ليست ثورة الموتى بل ثورة الأرواح التي لا تموت، الأرواح التي تحررت من الخوف والخنوع، والأوهام والخرافات، التي عمل "عوف"، ساكن القمر السرمدي كما روّج عن نفسه، لتكريسها في ضمائرهم ووعيهم، ما انتهت إليه رواية الكاتب السوري منذر بدر حلوم "قمصان زكريا"، الصادرة عن مؤسسة ميسلون 2023، والتي تدور أحداثها في بلاد يحكمها حاكم اسمه "عوف" كان "يبعث في القلوب الخوف، حتى بعد انتقاله إلى القمر"، وهي رواية طويلة فاقت الخمسمئة صفحة، لكنها مكتنزة وممتعة في الوقت نفسه، على الرغم من الديستوبيا العامرة بها، والخوف المصمت المهيمن على الحياة، فحتى الهواتف النقالة كانت تغلق عند اجتماع أكثر الناس لأنها مراقبة، فالحاكم عوف "عامًا بعد عام، راح يغيب أزمانًا، ويعود ليطمئن الناس بصوته الأشبه بصوت كائنات الفضاء، إلى أن سكن القمر وغاب، ذلك الغياب المديد الذي زاد الناس إيمانًا بقدسية غيبته وسلطة غيابه، تاركًا شؤون البلاد لسلطته على الأرض، وحين سكن القمر أضيف اسمه إلى كثير من المدن والبلدات والمواقع في البلاد"، فجاء اسمها مرة على لسان زكريا "عوفديار"، وكانت دلالة كافية وافية.
يتوزع السرد على أحد عشر فصلًا، كل فصل يحمل عنوانًا، ويتألف من فقرات ممهورة بعناوين أيضًا، يلتف فيها الزمن بين الحاضر، والماضي، ويعود للحاضر مرة أخرى، فبموت سلافة، أخت الدكتور زيدون، الطالبة الجامعية، يلتقي معظم شخصيات الرواية، ونبدأ بالتعرف على حكاية كل واحدة منها، كأفراد يعيشون في هذه البلاد المحكومة بسلطة القمع والفساد، والفقر والخوف والخرافة والتجهيل. تموت سلافة بعد اعتقالها من قبل مخابرات الجامعة وعرض فيلم مشين مفبرك لها، فيتوقف قلبها بعد خروجها من التحقيق، وكان أخوها الأكاديمي الدكتور زيدون قد أبعد من الجامعة بسبب أفكاره ومقالاته "في مجتمع مثل مجتمعنا، حيث الانتماءات البدائية والغريزية فوق فكرة الدولة، وحيث يرفع شأن صاحب السطوة والمال... فلا عدالة ممكنة"، وكانوا قد فبركوا له أفعالًا مشينة أيضًا، بتسخير إحدى طالباته تحت التهديد، بعد أن فبركوا لها هي الأخرى مشاهد وصورًا مشابهة وساوموها بأن تبقى سرية فيما لو تعاونت معهم، رويدة التي انتحرت بعد موت سلافة، لكنها أسعفت وعاشت لتنتقم من المحقق الذي انتهك كرامتها الإنسانية، فتح زيدون عيادة للإرشاد النفسي واعتزل في مزرعته التي سجلها له باسمه خاله رجب وغادر منذ زمن بعيد، كان يزوره في العيادة أصدقاء جده، الشيخ سليمان، من أبناء المدينة، وهم الحاج مصطفى وابنه البكر وليد، والحاج عبد القادر وابنه البكر خالد، ولقد اختفى الابنان في مكان ما، من دون أن يسمح بإقامة جنازة لهما. كذلك أولاد عم الدكتور زيدون، عادل وعبود الموسيقي، بشرى طالبة الماجستير وأخوها غزوان، أسامة ابن المخبر في أجهزة عوف، الباحث عن حقيقة والده وهو أحد طلاب عبود في تعلم العزف على العود، أما المعلم الجليل حسن، فقد اختفى كل أفراد أسرته، ابناه وابنته وزوجته، حتى لقبت عائلته بالـ"المغضوب عليهم"، ولم يسلم إلّا حفيده نشوان، ابن الستة عشر عامًا، الذي كان يتقنّع ويبخ على الجدران في الليل عبارات ضد عوف، بل مرة صبغ رأس تمثاله باللون الأحمر، وكان صباغًا لا يمكن إزالته إلا بقطع رأس التمثال وتركيب غيره فوق التمثال، لكنه اختفى في أثناء العزاء بسلافة. وهناك عديد من الشخصيات التي يأتي السرد عليها في الاسترجاع حينًا، وفي عودة زمن القصّ إلى حياة زكريا الأولى، عندما كان اسمه إسماعيل، وغالبية هذه الشخصيات متعلمة، رافضة لعوف وأجهزته ونظامه، تؤمن بأفكار التحرر والعدالة والكرامة.
