}
عروض

"المِرْوَد والمِكْحلة": مُقاربات في الفن التشكيلي الفلسطيني

يوسف الشايب

28 سبتمبر 2023


انطلاقًا من مقولة الأديب الألماني توماس مان، يؤكّد الفنّان الأردني محمد العامري، في كتابه "المِرْوَد والمِكْحلة"، عدم إيمانه بتلك النظرية التي لا ترى في الفن إلا متعة نُزجي بها وقت فراغنا، وبأن الإنسانية إذا كانت ترغب في الاحتفاظ بحريّتها وكرامتها، فإنّ عليها ألّا تقف موقفًا مُحايدًا من المشكلات الاجتماعية والسياسيّة، وبأن الفنان، وباعتباره أكثر البشر إنسانيّة، من واجبه أن يرفع صوته عاليًا مدافعًا عنها هابًّا لنصرتها، خاصة عندما تهدّدها قوى الجهل والبطش والبربرية.

ويقدّم العامري في كتابه هذا الصادر حديثًا عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، مقاربات في الفن التشكيلي الفلسطيني، وعلاقته بقضايا المجتمع في الأرض المحتلة والشتات، مُنحازًا إلى اختبار أسئلة تنطلق من واقع اللوحة (النص البصريّ)، في محاولة منه لإعطاء الخيال والتأويل المناخ المناسب لاستبطان المرجعيّات العاطفية، متكئًا على عناصر اللوحة من آلام وجراح عبّر عنها الفنان الفلسطيني، وإظهار الإيحاءات التي وردت عبر عناصر ومفردات تكرّرت في فضاء العمل الفني الفلسطيني، عبر نماذج داخل فلسطين والشتات على حد سواء، وتتبّع الرسائل التي يبثّها العمل الفني إلى جانب المقاربات والتحولات التي طرأت على العمل الفني جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، قبل النكبة وبعدها، راصدًا مجموعة التحولات التي طرأت على لغة التصوير الفلسطيني بعد النكبة، كمادة أسهمت في طبيعة الفعل المقاوم الذي يكشف سوأة الاحتلال ومخرجاته التخريبيّة في الوجود الفلسطيني.

ووجد العامري أن الفنان الفلسطيني اهتم بالتشخيصية والأرض كعنصرين أساسيّين استوطنا أعماله البصرية، أمّا تعدّد صور المكان الذي تلا فقدان فلسطين، فكان يتطابق، كما يتضح جليًّا، مع طبيعة قرب الفنان أو بعده من وعن الأرض المفقودة، بحيث بدت المسافة الجغرافية الفاصلة عنها، وكأنّها العامل الحاسم في تحديد المنطق التشكيلي الذي توخّاه الفنان، وبقدر ما كانت الأعمال الفنيّة التي أُنتجت في أمكنة قريبة نسبيًّا من أرض الوطن تتّسم بالتصوير التشخيصي.

وبسبب غياب الدراسات التأصيلية العربية والغربية فيما يخص فلسطين لدرجة ارتباك ماكينة النقد التشكيلي العربي، اتجه العامري إلى تحليل مخرجات الإبداع الفلسطيني التي تعكس بشكل غير موارب طبيعة المعاناة، والأنماط الفنيّة، ومعالجات الشكل والمضمون، وصولًا إلى اجتراح المواد المستخدمة ووسائط التعبير، بدءًا من التصوير والأعمال التركيبية والفيديو آرت والغرافيك بكل أنواعه، والملصق السياسي، فانطلق من العمل الفني باعتباره مكوّنًا معبّرًا لما حصل ولا يزال على أرض فلسطين وإزاء الفلسطينيين خارجها.

وتميّزت فلسطين، حسب العامري، بتاريخ ديني حافل جعل من أساطيرها ومواقعها المتخيّلة مصدر وحي مركزي في فن التصوير الغربي، وذلك عبر خمسة قرون من تاريخ الفن في العالم المسيحي، أما مفردات هذه اللغة الفنية وأدواتها فضلًا عن مصطلحاتها التعبيرية التي صقلتها وطوّرتها أجيال متتالية من المواهب الأوروبية، فإنها لم تندرج في مجال التعبير البصري بالنسبة لأهل فلسطين إلا في عهد متأخر نسبيًّا، فخلال القرن الذي سبق النكبة، شهدت أرض فلسطين نموًّا تدريجيًّا وتطوّرًا خلّاقًا في مجال التصوير على أيدي مجموعة من الهواة والمحترفين العرب الذين قاموا بصياغة لغة تصويرية ذات طابع محلي مميّز، وقد كانت مدينة القدس مرفأ هذه اللغة الفنيّة، ومصدر إشعاعها على مدى قرن من الإنتاج الفنّي.

