}
عروض

المعرفة والسلطة بالتراث الإسلامي: تأويل النص أيديولوجيًا وصولًا للحداثة

دارين حوماني

26 سبتمبر 2023

يرصد كتاب "المعرفة والسلطة في التراث الإسلامي" للباحث والكاتب اللبناني سعيد علي نجدي الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة، 2023، 416 صفحة) العلاقة بين الأيديولوجيا والسلطة على مستويات عدة بالسلب والإيجاب، وتحديدًا خاصية الاستثمار، استثمار السلطة في حقل الأيديولوجيا واستثمار الأيديولوجيا في حقل السلطة وما ينبثق عن ذلك من حركات نتيجة الصراع على السلطة، محدّدًا (أي الكاتب) نموذجًا لهذه الدراسة وهو الإسماعيلية التي تندرج تحت الاتجاه الشيعي، وتسميتها نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق (وهو الإمام السادس شيعيًا المتحدّرين من ولد فاطمة ابنة النبي محمد، بفرعه الحسيني)، وطارحًا عددًا من التساؤلات حول مشروع الإسماعيلية التي استعانت بالكثير من الموروثات الفلسفية، خصوصًا الفلسفة اليونانية والفلسفة الشرقية، مدخلةً الأديان السابقة في مشروعها، والأهم من ذلك أنها أدخلت مفهوم الباطن والمرمّز على تأويل النص القرآني بما يخدم مصالحها. يكتب نجدي: "السيادة لمؤسسات احتكار الشرعية التي تعطي اللغة شرعية وسلطة تبديل المهماز، والتي تختفي مع الزمن، والإحالات تصبح عسيرة ولحظة النشوء للحدث تدخل في طي النسيان، هكذا تأخذ شرعيتها، فاللغة رافد مهم للغاية قامت عليه الحضارة العربية كمكوّن رئيسي للثقافة، وذلك انطلاقًا من النص، فما قبل القرآن لم يكن للعرب نص وكانت لغتهم شفهية، وربما بسبب هذا لم يكن للعرب من حضور، وما سمح لهم لاحقًا بتبوؤ مراكز مهمة في التاريخ هو النص، الذي يوفّر الرساميل الرمزية. لكن الإشكالية هي في الصراع على احتكار المعنى من خلال اللغة، لذلك قامت مؤسسات السلطة وبَنَت أداليج متنوعة، حتى يصبح لديها شرعية سلطة القول واستثمار اللغة".   

يسرد الكتاب تاريخيًا كيفية نشوء الإسماعيلية وتوسّعها وصولًا إلى تشييدها للإمبراطورية الفاطمية ثم انهيارها وما بعد ذلك من انتقال ما بين "الستر والكشف" حتى يومنا هذا. فبعد وفاة الإمام السادس شيعيًا، جعفر الصادق، حصل انشقاق بين أتباع هذا المذهب، فمنهم من قال بإمامة ابنه موسى (الكاظم) وهم الشيعة، الأقوى بين هذه الفرق اليوم، ومنهم من قال بإمامة ابنه محمد (الشمطية)، ومنهم من قال بإمامة ابنه عبد الله (الفطحية)، ومنهم من قال بإمامة ابنه البكر المتوفى قبله إسماعيل ثم إمامة ابنه محمد بن إسماعيل، وهي الإسماعيلية موضوع دراسة الباحث. ويعرض الباحث لأفخاذ قريش بين أمية وهاشم وسلالتهما وصولًا إلى الأئمة الاثني عشرية، متحدثًا بالتفصيل عن الاتجاهات في الصراع الداخلي لقريش بين فرع بني أمية والفرع العلوي بني هاشم والعباسي الهاشمي لاحقًا، ولهذه الصراعات أبعاد عدة، فإضافة إلى البعد السياسي والعقائدي أخذ بعدًا مسلحًا في زمن علي ومعاوية ثم في زمن الحسين ويزيد، ثم لاحقًا في وصول بني العباس للحكم وبناء الدولة العباسية. وهذه الصراعات جميعها خرجت من رحم قريش، وبُعدها سلطوي بشكل رئيسي، ويسأل الكاتب: "ما مبرّر هذه الصراعات بين الأفخاذ القرابية، أليست من أجل السلطة؟".