أما زكريا فهو الحامل الأساس للسرد، إذ عاش ومات وعاش ومات، وما زال عوف يسكن القمر ويطلق أياديه على الأرض تزرع الخوف وتقيم مزارع العتمة. يعمل في معهد أبحاث تابع لكلية التربية في الجامعة، كان منذ حياته الأولى، قبل أن يعود من الموت باسم "زكريا"، يعمل مع مريم على أبحاث تهتم بجغرافيا الفقر، وقد أحب مريم في ذلك الجيل، لكن مريم اختفت مع من اختفوا في حادثة انهيار السد.
ينشغل الجميع باختفاء نشوان، وأول المهمومين كان زكريا، الذي يطلب من أحد أصدقائه أن يسأل معارفه من رموز النظام، فهو كان قد أوفد ليدرس الطب على حساب الدولة، لكن المفاجأة أنه رد عليه: "يا أخي، غريب أمر الناس، لا تغلطوا بحقهم، لا يغلطون بحقكم"، وهو يقصد جماعة عوف، وهنا يقول السارد: هناك دائمًا من يبرر للطاغية. مثلما أصبح الشاعر الذي قتلته قصيدة عبرة للناس، وهذه إحدى الدلالات التي تختفي خلفها وقائع حقيقية، فالشاعر المقصود هنا هو حسن ديب الخير والذي كتب في أوائل الثمانينيات قصيدة جاء فيها: ماذا أقول، وقول الحق يعقبه/ جلد السياط وسجن مظلم رطب... فاختفى بعدها.
انهيار السد، حياة إسماعيل السابقة
التقمص أو العود بعد الموت فكرة قديمة شغلت الفلاسفة منذ فلاسفة اليونان، وهناك قول ينسب إلى فيثاغورس: لا تفنى الروح بفناء الجسد، ويؤمن بها أتباع بعض الديانات أو الطوائف، كالدروز والعلويين في سورية، وهو موضوع اهتم به الأدب، وليست رواية "قمصان زكريا" هي الأولى، فهناك على سبيل المثال رواية "العائد" للكاتب خليل تقي الدين، ورواية "سرمدا" للكاتب فادي عزام، ورواية "قصر المطر" لممدوح عزام، ورواية "صلصال" لسمر يزبك، ورواية "تجليات جدي الشيخ المهاجر" لحسيبة عبد الرحمن، ورواية نبيل سليمان الأخيرة "تحولات الإنسان الذهبي" تقوم على هذه الفكرة. وها هي رواية "قمصان زكريا" تنهض على هذه التيمة، فبين الفانتازيا والواقعية، الغرائبية في أحيان عديدة، بنى المؤلف معماره السردي، وهو إن كان قد اختار موضوع التقمص لينسج على أساسه نصّه، فإنه لا يطرح الفكرة لمناقشتها وإقناع القارئ بها أو دحضها، على الرغم من اكتناز الرواية بعديد الأفكار التي تقارب أسئلة الإنسان الوجودية ومفاهيم فلسفية كالحياة والموت والروح والجسد، والحقيقة، والشك، والقدر والإرادة وغيرها، بالإضافة إلى نقاشات مع الشيخ سلمان، جد زيدون، حول الروح والجسد والتقمص، إنما اعتمد الفكرة كلعبة لافتة وذكية وموفقة يسلط من خلالها الضوء على أبدية حكّام مستبدين مثل حاكم هذه البلاد التي تحكي عنها الرواية، وكيفية صهر المجتمع في بوتقة فكرية واحدة ووضع سقوف لحياتهم كي يبقوا في الفقر والجهل من أجل خدمة عرشه، فزكريا هو الشاهد والشهيد أيضًا، وهو الذي يحمل ذاكرة الحيوات إلى عالم الموت، فقد عاش حياتين، إسماعيل وزكريا، وشهد أحداثًا وقام بأفعال وبنى علاقات وأصيب بخيبات، وبقي عوف حاكمًا، لم تعرف البلاد غيره، بل حتى بين الأموات كان زكريا، الذي لا يساوم على مبدأ الحرية، يخطط للقيام بأفعال ضد عوف ومعاونيه ورجاله، فهو أقنع جميل في عالم الأموات بالحلول في جسد والده كي يدفعه إلى الشعور بالندم، وكان والده في الحياة مخبرًا لدى أجهزة عوف، يقول لأبيه: "أنت الذي قتلتني، أنت تعلم أن كثيرين قتلوا بسببك"، لكن أباه صار شيخًا في النهاية وتحول إلى العبادة. كذلك، وقبل أن يعود إلى الحياة باسم زكريا، حلّ في صبي اسمه عباس، تفتقت موهبته عن شاعر ورسام موهوب، طلب منه أن ينظم قصيدة في إنجازات عوف، وكان إسماعيل الذي هو زكريا في الحياة التالية يئز في رأسه أن يرسم غرقى السد وخسوف القمر، وأن ينظم شعرًا عن مزارع العتم، إلى أن أصيب بالفصام.