ولم ينفصل الفلسطينيون، حسب ما جاء في "المِرْوَد والمِكْحلة"، عن قضيّتهم منذ إشكاليّاتها الأولى، فقد بدت هواجسها التعبيريّة في الفن والأدب إجمالًا منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، بحيث برزت العديد من الأسماء الفنيّة في مجالي الرسم والتصوير فيما قبل النكبة، من أمثال: نقولا الصايغ (1863-1930)، الذي وُلد في القدس، وعاش رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة في حارة السعدية بالبلدة القديمة للمدينة المقدسة، ويرجح أنه درس فن الأيقونات البيزنطية في الكنيسة الأرثوذكسية، وكان يعتاش من التعليم في محترفه الذي يقع قرب كنيسة القيامة، ومن بيع اللوحات للحجّاج المسيحيّين الذين يزورون فلسطين، ويشترون الهدايا التذكارية الدينيّة.

وتعتبر لوحة "استسلام القدس"، التي أنجزها الصايغ عام 1918، من أشهر لوحاته، وهي منقولة عن صورة فوتوغرافية تظهر تسليم العثمانيين القدس لسلطات الانتداب البريطاني، فيما تشير بعض لوحاته الزيتيّة الأولى التي رسمها إلى وجوه رجال وسمية ذات ملامح عربية بلباسهم المدني الأنيق، ووجوه قروية مشرقة الجبين، وقد اكتست أكتافها بطيّات متتالية من النسيج المتراخي، فيما بدت تشكّلات القماش، وكأنها أطراف ملبوسات وطنية، وصوّر المناظر الطبيعية التي مثّلت زوايا مختلفة من الطبيعة الريفية المحيطة بالقدس، ورسم مجموعة أخرى انحاز فيها للطبيعة الصامتة، وخاصة شجرة الصبّار.


وفي عام 2018، أي بعد مرور قرن على إنجازه لوحته "استسلام القدس"، افتتح في مدينة القدس معرض بعنوان "العودة إلى القدس"، في مؤسسة "المعمل"، لأعمال نقولا الصايغ، الذي لم يوقع على الكثير من أعماله، ولم يضع عليها تواريخ رسمها... وهو معرض اشتمل على اثنتي عشرة لوحة فنية، اكتشفها المقتني الفلسطيني جورج الأعمى في منزل رجائي زخريا في مدينة بيت لحم، وهي لوحات تناولت مواضيع دينيّة، وأساطير إغريقيّة، وطبيعة صامتة، وبورتريهات شخصيّة.

ومن الروّاد الذين تطرق إليهم العامري في الكتاب، الفنان توفيق جوهرية (1891- 1944)، واشتهر بممارسته ما يعرف بالتصوير التمثيلي، وهو من بين طلائع المصوّرين الفلسطينيين الذين تتملذوا في محترف نقولا الصايغ في القدس، واستطاع أن يعيش ويقتات من تصوير اللوحات الزيتية، كما انتهج في عمله التصاوير التخطيطية الحرّة بالفحم على الورق، قبل أن ينتقل إلى تحقيقها بالألوان المائية أو الزيتية على القماش المشدود، كما كان يحفر كل الإطارات التي أحاطت بلوحاته الزيتية وإعدادها.

أمّا مبارك سعد (1880 – 1964)، فهو فنّان تشكيلي ومصوّر فلسطيني مارس الرسم والتصوير في القرن التاسع عشر، وقد درس الرسم والتصوير في إيطاليا في أوائل عشرينيات القرن العشرين، كما رسم بورتريهات لشخصيات اجتماعية من القدس.

وذكر العامري روّادًا آخرين كجمال بدران وشقيقيه خيري وعبد الرزّاق، وداود زلاطيمو، وخليل حلبي، وجبرا إبراهيم جبرا، وحنّا مسمار، فيما لم تغب نساء مبدعات عن قائمة روّاد الفن التشكيلي والفوتوغرافي في النصف الأول من القرن العشرين، كزلفى السعدي (1905- 1988)، التي تدرّبت وهي صغيرة على يد نقولا الصايغ أيضًا، كما عرضت مجموعة لوحاتها الأولى في المعرض العربي القومي الأوّل الذي أقيم في المجلس الإسلامي في القدس عام 1932، بحيث تميّزت برسم شخصيّات معروفة لها مكانة أدبيّة وتاريخيّة مثل: صلاح الدين الأيوبي، والشريف حسين وابنه فيصل الأوّل، وجمال الدين الأفغاني، وعمر المختار، وأمير الشعراء أحمد شوقي.

