فلسطين تشكل حواضر ثقافية وفنية عامرة، تستقطب كبار الفنانين الفلسطينيين والعرب، موسيقيين ومطربين ومسرحيين، فكان "لا بد من التصدي لتلك الفجوة الكبيرة وغير المبررة، والعمل على إزالة الركام عن المخفي من تراثنا الموسيقي"، مشددًا على أن "الكشف عن الحياة الموسيقية في فلسطين المنكوبة منذ بداية القرن العشرين"، يشكل أيضًا "عملًا وطنيًا وقوميًا وإنسانيًا وجماليًا في نفس الوقت، ويعيد الثقة بمرجعياتنا الثقافية، ويصوّب خطابنا الفنّي إلى العالم، الذي كان معتمدًا على التراث الشعبي فقط، ويوفّر مرجعًا موثقًا لمكتبتنا الموسيقية، يعود إليه الباحثون والموسيقيون والطلاب والمهتمون".

ولفت جلال إلى أنه اعتمد في دراسته هذه على خمسة مصادر أساسية، هي: مقابلات مباشرة وتسجيلات مع باحثين ومؤرخين فلسطينيين وعرب وأسر الفنانين الفلسطينيين الروّاد، ومقالات وأبحاث قليلة ومتقاطعة المعلومات صدرت بعد عام 1948، ومذكرات شخصية لعدد من الأدباء والفنانين والمؤرخين، كخليل السكاكيني وواصف جوهرية وعجاج نويهض ورياض البندك ونوح إبراهيم وآخرين، وأخبار وإعلانات الصحف والمجلات الصادرة في فلسطين في تلك الفترة، والتسجيلات الموسيقية المبكرة (الأسطوانات) لعدد من الموسيقيين، وكتالوجات شركات الإنتاج التي عملت في فلسطين.

في الكتاب مجهود كبير أخذ من صاحبه سنوات، ويقدّم ما هو جديد في عديد مجالات البحث التي طرحها في فصوله الثمانية، وأي تعقيب بشأنه لا ينتقص من قيمته، بل يهدف إلى تطويره وتحسينه والإشارة إلى بعض ما ورد فيه من أخطاء لا تتناسب وقيمة الباحث والمناطق الوعرة المبحوث فيها، خاصة أنه يدحض، كما غيره من الكتب، الدعاية الصهيونية السائدة بشأن "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، بل يذهب إلى تسليط الضوء على نهضية ثقافية وفنية حقيقية كات تعيشها فلسطين، وأجهضتها نكبة عام 1948، علاوة على كونه يشكل مستندًا يمكن الاتكاء عليه، مع بعض التمحيص، لبحوث أكثر اتساعًا وأقل تقشفًا في هذا المجال.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.