كان زكريا يتردد على زيدون دائمًا، ويتناقشان في أمور كثيرة، غالبًا ما تشغلهما حالة البلاد وحياة الفقراء المقموعين، يتناقشان في الدور المخولين القيام به من أجل ألا يموت الإحساس بالعدالة والكرامة وتحرير الناس من عبوديتهم لانتماءاتهم القطيعية، ليس هذا فحسب، بل "كل قادر على حمل السلاح من الشباب، كان يرسل لاصطياد الظلام، كانت جائحة الخوف من العتمة التي طغت على كل شيء في حياة الناس، تقتل الشباب ولا يستطيعون فعل شيء تجاهها".
يعود بنا المؤلف إلى حياة زكريا الأولى، عندما كان اسمه إسماعيل، فعند تدشين السد ألقى مفتي المنطقة التي بني فيها السد العظيم خطبة تكلم فيها عن "شر أعداء سيد الوطن الكبير، والذي يبقى كبيرًا وإن صغرت أرضه وضاقت أرجاؤه، شرهم الذي لا يفوقه شر يأجوج ومأجوج، ولا بد من يقظة الجميع والعمل ضدهم في السر والعلن"، وهي ليست الإشارة الأولى عن رجال الدين الذين يصنعهم عوف ويسلطهم على الناس من أجل ربط طاعته بطاعة الله. وجاء وصف مشهد التدشين في السرد مشهدًا سينمائيًّا بامتياز، وكان المهندس علّام قد اختفى، قتلوه، بعدما حذر من كوارث السد، أما الموتى الذين كانوا يتفرجون على حفل التدشين فقد "تنادوا إلى الاجتماع للتباحث في الطرق الممكنة لإيصال صوتهم إلى الأحياء، وقد شعروا بالخجل والأسف من هتافات أقربائهم وجيرانهم لمجد عوف وعزته، رغم وضوح زيف الانتصارات والإنجازات التي تحدث عنها الخطباء".
انهار السد فجرف ما جرف من زرع وضرع وبشر وحجر، انهار وكان له حارسان يتناوبان حراسته، خضر الذي كان اثنان من أبنائه قد قتلا في حروب عوف، وواحد اختفى وطُلب من خضر ألا يسأل عنه فماتت زوجته كمدًا، وعيسى والد مريم التي كان يحبها إسماعيل عندما كان باحثًا في قسم الجغرافيا البشرية في كلية الآداب، الذي لم يبق من عائلته غيرها في الحياة. بسبب الفساد والإهمال وانعدام المسؤولية والمحاسبة غرق حي يسكنه الفقراء اسمه حي الجورة، وفيه حارة تسمى حارة العسكر، ساكنوه من الفقراء المغلوبين على أمرهم، الواقعين في قبضة عوف الذي سطا على السلطة بانقلاب، فـ "قضى على كل قيمة"، و"مع امتلاكه السلاح بدأ الذين يعرفون ماضيه بالاختفاء حتى قبل أن يرقّي نفسه إلى رتبة جنرال، وصار يكرّس في وعي أبنائها أن التاريخ يبدأ بهم، وأن كل شيء في الوطن هو مكرمة منه، وصارت البلاد تنشغل بكرنفالاته التي يصعب التمييز فيها بين الحي والميت".
