}
عروض

"إيقاعات الزمن": تحدّي السرد المهيمن حول تاريخ فلسطين

يوسف الشايب

8 سبتمبر 2023
كيث وايتلام 


يرى كيث وايتلام، أستاذ الدراسات الدينية ورئيس هذا القسم في جامعة إستيرلنغ البريطانية، في كتابه الصادر عام 1996 بعنوان "اختراع إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني"، أن التاريخ الفلسطيني أزيح من قبل تاريخ إسرائيل القديمة، ما أدى فعليًّا إلى محو السكان غير الإسرائيليين من الأرض، أو تقليصهم إلى دور ثانوي، وقد كتب الآن تكملة، في شكل تاريخ يشعر أنه يجب أن يحل محل الروايات القياسية المستندة إلى الكتاب المقدس، والتي تتمحور حول إسرائيل، عن فلسطين القديمة، هو ما احتوى عليه كتابه "إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين"، الصادر عن دار العائدون للنشر في العاصمة الأردنية عمّان، بترجمة للدكتورة لمى سخنيني.
وكما يدرك مؤرخو الكتاب المقدس الآن، فإن هذا الكتاب ليس تاريخًا، إنه حكايات عن الآباء، والهروب من مصر، والغزو والإمبراطورية، والترحيل والعودة، هي قصص وذكريات وتمارين في الهوية الذاتية، حسب وايتلام، الذي ينقل عن الإيطالي ماريو ليفيراني توصيف "التاريخ المخترع".
ويبحث "إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين" في كيفية فقدان فلسطين لماضيها، وكيف يمكن إعادة الاتصال بها، وسبب أهمية الماضي لحاضر فلسطين، بحيث يشير صاحبه إلى أن ماضي فلسطين أمر حاسم لمستقبلها، بقوله: إن الطريقة التي يُفهم بها الماضي لها آثار عميقة على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المعاصر وعلى بقية منطقة الشرق الأوسط... ففكرة استعادة إسرائيل لدولتها القديمة وعاصمتها القدس، كما أسسها الملك داود، تتكرر باستمرار من قبل المتحدثين بأسماء الحكومات الإسرائيلية، وهذا الادعاء مؤثر أيضًا في تشكيل السياسة الخارجية في واشنطن والعواصم الأوروبية... الماضي مهم لأنه يستمر في التدفق إلى الحاضر.
ويتناول الكتاب، في ما يتناول، كيف أصبح ماضي فلسطين القديم في العصر الحديدي منفصلًا عن تاريخه، وكيف يمكن فهمه كجزء من تاريخ متكامل من الماضي القديم إلى الحاضر.
ويؤكد وايتلام، وهو عضو في جماعة "الكويكرز"، أن إسرائيل القديمة هي اختراع للعلم الحديث، بل ويعتقد أن صورة المملكة اليهودية المزدهرة في العصر الحديدي بزعامة داود وسليمان هي محض "خيالات"، بل إنه يرى أن النقاش العلمي كان مدفوعًا "بالخطاب الكتابي" المهيمن الذي يغذيه خزّان مليء بالافتراضات "غير المعلنة وغير المعترف بها"، وأن التأثير الرئيسي كان "إسكات التاريخ الفلسطيني".
ووفقًا لوايتلام، فإن تاريخ فلسطين قد تم تشويهه بسبب الاحترام الذي يظهره للكتاب المقدس العبري، فجميع علماء الكتاب المقدس بدءًا من المستكشفين الأوائل، مثل إدوارد روبنسون، وحتى المتخصصين في الكتاب المقدس في منتصف القرن الماضي، مثل الألماني ألبرخت ألت، والأميركي ويليام أولبرايت، إلى العلماء المعاصرين، مثل إسرائيل فينكلشتين، انحرفوا عن طريق البحث عن إسرائيل القديمة، وخاصةً إسرائيل كمواز للإمبراطورية الداودية، ويؤكد أن هذا البحث كان مدعومًا في بعض الأحيان بافتراضات سياسية أكثر إثارة للجدل، والتي كان ولا يزال لها تأثير على السياسة المعاصرة المشحونة في الشرق الأدنى.