ويسرد الكاتب الانتفاضات العلوية الأولى ضد الأمويين والحركات التحررية التي استفاد منها الإسماعيليون، ثم فترة الدعاة والقرامطة (الذين كانوا أول حركة سرية للإسماعيليين في مدينة سلمية السورية)، وقد قدّم الإسماعيليون أنفسهم حراسًا للميراث والهوية عند الفئات المغلوبة "فكربلاء تعتبر الأيقونة التي يستفيد منها أصحاب مشاريع السلطة المضادة". وقد استفاد من ذلك كل الذين حكموا وبنوا إمبراطوريات باسم الدين الإسلامي، فالعباسيون حين استردوا السلطة من بني أمية بحجة ما لقيه آل البيت من تقتيل، التفوا على العلويين ونكّلوا بهم. ثم حدث الاقتتال لنفس الأسباب بين العباسيين والإسماعيليين لاحقًا، ولأسباب ثورية تتعلق بانتشار الفقر والضرائب المرتفعة، وحيث كان الكثير يدخل في الإسلام للتخلص من الجزية التي كانت مفروضة على غير المسلمين. وثمة مرويات تاريخية مفصّلة في الكتاب عن الإسماعيلية والفرق الأخرى ونشوئها وصراعاتها المتتالية.

كتابات متعدّدة حول الإسماعيليين

يأخذ الباحث من كتابات متعددة للإحاطة بموضوعه دون أن يستثني روايات المستشرقين الذين أطلقوا صفة "الحشاشين" على الإسماعيليين لأنهم كانوا يغيرون على المحميات الصليبية. في المقابل، كان هناك عدد من الدراسات الحديثة التي انبرت تدافع عن الإسماعيلية أهمها دراسات فرهاد دفتري، العضو في "مركز الدراسات الإسماعيلية" في لندن، فيما انبرى عدد آخر من الباحثين لتشويه التراث الإسماعيلي وقدّمه على الهيئة السحرية اللاعقلية. ويرى الكاتب أن الإسماعيلية حركة فيها بُعد تحرري، ثوري، متقبّل للآخر، نقدي، حواري، عقلي، وغير مسجونة بالنقل والنص، بل فتحت على تأويل النص لأقصى حدوده غير متقيدة بإطار الشريعة.

ويجد الباحث أن أهمية دراسة هذه الفرقة ليس في كونها فرقة مذهبية عقائدية، بل لأنها أنشأت دولًا في مصر والمغرب وبلاد فارس وسورية واليمن، والأهم أنها عملت على تطوير شروط إمكان دينامية في حقول المعرفة والسلطة وفي تأثيرها في حقول الفكر التي أحدثت تحولات لا تزال باقية إلى اليوم، فالفلسفة مدينة لها بـ"رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا"، التي تعتبر أول منظومة فكرية ظهرت في العالم الإسلامي بمنهجها المتأثر بالفلسفة اليونانية، ومهّدت بذلك لفلاسفة الإسلام أن يغوصوا في تراث الغير، كالنسفي والرازي والكرماني والفارابي وابن طفيل وغيرهم، وكان لهم تأويلهم للقرآن من خلال المنهج الباطني، والأهم هو البعد الثوري في أفعالهم. وفي "رسائل الصفا" نلمس بقوة الاستشهاد بالديانات والفلاسفة حيث يقول المستشرق دي بور: "أفلحت الحكمة اليونانية في أن تستوطن الشرق وذلك عن طريق إخوان الصفا".

