}
عروض

مذكرات سيمون دي بوفوار: الذات والتاريخ على متن كلمات

سليمان بختي

25 سبتمبر 2023


تسرد سيمون دي بوفوار (1908 ـ 1986)، بأسلوب مباشر وتفصيلي، وبكثير من الصدق والحميمية، الوقائع والحقائق التي تلف العمر. هذه الكاتبة والمفكرة الفرنسية والفيلسوفة الوجودية والناشطة النسوية التي ارتبط اسمها بالفيلسوف جان بول سارتر تعترف أن كتابة مذكراتها مغامرة محفوفة بالمخاطر. لكنه الصوت الذي رجع صداه من الماضي، رغم إصرارها على عدم قول كل شيء، فتركت أشياء كثيرة في الظل. تعترف بأنها منذ طفولتها كان عليها أن تجرب... لأن كتبها لم تمنحها أي إجابة، بل لعلها كانت هي أسئلة في حد ذاتها.
كتابها "قوة العمر: مذكرات سيمون دي بوفوار"، ترجمة محمد فطومي، الصادر عن دار المدى، 525 صفحة، 2021، مقسم إلى جزأين: الجزء الأول يضم خمسة فصول، والجزء الثاني يعتمد أسلوب التأريخ اليومي.
تقول بوفوار إنها في يفاعها لطالما حلمت بالحرية التي نالتها عندما أتت إلى باريس عام 1929. ولطالما عاشت سعادتها في عزلتها وعالمها الخاص (يكفي أن أغلق بابي كي أشعر بالامتلاء)، لكن حياتها تغيرت وبدأت فعلًا عندما عاد سارتر إلى باريس... "الوقت كان قصيرًا جدًا أمام حواراتنا"، رغم إقرارها أنهما كانا على خطأ في كل شيء. فسارتر كان يعيش ليكتب، وهما اختارا التفاؤل الكانطي بسبب حالة الحماس لليسار. وتعترف: "كنا نجهل وزن الحقيقة على جميع المستويات"، فقررا عدم الارتباط بشيء، وممارسة حرية النشاط الفكري، واخترعا سعادتهما وفق حدود أوضاعهما المادية "جيوبنا كانت مسطحة". كانا يصنعان صلتهما بالعالم، فوجدا في اللعب حماية من الطبع الجاد الذي كانا يرفضانه. وهبها سارتر شخصية ثانية، لأن القيود لم تدخل بينهما، فأضاءت الماركسية والتحليل النفسي الطريق أمامهما.
رمت سيمون بنفسها في عالم الحياة والتجربة، فاكتشفت أن السماء فوق رأسها غير متصدعة، وأن السعادة مقصد يصعب تخيله بصورة مشتركة. نذرت نفسها في سبيلها، وعكفت على تحقيقها بصورة دؤوبة. وكانت باريس بالنسبة لها وسارتر مركز الأرض، وسط شلة من الأصدقاء والأقارب. وتشير دي بوفوار إلى أن أصالة سارتر وجديده كان في أنه يولي الواقع وزنه كاملًا، مانحًا الضمير استقلالية سامية. وتسهب في وصف أصدقاء سارتر، مثل آرون، ونيزان، ومانييز، ولا تتردد بالبوح أن فكرة الزواج كانت تضايقها، وأن الحب يجب أن يكون كاملًا. تصف بدقة تفاصيل الأمسيات والنقاشات في المطاعم والمقاهي، حيث اكتشفت المباهج الضيقة. وفي مقارنة سريعة بينها وسارتر، تشير إلى أنه لم يكن ميالًا لخفقان القلب، وأنها كانت أقل هوسًا بالأدب من سارتر، لكن متعطشة للمعرفة مثله... "قرأنا بشكل مهول، نتعلم كل شيء عن بلد أجنبي من خلال أدبه (خاصة الاتحاد السوفياتي)". في سن التاسعة عشرة، شعرت سيمون بأنها بحاجة لأن تكتب... كانت ممتلئة. ثم تشير إلى علاقة عابرة حصلت بين سارتر وابنة صاحب صيدلية. فهي لم تشعر يومًا كامرأة بحماس تجاه الأمومة.
جالا في مدن وعواصم العالم: لندن، فلورنسا، برلين، وغيرها. في عاصمة الضباب، بدا كل شيء غريبًا بالنسبة لهما. وفي كل مدينة كانا يستمتعان بالاختلاط بالحشود. كانت كراهية سيمون للنظام البرجوازي صادقة... "ثورة فردية ضد مجتمع قذر". عندما يبتعد سارتر، تدخل سيمون في مغامرات سريعة، وتستمتع بحريتها واكتشافاتها الصغيرة. في برلين، لم تبدُ المدينة مكبلة بالديكتاتورية في نظر سائح عادي، فالشوارع مبتهجة ومشرقة. اهتماماتهما الأدبية شملت جويس، فيرجينيا وولف، هيمنغواي، فوكنر، وخاصة كافكا. كانا يكرهان هتلر والنازية إلى أبعد حدود: "... آلاف الاعلام النازية كانت ترفرف من النوافذ والصور... متعجرفة بصورة لا تحتمل... الاستعراض الضخم، الأيادي الممدودة، النظرات الثابة، شعب بأسره في غفوة...".
هم آخر نغَّص حياتهم: بدأت الكاتبة تشعر بالتقدم في السن، ودخل سارتر بأزمة نفسية بسبب الضغط والتعب. تبنيا فتاة شابة اسمها أولغا تحول وجودها في حياتهما إلى مشاكل؛ "كنا دائمًا منتبهين إزاء الأشخاص الذين تتقاطع معهم دروبنا"، وتعترف: "... لسنا سوى واحد".
لطالما كان السفر إحدى مسراتها الملتهبة. تستمتع بترك سارتر الحرية لها والاهتمام بتفاصيل وإجراءات السفر والتنقل. في إسبانيا، وتحديدًا في برشلونة ومدريد، اكتشفا ظاهرة مصارعة الثيران، حيث كان فضول سارتر أكبر من فضولها، لكن أقل شراهة. كانت سيمون تجد متعة كبيرة في إلقاء الدروس لأنها لا تتطلب إعدادًا. في تاراكسون، تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل سائقي شاحنة، كما تعرضت للتحرش الجنسي من جانب السيدة تورملان، مدرسة اللغة الإنكليزية في المعهد. كانت تبقى على تواصل مع سارتر بالمراسلة... "أوراقنا طافحة بشتى التفاصيل".




