}
عروض

"نجمة نائية ونصوص شعرية أخرى": اللغة طبيبٌ شرس

محمود عبد الغني

21 سبتمبر 2023


ظل مصطفى النيسابوري (1943-) شاعرًا مغربيًا معروفًا لدى أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، إلى حدّ ما، باعتباره كاتبًا باللغة الفرنسية، ومن مؤسسي مجلة "أنفاس"، رفقة عبد اللطيف اللعبي، التي تمَّ حظرها عام 1972 بسبب مواقفها اليسارية المتطرفة. ثم ظهر اسمه بعد ذلك في بيان مشترك مع الروائي محمد خير الدين "كل الشعر" عام 1964. عاد إلى الواجهة اليوم، وباللغة العربية، بفضل ترجمة الشاعر محمد بنيس، رفيقه في الشعر والحياة، لمختارات من أشعاره حملت شُحنة رمزية عن هذا الشاعر النائي: "نجمة نائية، ونصوصٌ شعرية أخرى" (دار توبقال، 2023). الشاعر الذي كاد أن يكون رائدًا في عدّة أشياء منها أنه أول من أنجز حقيبة فنية مع الفنان فريد بلكاهية في العالم العربي.

يشكل النيسابوري حالة شبيهة بما يُطلق عليه في الأدب بـ "النص الجامع"، فهو يجمع بين الرؤية الفنية والشعرية والسردية، وهذا ما جعل منه مؤسّسًا لشعرية خاصة، منذ عمله "الليلة الثانية بعد الألف" الصادر عام 1975، والذي اعتبره نقاد وشعراء المغرب، مثلما اعتبره محمد بنيس "منعطفًا جذريًا في الأدب المكتوب بالفرنسية في المغرب".

لا ينفي المترجم، محمد بنيس، تعاونه الكامل مع الشاعر في ترجمة أعمال "نجمة نائية"، ذلك لأن شعر النيسابوري هو "نصٌّ جامع"، وثانيًا لأن صفاء صورته الشعرية يجب الحفاظ عليه أثناء الانتقال إلى العربية. وفعلًا، فأثناء قراءة المختارات المترجمة تظهر بكل جلاء مكابدة المترجم في الحفاظ على صوتية البيت، العبارة، الصورة، الاستعارة، الدلالة... ناهيك عن العبارة المشدودة، القوية والتي لا تقول أكثر مما يجب. ومن شأن ذلك كله، كما يعرف المترجمون، أن يشكل اختبارًا مهمًّا للمترجم. وتزداد محنته حين يعمل على نقل أعمال شاعر لا يبني مشروعه الشعري على التبعثر، بل على الاتساق والتماسك، تماسك الأشياء مع ظلالها. إن بنية القصيدة المتماسكة تشكل عنصر قوة مساعدة في الترجمة، لأن المعنى نفسه ينتظم ضمن بنية عامة. عكس القصيدة ذات البناء المفكّك، الذي ينفجر فيه المعنى في كل اتجاه ولا يعرف المترجم بماذا يمسك، فالخيوط تذهب في كل الاتجاهات، وكل "الاتجاهات" أمرٌ لا يروق للمترجم، فبناء المعنى يهزمه ولا يدع له فرصة لبناء مجدٍ جديد للترجمة، إذا اعتبرنا أن كل ترجمة هي مجدٌ جديد.

يتجلّى أفق الشعر في تجربة مصطفى النيسابوري، أو في أفق ترجمته إلى العربية، تحديدًا ولزومًا في بحث الشاعر عن المعنى المطوّق بالغموض، أو المطوّق بتغيّراته حسب الزمان والمكان. فيصبح كل ما هو زمان هو مكان. تلازمٌ نفسي بين مكوّنين يحكمان تجربة الإنسان في الوجود:

"قد يكون هذا السفح المالح للواقع

يشارك أيضًا بفواصل زمنية ممتدّة في تذكّر ما، في لعبة دائمة

بين أهداب زَبَد الأمواج وتأثيرات الأشعّة المعزولة..."