يرى الكاتب أن الأهمية الفكرية للحركة الإسماعيلية أنها تأتي من حيث الزمان بعد حركة المعتزلة في العالم الإسلامي. فقد اعتمدت الإسماعيلية الباطن بشكل كلي كمنهج للتأويل وربطت المقولات كلها والنص بـ"الإمام"، وبالثنائيات "الظاهر والباطن"، "المستقر والمستودع"، وعملت على بناء منظومة واسعة للمعنى. ولاحقًا تصدّى الغزالي (الأشعري المذهب) للفكر الباطني أي الإسماعيلية وفلاسفتها وألّف "فضائح الباطنية" و"تهافت الفلاسفة" مشيرًا إلى ابن سينا الإسماعيلي المنهج "وهذا يدل على مدى الصراع التي جنّدت فيه السلطة بنى المعرفة كأداة".

يسأل الكاتب: "ما مبرّر هذه الصراعات بين الأفخاذ القرابية، أليست من أجل السلطة؟"


وتأتي أهمية الإسماعيلية بنظر الكاتب من كونها أسّست لدول، أي أنها لم تقتصر على الجانب المعرفي فقط، بل اهتمت بالجانب السلطوي، ففي الخط الاثني عشري (الشيعة) لم يُقم أي إمام منهم دولة، ففي الوقت الذي نادى فيه أربعة من أبناء جعفر الصادق بالإمامة، امتنع موسى الكاظم، أحد هؤلاء الأبناء وهو الإمام السابع شيعيًا ومات مسمومًا في السجن أيام الخليفة العباسي الرشيد عام 779م، امتنع عن ممارسة أي دور سياسي وصولًا إلى الإمام الثاني عشر المهدي، أما ابن أخيه محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فقد مهّد لبناء دولته، مستفيدًا من ركون الكاظم ومن تلاه، وحيث كُتب لهذه الدولة النجاح لاحقًا مع أئمة الإسماعيلية الذين حكموا بدءًا من عبيد الله المهدي (934 م) مؤسس الدول الفاطمية في المغرب ثم في مصر، ومن هذه الدول نشأت فرق منها النزارية، والموحّدون الدروز وهم فرع من الإسماعيلية. وقد قامت السلطة في هذه الدول على تلك الأيديولوجيا/ الدعوة من خلال الدعاة المرسلين إلى القبائل وغيرهم. ويعرض الكاتب للأنتليجنسيا الإسماعيلية وهي الطبقة المكونة من الدعاة الذي اشتغلوا بالفكر وأوصلوا الإسماعيلية لهذا النجاح. وكان الفضل الأكبر للدعاة الذين كان يرسلهم أبو عبدالله الشيعي لتهيئة الظروف للزحف وكانوا يعملون على تأليب الناس.

ويسرد الكاتب كيف دخل أبو عبد الله الشيعي مدينة قيروان واستقر في دار الإمارة وأمر الخطباء بإعلان خطب المساجد باسم الخليفة الفاطمي الأول عبيد الله المهدي وسك العملات باسمه وأبطل اسم الخليفة العباسي، ولما وصل عبيد الله المهدي إلى القيروان، وخوفًا من نفوذ أبي عبد الله الشيعي أقدم على إعدامه وتصفية آخرين ممن كان يخاف من توسع سلطتهم، حيث شعر بأن شرعيته غير قوية بوجود داعيته الشيعي. وعمل المهدي على إزالة العقبات من طريقه. في المقابل تبنّى الفاطميون سياسة تسامحية تجاه المذاهب والأديان الأخرى وإعطائهم الحرية، وقد عُيّن عدد من النصارى في مراكز وزارية وعدد من اليهود أيضًا في مناصب رفيعة، ومنهم الوزير المسيحي القبطي عيسى بن نسطوريوس واليهودي مناشا بن إبراهيم. وتزوج العزيز بامرأة نصرانية أصبح شقيقاها أورستوس وأورسينوس على التوالي، البطريرك المالكان للقدس ومتروبوليت القاهرة، ويشير الباحث هاينتس إلى أهمية هذا الموضوع خصوصًا ابتعاد الإسماعيلية عن التعصّب. وعمل المهدي على بناء شبكة طرق لربط المدن فتضاعفت موارد الدولة بسبب حركة التجارة، والأهم هو بناء المهدي لجامع الأزهر الذي أصبح جامعة تابعة للمذهب الشافعي في حين أنه كان قائمًا للإسماعيلية وهم من بنوه من عام 970 م حتى عام 972 م. وكان للأزهر دور كبير في نشر المعرفة الإسماعيلية. كما بنى الطوسي في ألموت مرصدًا يعتبر الأكثر حداثة في ذلك الحين، وهذا المرصد ساعد الأوروبيين في العثور على طريق رأس الرجاء الصالح. لكن الحاكم بأمر الله اتبع سياسة الاضطهاد مع المسيحيين وما لبث أن تراجع عن ذلك بسبب تدهور التجارة مع أوروبا. إذًا الانفتاح والتشدد، برأي الكاتب، ينطلق من معايير سياسية واقتصادية في كثير من الأحيان. كما يعرض الكاتب لعلاقة العلماء مع الحكام، حيث استجلب الحاكم بأمر الله ابن الهيثم، الذي لم يكن إسماعيليًا، بل لكونه عالمًا يستطيع خدمة المشروع (السيطرة)، "إذًا الإسماعيلية هي حركة صاحبة مشروع لا تنظر إلى الآخر نظرة مذهبية بل من خلال إمكانية الاستفادة منه، وتوظيف جميع الأبعاد".