كان انتماؤهما وعيشهما ساخرًا من الطبقة البورجوازية. وحتى وجود الغرباء بينهما كان يؤنس أيامها وينقذها من الرتابة. في جو عابق بطرح الأسئلة، غالبًا ما أزعج سارتر غياب الاحترام الإنساني الذي كان عاليًا في تلك الفترة. كان همهما القضاء على الطبقة المهيمنة. "كنت عاجزة عن تحمل كذبها، حمقها، تعصبها، فضائلها المزيفة... كم كان عددها كبيرًا!" كان همهما أن ينحازا إلى البروليتاريا لا أكثر. وتعترف بتناقض لافت: "... كنا منجذبين على نحو متناقض إلى أميركا التي ندين نظامها والاتحاد السوفياتي الذي تجري فيه تجارب أحببناها، لكنها تتركنا على الحياد".
تحتل الحرب الأهلية الإسبانية حيزًا مهمًا من فصول الكتاب، وهي مأساة هيمنت على حياة سيمون وسارتر لسنتين. كانت الحرب ملحمة حزينة وجدا نفسيهما معنيين بها كثيرًا. كانا غاضبين بسبب عدم دعم فرنسا للثوار الجمهوريين على عكس ما فعل هتلر وموسوليني في دعمهما لليمين. وفي الفصل حيز للعلاقات الشخصية والمشاكل التي كانت تقع بين الثلاثي بسبب أولغا. "كانت نوبات جفائها تزعج سارتر أكثر من مناسبات شعوره بتحسن علاقتهما. كانت أولغا تجد صعوبة بالغة في نفاد صبره المستمر". لكن أولغا تتجاوز الخطوط الحمر، فتقيم علاقة مع صديق مشترك يدعى بوست كان هو بدوره على علاقة بصديق آخر اسمه ماركو! رغم ذلك، يقرر سارتر الحفاظ على علاقة جيدة معها من دون أن يعود لها حيز في قلبه. عادت سيمون إلى الانغماس في مشاغلها ومتعها ولو بدرجة أقل من الفرح... "أحسست طوال الوقت أني متعبة".
تعود الكاتبة إلى الحرب الأهلية الإسبانية عبر مرويات صديق اسمه فرناند، قاتل في شوارع مدريد المدمرة. تعترف أن السبب وراء كل هزائم الجمهوريين هو: انعدام الأسلحة. شعرت وشلتها بالعجز التام والعزلة. وترسم علامات استفهام حول الموقف الحقيقي للاتحاد السوفياتي من الحرب الإسبانية. وصار المستقبل مظلمًا بسبب انقسام اليسار في مواجهة فرانكو.
تسافر مع سارتر ولوران بوست إلى اليونان، ليكتشفوا أثينا كعاصمة لدولة عسكرية. "كانت فوضوية وبائسة جدًا... رشقنا أطفال بالحجارة". أمضوا أيامهم في الشوارع والأسواق والميناء والمتاحف، خاصة الأكروبول. أصيبوا بالذهول أمام معابد الإغريق.
تنتقل سيمون من الشخصي إلى العام السياسي برشاقة. ففي فرنسا، احتضرت الجبهة الشعبية أشهرًا. وفيما كان اليسار يتهاوى، راحت الفاشية تتفاقم. كان هتلر وموسوليني بصدد احتلال إسبانيا. هدد الجنرال فرانكو كاتالونيا. كانت حصيلة الغارات في يومين 1300 قتيل و4000 جريح. سقطت النمسا في يد هتلر. كانت المأساة الإسبانية تؤسفهما، والألمان يرعبونهما. كانا يرتادان السينما في انتظام، ووجدا أن الكوميديا الأميركية ممتعة. لم تكن للحكايات التي ترويها تلك الأفلام معنى، لكنها كانت محبوكة بشكل مذهل. فترت صداقتهما وسط معاركهما مع دور النشر: غاليمار رفضت مخطوط لسيمون، فقدمه سارتر لغراسيت التي رفضته بدورها. قاما برحلة إلى المغرب متنقلين بين الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش قبل العودة إلى فرنسا. أحس اليسار الفرنسي برمته بالحزن والمسؤولية حيال انتصار فرانكو.
