}
عروض

"بين الطب والصحافة": الأخلاق أولًا

أحمد طمليه

24 سبتمبر 2023
"قد تكون هذه المرة الأخيرة التي ألتقي فيها بكم"، بهذه الكلمات تحدث وزير الصحة الأردني الأسبق د. زيد حمزة، في حفل إشهار كتابه "بين الطب والصحافة"، الذي جرى، مؤخرًا، في منتدى شومان. يضم الكتاب الذي جاء في 428 صفحة مقالات منشورة في صحيفة "الرأي" الأردنية بين منتصف عام 1997 حتى آخر عام 2000.
وفي إشارة إلى المقالات التي نشرت بعد عام 2000، قال: "إذا تبقى لي من العمر شيء من العزم، ولو ضئيل، فسوف أتابع نشر الأجزاء التالية من الكتاب، أو أتركها لمن بعدي قابلة للنشر".
جاءت هذه الكلمات تعبيرًا عن شعور د. حمزة وقد بلغ سن التسعين من عمره. وقد أغدق بكلمته الشكر لكل من وقف معه وعاونه، وكان له نصيرًا. وامتد الشكر إلى أفراد أسرته، تحديدًا زوجته، على نحو بدت كلمته كأنه يودع وقد أخذ منه العمر ما أخذ.
وقد طغت الكلمة على أجواء الحفل، ليطغى، بالتالي، الاحتفاء بشخص د. حمزة على الاحتفاء بالكتاب. ولتنهال عليه دعوات الصحة والعافية وطول العمر من قبل الحضور، التي تقبلها وكأن لسان حاله يقول: هذه حال الدنيا.
حمزة، الذي يحظى بشعبية واحترام لدى كثير من الأردنيين، منذ كان طبيبًا مختصًا بالأنف والأذن والحنجرة في المستشفيات الحكومية، والذي تحسب له مواقفه الوطنية من قضايا المواطن والقضايا العربية، بدا غير مكترث بما يمكن أن تؤول إليه الحال، بل أشار بكلمات إلى ما يخالف قناعات معروفة عنه منذ سنين، منها إشارته لو عاد به العمر إلى ربيعه الأول سوف يكون أقل التزامًا في  كثير من الشؤون، من ضمنها رعايته الصحية الملتزمة بصحته الشخصية، فالمعروف أنه كان مواظبًا جدًا، ومنذ عقود، على نظام صحي متشدد، على صعيد التغذية، وممارسة الرياضة اليومية. وقد بدا في إشاراته هذه كأنه يسلم أن العمر قصير، والأجدى أن نعيشه بحب، بكل ما يستحقه الحب من أنماط حياة، إذ يقول: "لو عاد بي العمر إلى ربيعي الأول سوف أحضر الغروب كثيرًا، كما الشروق، كما الحياة".
وعلى الرغم مما قد يبدو من وهن في حديثه إلا أنه في الحوار مع الحضور بدأ يقظًا، متمسكًا بمواقفه، ومنها معارضته الشديدة لمشروع الطاقة النووية في الأردن، ودعوته إلى البحث عن سبل بديلة، إذ يرى أن العالم كله بات يتجه نحو بدائل.
كما بدا محبًا للكتابة، وتحدث كيف ما زال يحتفي بما يكتب، وينتظر بترقب شديد مقالته إلى أن تنشر، وكيف يحتفي بها، كأنه أول مقال ينشر له. وقال إنه حين بلغ التسعين، تحدث إلى رئيس تحرير صحيفة "الرأي"، يستأذنه التوقف عن الكتابة بسبب السن، إلا أن رئيس التحرير رفض طلبه، ودعاه إلى مواصلة الكتابة. وهذا ما حدث، إذ يواصل كتابة مقاله الأسبوعي في صحيفة "الرأي"، حتى كتابة هذا التقرير.
يكتب حمزة في تقديمه الموجز لكتابه: "أكتب هذه المقدمة وقد بلغت من العمر تسعين عامًا، وما زلت أحس بالقدرة على مواصلة نشاطي الفكري، معتمدًا على توسيع دائرة اطلاعي والبحث في مختلف الاتجاهات والمصادر، كي أقدم للقارئ ما يحترم عقله، ورجحان أحكامه. وقد تراوحت المقالات بين مواضيع سياسية وأدبية واجتماعية، أو صحية بحكم المهنة، علقت عليها وفق فكر فلسفي آمنت به منذ مطلع شبابي، ومن دون إخلال بالصدقية وبأمانة الكتابة الصحافية".