والحركة الإسماعيلية منذ نشوئها في حالة حرب في التاريخ، كانشقاق القرامطة وتصفية الدعاة بعضهم، ومرة بإبادة مدينة السلمية، أو قيام الإسماعيليين بأعمال عنف وأخذ الحجر الأسود في مكة لأنه غير مهم من الناحية العقائدية، واللعب على وتر التهميش والظلم واغتصاب الحق من أحفاد الرسول، وقد توجهت الإسماعيلية إلى وجهاء القبائل لإقناع الناس، وهنا يأخذنا الكاتب إلى موضوع المعرفة بوصفها أيديولوجيا في خدمة السلطة وحيث شكّلت المعرفة الإسماعيلية قوة رافعة للسلطة.

الأيديولوجيا واليوتوبيا

لدعم مشروعه البحثي، يقرأ نجدي في عدد من المفاهيم، السلطة، النخبة، الأيديولوجيا واليوتوبيا من خلال قراءات لعدد من الباحثين منهم جورج كانغيلام وباشلار وبوبر وبرتراند راسل وديفيد هيوم وجورج غادامير وبول ريكور وجيل دولوز وسيميولوجية رولان بارت للوقوف عند عتبة النصوص الإسماعيلية القديمة، والتي هي نصوص متعدّدة الدّوال، ويستحضر أيضًا ميشيل فوكو الذي حاول في كتابه "الكلمات والأشياء" فهم الأنماط العقلية الكامنة خلف طريقة التفكير المعرفية والعلمية مشيرًا إلى ما تكتنفه العلوم الإنسانية من غموض وهو ما يشكل في عمقها سطحية، "لأنها لو كانت تتمتع بقوة الموضوع لما كانت بهذا الغموض". وفوكو أيضًا استفاد من نيتشه ومطرقته عبر الكشف عن بنية المعرفة لما فيها من بُعد أداتي للسيطرة، وتعقّب فوكو استراتيجية السلطة في كتبه "تاريخ الجنون" و"وولادة السجن" و"ولادة العيادة" حيث وجد في السلطة مراقبة للجسد وتدجينًا له بغية جعله أكثر امتثالية. أما رواد مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر- أدورنو) فقد دشّنا نقدًا لمشروع الأنوار في عملهما "جدل التنوير" معتبرين أن هذا المشروع يشكل خطابًا لسيطرة كلية على الإنسان من خلال المعرفة والتقنية.