مات عيسى والد مريم، وهو لا يملك شيئًا في منع الكارثة، حتى الهاتف لم يستجب عندما أراد الوصول إلى المعنيين لإعلامهم بأن البوابات لا تفتح، مات واختفت مريم، ومات بعدها إسماعيل بنوبة قلبية أمام الفرن، ومات كثيرون، وبقيت صورة عوف على القمر. أما إسماعيل فكتب" جغرافيا الفقر" ثم أضاف "كوارث غير طبيعية، نظرة من السوق".
عند عودة إسماعيل إلى الحياة باسم زكريا، عاد إلى تكملة البحث المنشغل بكيفية زرع روح العلم في المجتمع، فيما كان يرى الجامعة "مكانًا لتحنيط العلم"، وكم أسف حين اكتشف أن شيئًا لم يتغير بعد كل هذه السنوات، وكان قد ازداد قناعة باستحالة أن يكون هناك علم حقيقي "حيث يسجن الناس على رأي".
لم ينس مريم، ولم ينس حياته السابقة، وكانت الشقة التي سكنها في تلك الحياة ما زالت موجودة، فذهب إلى وارثيها وهم شابان وصبية، وحكى لهم حكايته وطلب تأجيره إياها، فأحبته الصبية جمانة حبًّا جامحًا، وقد برع المؤلف في رسم شخصيتها الموارة بالانفعالات المتضاربة. ومن خلالها تعرّف على زميلتها ميّا التي كانت وفريقها تعمل على دراسة، استكمالًا لمشروع مريم وإسماعيل، عن الاختلاف والتشابه بعلاقة سكان المنطقة بالنخب الحاكمة ومؤسسات الحكم والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عصفت بالبلاد على مدى السنوات الخمسين الماضية، فوقع زكريا في حبها أيضًا، وهو الكثير العلاقات. أوصلته ميّا إلى امرأة كبيرة تدعوها "خالتي"، ليتفاجأ بأنها مريم وقد أصبحت عجوزًا، فهي لم تمت في انهيار السد، سيلتقيان ليوم واحد، لتموت بين يديه، ويجد تحت مخدتها دفترًا مكتوبًا عليه: دراما الفناء الذاتي في وطن الطين.
وفي النهاية يقوم الموتى بثورتهم، ويحلون في أجساد الأحياء، فتضطرب صورة عوف في القمر، وتبهت وتسقط، ويدب الذعر في قلوب أعوانه وضباطه الذين راحت رتبهم تتساقط عن أكتافهم، بينما طفل كان أبوه قد اختفى بالطريقة نفسها ذات فجر، رأى نفسه يمسك بصاروخ من المفرقعات، تشتعل فيه النار فيطير ويحرق صورة عوف التي تطير من قصر إلى قصر فتحترق وتحترق معها مزارع العتم.
نص زاخر بالأفكار، ينهمك في تشريح الفقر، القمع، الطغيان، الخوف، الدين، الموروث، الثقافة، الكتابة، الحرية، العدالة، الحب، الجنس، الأوهام، الخرافات، وطرح الأسئلة الكبيرة، أسئلة الثورات والمصير، استطاع المؤلف أن يبني عالمه المتشابك بلغة بسيطة وجميلة، تسمو أحيانًا إلى عالي الشعر، وتتباسط حتى تغور في حفر الواقع، تنهض الشخصيات وتنمو، وتُتلى حكاياتها ومسيراتها على لسان راوٍ عليم، قد يظهر في بعض المفاصل كسارد كتابي، يخاطب القارئ لينير عتمة ما أو فكرة بحاجة إلى تدخله، مع سلاسة في تسريد المعلومات التي اغتنى السرد بها، يشفّ من خلالها اختصاص الكاتب، فهو أكاديمي في علوم البيولوجيا، مع الإشارة إلى اقتباسات عديدة ومتنوعة من القرآن، ومن أقوال الإمام علي، وأحاديث الرسول، وبعض الصوفيين أو الشعراء.
كُتبت الكثير من الروايات في فترة الأزمة السورية الممتدة منذ الانتفاضة الشعبية في عام 2011، لكن ما توفر على جماليات الرواية منها كان قليلًا. يمكن عدّ هذه الرواية من هذا القليل الذي تحرّر من الخطابية والسياسة والتوثيق والوصف. وإذا كانت الرواية هي فعل تقمص، فإن منذر حلوم تقمّص فضاء السرد بكل عناصره.