يولّد هذا الوعي بتلازم الزمان والمكان في تجربتنا الواقعية ردّ فعل مباشر وسريع وانفعالات أولية. وحتى إن حدث الانفصال بينهما فبشكل خاطف، أثناء الصدمة، أو الخوف، أو محق الذات لذاتها حين تسمع نواحًا بعيدًا. النواح يتلبّس بالذات، ويصبح شبه ظلٍّ لها، أو اسمًا غسقيًا حزينًا ومتحوّلًا.

الشاعر ينظر إلى الكلمات. لكن في تجربة النيسابوري الألفاظ هي التي لا تتوقّف عن النظر داخلنا:

"ألفاظ لا تتوقّف عن النظر داخلنا

بآنها الثابت الدائم".

اللغة، الكلمات طبيبٌ شرس، يعارك أعماقنا الغامضة. متى حدث ذلك؟ حين ننفصل عن الضوء، ويتحول المكان إلى منصة انحطاط، ويتم، بعد ذلك، استبداله بالمنفى. وكما يحدث في الفن، لا شيء في اللوحة، لا شيء في المعزوفة، لا شيء في القصيدة يحاكي محاكاة كاملة ما يحدث خارجها. الأشياء القريبة منّا، والتي كنا نحتمي بها تبتعد في شكل نأي مفاجئ وغامض:

"... انقطاع طمثِ الأقمار

يبتعدُ

وفي الوقت ذاته تبتعد القلعة".

يسرد النيسابوري، ومترجمه محمد بنيس، بلغة مزدوجة، فرنسية سابقًا وعربية جميلة حاليًا، تراجيديا انحراف كل شيء. إنها حكاية ملحمية لا يرويها إلا أبطال شاركوا فيها، ثمّ أصبحوا أكبر منها. حكاية وهمٍ فلسفي، تحوّلي، تراقب كل شيء وهو يتغيّر ويتنكّر لشكله، وهيئته، وزمنيته السابقة. ووحده الشاعر يصدّق هذا التحول العفوي، بل ويعفيه من أي مبرّر. ثمّة روح تسكن اللغة، أداة الشاعر الوحيدة، وتحوّلها بكل سلطتها، ومعها يتحوّل الكون والواقع. هنا تقع مذبحة العقل:

"كما لو أننا كنّا أمام انحرافٍ عن الواقعي

إذ يتمّ ذبح العقل

من أجل توطيد نبضات تَيَهانٍ

أمام فضاء يغيّره شكُّه من جميع الجهات".

الشاعر يراقب كل ذلك يحدث داخل قصيدته/ فنّه، دون تأفّف أو تبرم، مثلما كان سيفعل الفيلسوف، لنتذكر أن "ما يضحك الشاعر يبكي الفيلسوف". يستمر الشاعر في سرد ملحمة التحولات التي لا تنقطع. يصعد صوت القصيدة إلى أعلى درجاته لينبئ بصعوبة التعرّف على الأشياء التي نعرفها ونكرّرها كلّ يوم.

منذ الستينيات والنيسابوري يعلن أن الشعر فنّ، والقصيدة "نصّ جامع"، وأن كل شيء مألوف من طبيعته صعوبة التعرّف عليه. وأن الانطباعات الخادعة هي ما على الذات الانطلاق منها:

"انطلق من دليل جامدٍ

من انطباعات خادعة

من مجرّد كلمة معلّقة".

نحن لا نعلم أي شيء، ولا نجهل أي شيء. كل شيء أمامنا معلّق ينتظر انطباعاتنا، ومرورنا نحو اليقين به أو الشكّ فيه. فهل الله بلبل عقولنا بعد بلبلة الألسن. كلّ شيء هو "شِبه". وذلك حدث منذ زمن مضى، منذ الصباحات "التي فيها الفؤاد من غير سبب واضحٍ يفيض بالدّموع". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.