وعن الأيديولوجيا واليوتوبيا يعتبر كارل مانهايم أن الزيف هو الذي خلق مفهوم الأيديولوجيا وهو يشبه المرض الروحي، ويرى مانهايم أن الأيديولوجيا واليوتوبيا تشتركان في معنى واحد، وهو الابتعاد عن الواقع والعجز عن إدراكه، إلا أن الأدلوجة متعلقة بوضع تجاوزه التطور واليوتوبيا بمستقبل مستبعد التحقيق، وكل منظومة فكرية قد تكتسي صبغة أدلوجة أو يوتوبيا بحسب الظرف التاريخي الذي تظهر فيها. وكان عبد الله العروي قد عرض لهذا المفهوم بنظرة نقدية من خلال كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وبحسب العروي، لفظة الدعوة في العلوم الإسلامية شبيهة بالدور الذي تؤديه كلمة أيديولوجيا، وهو ما استفاد منه نجدي في بحثه، "لأن الإسماعيلية أولًا دعوة وخطاب كوني، له مؤسساته في تلقين الدعوة/ الأيديولوجيا" والكلمتان متشابهتان لما تستبطنه كل كلمة من أدوار ومعانٍ ووظائف سياسية إدماجية. أما بالنسبة لبول ريكور فالأيديولوجيا تميل إلى الماضي لإضفاء طابع الشرعية، بينما اليوتوبيا تتمتع بعنصر مستقبلي ينشد التغيير وهي تختزن مشاعر الاضطهاد، فاليوتوبيا الثورية عادة عندما تصل إلى السلطة تصبح أيديولوجيا وتميل. ويربط الكاتب بين هذه المفاهيم وبين الإسماعيلية التي كانت يوتوبيا في مرحلة الستر وأصبحت أيديولوجيا في مراحل القوة والإمبراطورية ولأنها استعانت بالمعرفة كسلاح.

عملت الإسماعيلية على ربط شامل للزمن بشكل دائري بدءًا بأول دور هو دور آدم وانتهاء بآخر الزمان مع الإمامة، أي يبدأ بالإمام الباطن، وهو الأساس، لأن الظاهر هم النطقاء، ظاهر الشريعة، بينما الإمامة هي لكشف باطن الشريعة وهي الغاية الكبرى من أجل معرفة الحقيقة وتخليص النفس، وعند هذا الحدّ تتوضّح علاقة المعرفة بالسلطة لتكون علاقة تبادل وتوزيع على مستوى المعنى والرموز. ويتساءل الكاتب عن سبب قيام هذه الحركة الباطنية؟ ردًا على ماذا؟ خصوصًا أنها اعتمدت على رموز وشفرات، وهذه الأدلوجة لا تزال تحرك جماعات، أي هذا التراث الذي لا يزال يمارس سلطة إلى اليوم على مستوى الفهم ومستوى الوعي.

ويرصد الكاتب نشاطًا لا يزال أشبه بالعلاقة بين العالِم والغلام، أي عدم وجود للتفكير الحر بطرح الأسئلة بشكل نقدي، وهذا ما ينفتح على العقلية المتسلطة، ليس في بنية معينة من أبنية المجتمع وحسب، بل في الكثير من البنى وأخطرها وجودًا في المؤسسات الفكرية.

بنى المهدي جامع الأزهر الذي أصبح جامعة تابعة للمذهب الشافعي في حين أنه كان قائمًا للإسماعيلية وهم من بنوه من عام 970 م حتى عام 972 م


ويتساءل الكاتب "كيف لرجل اليوم، ممثلًا بالآغا خان كريم شاه الحسيني (1936-) أن يكون على ما كان يتمتع به ممثولًا لمراتب الوجود كلها، وله سلطة نسخ الشريعة جريًا على ما كان يتمتع به الأنبياء والرسل والأئمة وهو يعيش في الغرب ومتزوج بنساء غربيات وقد أطلق إرشادات متحررة ما يخص شعائر الدين، وأن تكون له ولاية على الناس وهنا ندخل في سلطة اللغة، أي أن هذه اللغة لو صدرت عن أحد آخر فهل كانت ستتمتع بهذه الشرعية؟". والآغا الحسيني اليوم هو إمام الإسماعيليين، ويعيش في الغرب. ويعتبر الإمام الإسماعيلي الحالي إمامًا مقدسًا وله صفات الأئمة الأوائل، وله سلطة تأويل النص، وهذا يأخذنا إلى تعديل الشريعة ونسخ جديدة لها، وحيث "لم نرَ الإسماعيلية نفسها على امتداد الزمن، بل إننا سنكتشف أكثر من إسماعيلية بحسب كل فترة".