وحضرت في "المِرْوَد والمِكْحلة" الفنانة صوفي حلبي (1912- 1997)، في حين تشير مراجع أخرى إلى أن صوفي ولدت في القدس عام 1906، لأب فلسطيني وأم روسية كان قد تعرّف إليها والدها خلال دراسته في سانت بطرسبرغ، هي التي درست في الكلية الإنكليزية للبنات في القدس، ودرّست في مدرسة "شميدت" للإناث في القدس بعد إكمال تحصيلها العلمي في إيطاليا وفرنسا بين عامي 1928 و1933، فيما نزحت وأسرتها عام 1948 من منزلها في حي القطمون بالجزء الغربي من القدس إلى الجزء الشرقي من المدينة تاركة وراءها الكثير من أمتعتها وأغراضها الشخصية، ومنها بعض لوحاتها التي كانت تصوّر المناظر الطبيعية في الريف المحيط بالقدس، وخاصة شجر الزيتون، فيما عرضت لوحاتها الناجية من النكبة، وما رسمته في وقت لاحق في متجر بشارع الزهراء بالقدس افتتحته شقيقتها آسيا عام 1950 لبيع المطرّزات والحرف اليدوية، وشاركت في العديد من المعارض المشتركة في القدس، وتحديدًا في جمعية الشبان المسيحية والمسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، وغيرها من المواقع في مختلف المدن الفلسطينية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

وكان مستهجنًا غياب رائدة التصوير في الوطن العربي عن قائمة الرواد في كتاب العامري، وأعني كريمة عبّود (1896- 1940)، وتعتبر حسب العديد من الباحثين أول مصوّرة فلسطينية، هي المولودة في فلسطين، وتحديدًا في مدينة الناصرة، والتي بعد عدّة أعوام من احترافها التصوير، افتتحت ستوديو تصوير للعائلات في مدينة بيت لحم، وعلى الرغم من أنه ليس أول ستوديو تصوير في فلسطين، إلا أنه الأول من نوعه الذي تفتتحه وتعمل فيه سيدة، وهذا الأمر جعل الكثير من العائلات وتحديدًا النساء الفلسطينيات يُقبلن عليه بشكل كبير، لأنهن لم يجدن أي حرج من أن تصورهن سيدة مثلهن، وليس رجلًا كما جرت العادة، كما كانت من أوائل السيدات اللاتي يقدن مركبات، وينتقلن من مدينة لأخرى، بحيث مع الوقت توسع عملها، وبات لديها أربعة ستوديوهات في مدن فلسطينية عدّة، وتناولت دورها الريادي دراسات عدّة، فيما خصّها الروائي إبراهيم نصر الله بواحدة من روايات "ثلاثية الأجراس"، حملت عنوان "سيرة عين".

وفي مرحلة ما بعد النكبة، تناول "المِرْوَد والمِكْحلة" بالتفصيل تجارب أيقونية بارزة، كتجربة الفنان إسماعيل شمّوط، وتجربة الفنان عزيز عمورة، والفنانة منى حاطوم، والفنان عدنان يحيى، والفنّان محمود طه.

واستعرض العامري في كتابه أيقونات عدّة رافقت الفن البصري الفلسطيني، من بينها أيقونة حنظلة لفنان الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي، وأيقونة الصبّار، وأيقونة شجرة الزيتون، وأيقونة الطين، وأيقونة القدس، وأيقونة الثوب، وأيقونة الشهيد، علاوة على الملصق، وفن الرسم على الجدار (الغرافيتي)، مستعرضًا نماذج لفنانات وفنانين فلسطينيّين من أزمنة ومدارس فنيّة متعددة.

وخلص كتاب "المِرْوَد والمِكْحلة"، إلى أن التجربة الفلسطينية في الفنون البصرية عامة، والفن التشكيلي على وجه الخصوص، تفرّدت بالعمل على إعادة إحياء التراث الفلسطيني الضارب في الجذور حتى في الأعمال الفنية المعاصرة التي اتجهت إلى ابتكار وسائط جديدة للمضي قدمًا في تقديم أعمال ذات دلالات وطنية، كما ذهب إلى أن الأعمال البصرية الفلسطينية حققت تراجيديّتها الخاصة بفلسطين والمقاومة المستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى يومنا هذا، وإلى أن ثمة التصاقًا عضويًّا بين التاريخ الفلسطيني والذاكرة العميقة والهوية في العمل الفني الفلسطيني الذي استطاع أيضًا حفظ التراث من النسيان ومنحه مسارات جديدة لضمان نوع من الاستمرارية.

كما خلص العامري إلى أن التجارب الفلسطينية في مجال الفنون البصرية ارتبطت عضويًا بأهداف التحرّر والمقاومة وكشف الزيف الإسرائيلي، وأنه في هذا الإطار، وقعت بعض التجارب الفنية الفلسطينية في فخ الخطاب السياسي على حساب القيمة الفنيّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.