رغم النهج المعارض الذي اتخذه د. حمزة في حياته، إلا أنه لا يعد معارضًا متفردًا، من خارج السلطة، بل هي معارضة من داخل السلطة، فهو محسوب عليها، سواء بسبب أصوله العشائرية، فهو من عشيرة الصمادي، أو بسبب المواقع الرسمية التي استلمها والتي جعلته قريبًا من صاحب القرار. وهذا ما كان يعد مشكلة بالنسبة له.
في أحد مقالات الكتاب، وقد نشر في 22/5/1997، يعرب عن استغرابه من أن يتسبب انتقاده لوزارة، أو مؤسسة، بغضب الوزير أو المدير عليه، وأن يأخذ هذا الغضب أشكالًا متعددة، بدءًا من إشاحة وجهه عنه إذا التقى به، وصولًا إلى محاولة إيذائه في مصالحه.
يكتب: "كأن تلك الوزارة أو المؤسسة ملك شخصي للمسؤول نفسه الذي ينسى أنه مجرد موظف مكلف برئاستها إلى حين، ومن واجباته الترحيب بالنقد، لأنه يدله على مواقع الخطأ التي لا يراها، أو يرشده إلى طريق أصوب من تلك التي يسلكها في عمله".
ويشير الكاتب في مقال آخر إلى ما يثير دهشته أحيانًا، فهو عندما يكشف عن إجراءات غير سليمة تقوم بها بعض المؤسسات مما لا يخدم المصلحة العامة، فإنه يحرص، في الغالب، على عدم ذكر المؤسسة التي يعنيها بالاسم، كما لا يشير، أحيانًا إلى المسؤول المقصر بالاسم، ومع ذلك تكون النتيجة حنق المسؤول وغضبه، ومحاولة تصيد الكاتب لينال منه.
ويتضح من سياق الكتاب كيف كانت تسبب علاقة الكاتب بالمسؤول حرجًا، خاصة عندما يكون المسؤول المقصر صديقًا للكاتب. وفي هذه الحالة يشير إلى أن المسؤول المعني لا يتورع عن تجاوز هذه الرابطة الإنسانية طالما تناقضت مع مصلحته ومنصبه. ليصل الكاتب إلى نتيجة أن المسألة يجب أن تكون أولًا مسألة أخلاق، قبل أن تكون مسألة ديمقراطية، وحرية تعبير، واحترام رأي.
الكتاب الذي يبدو عنوانه كأنه مختص بالقضايا الطبية، يشمل كثيرًا من القضايا المتنوعة، إذ نقرأ في مقال (الحصار... الأعذار أو الانهيار) عن حصار العراق، الذي يدعو فيه إلى ضرورة الأخذ بالحال التي وصل إليها الشعب العراقي، بعيدًا عن حسابات محاسبة النظام. وفي مقالة بعنوان (امرأة... يكسو رأسها الشيب)، يكتب عن ظاهرة التطبيب بالأعشاب، وكيف يرتكب المنشغلون في خلطات ووصفات من الأعشاب مخالفة للقانون، ولا يراعون قواعد العلم الحديث، ويحلون محل الأطباء والصيادلة في الترويج لخلطاتهم، ويستشهد بامرأة يكسو رأسها الشيب، يسبق اسمها لقب دكتورة، تهرف بكل ما هب ودب عن مختلف الأمراض، وتزعم أنها تعالجها جميعًا في مركزها الطبي الخاص في لبنان. ويصف الكاتب كيف تنهال على هذه المرأة اتصالات من أقطار عربية مختلفة، يلتمسون عندها شفاء من ارتفاع الضغط، والسكري، وقرحة المعدة، والسمنة، وحتى السرطان، بعد أن انصاعوا إلى "شطارتها" في استخدام بعض المصطلحات العلمية في غير مكانها وأوانها وحقيقتها.
تتنوع مقالات الكتاب ما بين مظاهر صحية واجتماعية وأدبية بأسلوب لا يخلو أحيانًا من السخرية، وأحيانًا أخرى من النقد، وفي كثير من الحالات لا تخلو المقالات من طرافة. نأخذ من الطرافة ما كتبه تحت عنوان (الجنس والكذب) يتحدث فيه عن الفضيحة الجنسية للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وسكرتيرته، ويقول في ختام المقال: على القارئ أن يدرك أني لم أقصد أن أسليه بحديث عابر عن الجنس، بل أردت أن أتساءل: أين نحن من الشفافية التي تتعلق بأخلاق بعض القادة في عالمنا العربي، ليس في ما يتعلق بالجنس، وهو المحرم علينا الاقتراب منه سرًا أو علانية، ولا بالكذب المرتبط به، بل بالكذب نفسه على الأقل؟
وُلد د. زيد حمزة يوم 25/5/1932 في محافظة السلط، وتلقّى تعليمه الابتدائي في مدارسها، ثم واصل في مدرستَي العسبلية والعبدلية في العاصمة، وأنهى الثانوية (التوجيهي) في مدرسة التجهيز الثانوية بعمّان عام 1948، وحصل على شهادة التوجيهي المصري من المدرسة السعيدية النموذجية في القاهرة عام 1949، ثم حصل على شهادة البكالوريوس في الطب من جامعة الملك فؤاد في القاهرة عام 1955، وحصل على شهادة الاختصاص في الأذن والأنف والحنجرة من لندن عام 1962.
عمل طبيبًا في وزارة الصحة، متنقلًا بين مستشفى الولادة، ومستشفى البشير، ومستشفى الهلال، ومستشفى الأمراض الداخلية، ومستشفى الأطفال، ثم تولى إدارة مستشفى الأذن والأنف والحنجرة في عمّان عام 1962. استقال من وزارة الصحة عام 1965 ليعمل في عيادته الخاصة.
كان أحد الشركاء المؤسسين لعدد من المجلات، منها مجلة "السمَّاعة"، و"المجلة الطبية الأردنية".
عُيِّن وزيرًا للصحة (1985 ـ 1988)، وانتُخب رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية في جنيف (1986 ـ 1987)، ورئيسًا للمجلس العربي للاختصاصات الطبية (1987 ـ 1989). ترأس مجلس وزراء الصحة العرب عام 1988، وانتُخب رئيسًا للجمعية الوطنية الأردنية لمكافحة التدخين (2009). وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وانتُخب عضوًا في مجلس نقابة الأطباء الأردنية لدورتين متتاليتين (1965 ـ 1969)، كما أنه أخذ عضوية في لجنة إنقاذ القدس، وكان أحد مؤسسي حزب التقدم والعدالة (1992 ـ 1993).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.