ومفهوم الولاية للإمام، مع عدم وجود دولة خاصة للحكم، تصبح ذات بُعد روحي، من دون البُعد التنفيذي الذي كان يتمتع به أئمة الإسماعيلية أيام الدولة الفاطمية. ويتمثل البعد الروحي في إرشادات الحسيني اليوم التي تشجّع على الانخراط في أنظمة البلدان وعدم الدخول في صراعات مع الحكام والأنظمة، ومن هذه الأمثلة إسماعيليو سورية، فعلى الرغم من الرؤية المختلفة للأغا خان للسياسة المختلف فيها مع النظام السوري، إلا أنه لا يحبّذ دخول الجماعة الإسماعيلية في الصراع السياسي، والذي أخذ طابعًا مذهبيًا برأيه. وقد دعم النظام بالمال بهدف حماية الإسماعيليين في سورية، ومن أجل إعادة إعمار سورية.

في النظر إلى التراث العربي وحتى يومنا، يُنظر إلى الإمامة بوصفها أداة ثورية لمناهضة كل سلطة لما لها من تأثير في الوجدان الداخلي للفئات التي استبعدت، لهذا استُخدم موضوع الإمامة والغيبة كشعار ووسيلة لغاية الوصول إلى السلطة، برأي الكاتب، فكل صاحب مشروع للسلطة كان يلجأ إلى تسويق فكرة الإمامة، ويستغل مظلومية أهل البيت واغتصاب السلطة منهم. ومن أجل إبراز معقولية الذات يتم استبعاد الآخر وتقديم هذه الذات على أنها صاحبة الحق، لذلك فإن النصوص هي لعبة قوى، فيها صراع وتكفير، وإبداعات وإنشاءات للإيهام بامتلاك الحقيقة. وقد بنت الإسماعيلية رؤية كونية من الإلهيات حتى الإمساك بالسلطة، عابرة بين التستر وبين الظهور حيث الحبكة بالظاهر والباطن والإمام المستتر أو المستودع، وحيث أن قوة نص هذه الفرقة في احتجابها على المعنى الذي لا يزال يؤول منذ الغزالي وحتى محمد عابد الجابري اليوم.

يتمحور ذلك كله برأي الكاتب حول إشكالية التسلط، أي سلطة الفرض والطاعة والإكراه، والتي تعود إلى فكرة الولاية على الناس مقابل فكرة ولاية الناس على أنفسهم، انطلاقًا من أن الإسلام رسالة لا مشروع حكم، أي أنه دعوة إرشادية للناس تختص بالخلاص الروحي، يقول الكاتب: "هذا ما يستدعي التنبّه له، خصوصًا ما نعيشه اليوم على صعيد فقهاء السلطة وعمائمها، والذين أول ما ضربوا ضربوا الدين، بمعنى تسليعه وتجويفه من منبعه الروحي، ليفقد بُعده الإيماني، ويتحول إلى ضرب من ضروب الطقوس والتديّن المرضي، والأخطر التقديس الذي مسّ بالتوحيد".