تشير دي بوفوار إلى أن حياتها كانت مشروعها، وأنها آمنت بالقدرة على الإمساك بها. فهي قد منحتها كثيرًا: كتبًا كثيرة، لوحات، مدنًا، وجوهًا، وأيضًا الأفكار والعواطف والأحاسيس. وفي إشارة إلى الثرثرات الاجتماعية حولها، تقول: "سيقال إن سارتر بالنسبة لي كان تعويضًا عن الأب، وأولغا تعويضًا عن الطفل...".
تكتب سيمون دي بوفوار في المقدمة أن التاريخ قد تداعى فجأة فوق رأسها، ووجدت نفسها مشتتة في أركان الأرض الأربعة. فالسعادة بالنسبة لها هي طريقتها لفهم العالم... كان عليها من جديد اكتشاف علاقات مع الكون الذي لم تعد تعرف وجهه. وهي بصدد رواية هذا التحول. في رأيها، أن هتلر لن يجرؤ على مهاجمة بولونيا، على عكس سارتر وصديقهما بوست. بعد توقيع ستالين معاهدة مع ألمانيا، تعبر الكاتبة عن احباطها: "كان وضعنا متناقضًا وسيئًا". كانت خائفة على سارتر، ولم تفكر لحظة في الهروب من باريس. ففي الشوارع، كان الناس مصطفين في طابور طويل للحصول على أقنعة مضادة للغاز. فالعالم في الخارج كان مريعًا. دخل سارتر في الخدمة العسكرية، وصارت الأيام تمضي إلى الكآبة من الصباح إلى المساء... لم تعد للوقت قيمة. وكل شيء صار مسمومًا ورهيبًا. الألمان يقتربون من باريس يومًا بعد آخر. "لم تعد لي القدرة على العمل". قصفت باريس، وسقط عدد كبير من الضحايا. قيل لها إن سارتر سيقع أسيرًا... فتعترف: "لن أكون شيئًا من دونه". تسرد مشاهد الحرب وآثارها. عادت إلى باريس لتجدها في جحيم تحت الاحتلال الألماني. كانت فارغة بصورة عجائبية، والجو رمادي، بارد قليلًا، كل شيء مقفر... يا للفراغ! لا بنزين ولا سيارات في الشوارع؛ الحافلات نادرة، وكان الجولان بالدراجات الهوائية حصريًا. جعلوا من فرنسا غرفة علوية تابعة لألمانيا. تعلن سيمون "إن هتلر والنازية عالم أكرهه من بعيد...". تصلها رسالة من سارتر تقول إنه يكتب، وأنشأ صداقات. يعود بعد فترة إلى باريس وينخرط في نشاطات فردية؛ "كنا نفكر في إصلاح المستقبل". يقومان برحلات إلى الريف الفرنسي. "فرنسا اليوم ليست أفضل من إقامة محروسة، معزولة عن باقي الأرض... خنقنا الليل".
في تلك الفترة، كان كل شيء غاليًا، حتى الأمل. يبقى لسيمون وقت للحديث عن إنتاجها الأدبي، وانتقاد نواقص رواياتها، رواية "الضيفة". عبر البي بي سي، يعلم سارتر وسيمون بنزول الإنكليز والأميركان على السواحل الفرنسية. "تبادلنا التهاني واشتغلنا بحماس"، تعترف الكاتبة بأن الحرب قد حرمتها مسراتها الأروع... رحت أحلق فوق حياتي وفوق الأفق الجماعي... لا يمر أسبوع إلا وألعب لعبة القلق والشك... سيأتي الغياب والفقد.
كتاب "قوة العمر" أكثر من تجربة، وأبعد من سيرة، هو سجل للذات والتاريخ والعلاقة الإنسانية على متن الكلمات والمشاعر والتحولات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.