يحاول نجدي في مشروعه البحثي هذا الرجوع إلى منابع الاستبداد وفهم أنماط السلطة في علاقتها مع الناس، وتبيان تأثير هذه الأيديولوجيا في الفكر والسياسة والتيارات واستفادتها من موروثات عملت على تأويلات بعضها وإغفال بعضها الآخر، وبناء أنظمة خطاب سلطوية. وحثّ الكاتب جيل اليوم على بناء تساؤلات حول منابع الاستبداد، وهو جيل يعيش بين أفقين من الماضي والحاضر، من دون فعل، وهنا عملية التعطيل للفعل المعلّق، برأي الباحث، فجيل اليوم "في العلن يعيش ويساير فيحضر الماضي فيه بشكل مشوّه، وفي السر تكون عملية التعويض بأن يعيش الحاضر. وهذا ما يسبّب انشطارًا على مستوى الذات، خوفًا من التعسّف والخوف من أن يخاف الفرد ويعيش عقدة الذنب". ويرى الكاتب أن الآغا خان حاول أن يتنبّه إلى أن القوة هي لمن يستطيع أن يضيف للإنسانية من قيم التقبّل والحوار المنفتح، أي ما يعطي دفقًا للهوية من خلال التقابل لا الانغلاق، "لأن الانغلاق موت"، فقدّم إرشادات جديدة "وإلا فقد سحره ورمزيّته".

والصراع منذ البدء كان صراعًا على امتلاك مفاتيح القوة، وعلى امتلاك الإمامة وهو صراع بين الأخوة بني أمية وبني هاشم، ثم بين بني هاشم أنفسهم، وهو الذي شكّل نواة رسمت معالم فكرية ومذهبية عدة، والإسماعيلية نجحت أكثر من غيرها مطوّرة عمل الدعوة ومستفيدة من أخطاء الآخرين.

يرى الآغا خان الحالي أن التجديد الديني ضروري، طارحًا عددًا من الأفكار، منها أن الصلاة ليست ركعات بل دعاء فيه بُعد صوفي ومسقطًا واجبا الصيام والحجاب


يستعرض الباحث للّاهوت الإسماعيلي المنبني برأيه على بُعد سياسي وظفت فيه الإسماعيلية أقانيم روحية لكي تعقد حقل السلطة وتغلّفه بغلاف سميك من القداسة، أي أنه فوق الوعي، جوهره لاهوتي مقدّس وحيث الإمام الممثول لعالم الجوهر ومن خلاله ينكمش وعي الإنسان أمامه بشكل تسليمي مقابل الشعور بالتخلص من الاغتراب بالتعويض عنه باتباع الإمام. وفي الكتاب أيضًا تفسيرات قرآنية لعدد من الآيات بغير ما هو شائع تفسيرها، ومرجوعها إلى الإمام كقوة نجاة، وفيه أيضًا رموز سرية كان الدعاة يستخدمونها، ورسوم تعود للإسماعلييين، منها رسم يُظهر شعار الإسماعيلية الذي يشبه الصليب. وينظر الكاتب إلى أفكار الإسماعيلية التي تستعين بالنص القرآني ليغدو نصها ذا قوة بعد أن يعملوا على تأويله حسب مفاهيمهم. كما يعرض الباحث للفلسفة الفيضية لدى الإسماعيليين بكثير من التفصيل عن العقل الأول (السابق) والعقل الثاني (التالي) والعقل القائم بالقوة (الهيولى والصورة)، والتسلسل الفيضي (العقل الفعال- النفس الكلية- الهيولى الأولى: ماء، هواء، أرض، نار- الجسم- الهيولى+صورة- الأفلاك الكروية- العقل- النفس- الهيولى: باقٍ غير تام ولا كامل). ويعرض الباحث فلسفة العدد (المثل والممثول) عند الإسماعيليين مستشهدين بفيتاغورس، ومركزين على العدد سبعة، وهذه الفلسفة العددية من أجل مطابقة الدين مع الفلسفة، لنصل إلى الفلسفة الإسماعيلية الكلية، والتي بطبيعة الحال تحتاج لحديث مفصّل آخر.

يعرض الكاتب أيضًا للتأويل العقلي والعرفاني الإسماعيلي بوصفه منزلًا للسلطة مستحضرًا جاك دريدا بقوله الذي ينطبق على الإسماعيلية: "كل نص فلسفي هو نص مزدوج: الظاهر المعلن والآخر الذي يُهرّب في زوايا النص". والتأويل هو رد الشيء إلى أوله أي إلى معناه الحقيقي الباطن، والإسماعيليون ذهبوا بالباطن إلى أبعد الحدود، وأعطوا صلاحية التأويل للإمام، وحيث يستشهد النعمان بقول النبي محمد: "ما نزلت عليّ آية من القرآن إلا ولها ظهر وبطن". من هنا يجد الكاتب في طيات التأويل منازع سياسية، وتفرض الظروف نفسها ما يستدعي تأويل القرآن بحسب الغاية والمصلحة.

وفي تأويل الإسماعيليين لموضوعة الأمية لدى النبي محمد، فـ"الأمي" كلمة آتية من "الأم المُثل للدعوة في الباطن" عكس التفسيرات التي ترجعه إلى الذي لا يقرأ ولا يكتب "والأميون هم مثل لأهل الحقيقة من المؤمنين، وقيل إنهم أميون لأنهم ينسبون إلى حجة ناطق الزمان الذي إليه أمر الدعوة الباطنية، وهو في الباطن أمهم". 

ويعرض الباحث أخيرًا للانشقاقات التي حصلت في الحركة الإسماعيلية بعد انهيار الإمبراطورية الفاطمية ساردًا بالتفصيل للصراعات بين العائلة الواحدة، وصولًا إلى انقسام الإسماعيلية إلى "المستعلية"، و"النزارية" التي ينتمي إليها الآغا خان الحالي. وحيث أن الإسماعيليين كانوا يمارسون التقية ومنها التستر بالصوفية بعد انهيار إمبراطوريتهم. ونظر الإسماعيليون إلى شعراء الصوفية في فارس كالعطار وجلال الدين الرومي على أنهم إخوة لهم، ولكن عندما وصل الصفويون إلى الحكم في بلاد فارس وإعلانهم المذهب الاثني عشر (الشيعة) ارتاح الإسماعيليون وخرجوا من تقيتهم فنالوا نصيبهم من الاضطهاد من الصفويين. وقد غادر الآغا خان الأول عام 1848م فارس إلى الهند وكان على علاقة قوية بالبريطانيين، وتطورت هذه العلاقة مع أحفاده وصولًا إلى الأغا خان الحالي، وهو الإمام التاسع والأربعين المقيم في الغرب.

وضع الأغا خان الحالي عام 1986م وثيقة عالمية "دستور المسلمين الشيعة الإماميين الإسماعيليين" ليكون أكثر انسجامًا مع العصر. وهو يقدّم نفسه على أنه قائد للإسلام الشيعي العلماني الليبرالي اللاعنفي مع أن الإسماعيلية، كما لاحظ الكاتب، اتخذت في فترات معينة من العمل الراديكالي والعنفي وسيلة لنشر أفكارها، أما اليوم فالمصلحة لا تقتضي هذه الوسيلة، وكأن هذا الانفتاح والتجديد هما طقسا العبور للغرب. ويرى الآغا خان الحالي أن التجديد الديني ضروري، طارحًا عددًا من الأفكار، منها أن الصلاة ليست ركعات بل دعاء فيه بُعد صوفي يتوجه فيه المؤمن بين المغرب والفجر، ومسقطًا واجبا الصيام والحجاب، فعن الحجاب يقول إنه ليس من الإسلام، وكان زيًا يوضع قبل الإسلام وكان القصد منه التمييز بين المرأة الحرة والمرأة الجارية، فالجارية كان بالإمكان بيعها ومبادلتها، وبالتالي فهو زي كان موجودًا وليس واجبًا، وهي خطوة تعتبر ثورية على مستوى العقيدة.  

مرت الإسماعيلية عبر التاريخ بمراحل ومحطات عدة، كانت في كل مرة تُفرز آليات جديدة، إلا أن مواضيع الكشف والستر الظاهر والباطن والإمامة وإعلان القيامة، كانت تعرف كيف توظفها وكيف تستفيد منها حفاظًا على وجودها التاريخي والعقائدي والسياسي. وقد سمح النص الإسماعيلي بسبب رمزيته المفتوحة تقديم الكثير من التأويلات، الأمر الذي سمح له بالاستمرار والانتقال من شكل لآخر، وآخره الدخول في الحداثة الغربية.
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.