وإحدى هذه الافتراضات السياسية، وفق "إيقاعات الزمن"، وتُنسب إلى العلماء الغربيين، مفادها أن إسرائيل القديمة كانت "الجذر الرئيسي للحضارة الغربية" وسابقة على الدولة القومية الأوروبية، والشيء الآخر، المنسوب إلى العلماء اليهود، هو أن هناك استمرارية الصهيونية ما بين إسرائيل القديمة والحديثة، في إشارة إلى الأهمية المتصورة لرواية الكتاب المقدس لإضفاء شرعية على دولة إسرائيل الحديثة.
وهنا يستشهد وايتلام بملاحظة مناحيم بيغن القائلة: "إذا كانت هذه فلسطين وليست أرض إسرائيل، فنحن غزاة ولسنا فلاحي الأرض"، لافتًا، أي مؤلف الكتاب، إلى أن "التصور العام للدراسات الكتابية على أنها نوع من السعي النبيل العتيق هو في غير محله على الإطلاق"، مشيرًا إلى قصّة ألبرت غلوك، الذي كان يقول للطلاب "تذكروا أنكم لا تنقبون عن إسرائيل القديمة، بل تنقبون عن فلسطين". غلوك قُتل بالرصاص في موقف السيارات في جامعة بير زيت. لكن كيث يتبع المسار المتشكك، وفي نهاية المطاف كتابة تاريخ يعطي "قراءة ما بعد استعمارية للماضي الفلسطيني".
ويبدو التفكير بالمستقبل للماضي الفلسطيني مشروعًا غير مألوف، كما هو غير مألوف التفكير بتسجيل تاريخ ثقافي بصري لشعب وأرض تعرّضا للطمس والنسيان، وإن ظل مدرجًا في سجلات وأوراق أكاديمية... أكثر من ذلك، أن يكون صاحب هذا التفكير عالم آثار أميركي نشأ مبشرًا لوثريًا، وجاء إلى فلسطين باحثًا في ظلال ما يدعى علم الآثار التوراتي، أي ذلك الذي يدعى "عِلمًا" ينطلق من فرضية أن حكايات التوراة الدينية هي "تاريخ" يتمتع بكل ما يتمتع به علم التاريخ من كمال، ثم يتحوّل إلى باحث في علم آثار حقيقي غير وهمي هو علم الآثار الفلسطيني، فيؤسس من موقعه كأستاذ في جامعة بير زيت، معهدًا لهذا الغرض هو الأول من نوعه في الوطن العربي.



صاحب هذه الفكرة غير المألوفة حتى في الوسط الفلسطيني هو ألبرت غلوك (1925 ـ 1992) الذي مرّت العام الماضي الذكرى الثلاثون لاغتياله وهو يهم ذات مساءٍ بدخول بيت مايا الفارابي، مساعدته في أبحاثه، قادمًا من مقرّ عمله في الجامعة.
من قام باغتياله، وفق ما جاء في كتاب الصحافي البريطاني إدوارد فوكس المعنون "فجر فلسطين: مقتل د. ألبرت غلوك وعلم آثار الأرض المقدسة" (2001)، شخصٌ مقنّع أطلق عليه الرصاص عن قرب من بندقية من بنادق جيش الاحتلال الإسرائيلي ثلاث مرات، في المرة الأولى والثانية أصاب ظهره ورقبته، وفي المرة الثالثة تقدم إليه وأطلق الرصاص على قلبه مباشرة.
وحسب أقوال زوجة غلوك، تأخرت الشرطة الإسرائيلية، ولم تحضر إلا بعد ثلاث ساعات، ولم تهتم بالتحقيق في موقع الجريمة على غير العادة، ورجّح فوكس، بناءً على هذه الأدلة الظرفية، التأخر في حضور الشرطة، وعدم إجراء تحقيق في مقتل مواطن أميركي حتى من قبل السلطات الأميركية، ونوعية الرصاص، ولوحات السيارة الإسرائيلية التي نقلت القاتل بعيدًا عن مسرح الجريمة، بأن الجاني هو أحد أفراد فرق الاغتيالات الإسرائيلية.
وبالعودة إلى كتاب "إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين"، فإن العلاج الشافي لهذه الحالة من الهيمنة المفاهيمية، وفق وايتلام، يكمن في خلق "بلاغة" التاريخ الفلسطيني، وذلك من خلال قيام المؤرخين باستيعاب المسوحات الأثرية الواسعة للأراضي المنخفضة والمناطق الساحلية، والالتزام المنهجي بالتخلي عن رؤية مؤرخي الكتاب المقدس المنحرفة، والابتعاد عن "سراب الإمبراطورية الداودية" بشكل عملي، ومن خلال القيود التأديبية، بحيث يجب أن يكون الموقع الأكاديمي لمثل هذه المؤسسة القسم العلماني للتاريخ، وليس مدرسة اللاهوت، أو الدراسات الكتابية، حيث شكل "الإسكات" المنهجي للتاريخ الفلسطيني درجة موثوقة من سلم الشهرة والحيازة لممارسيها، في حين كانت الجهات المناوئة تتعرض لتهديدات بالقتل، بل والقتل أحيانًا.




ولفت وايتلام في مقدمته للطبعة العربية أن عمله في تاريخ فلسطين القديمة لطالما كان مستوحى من مقولة جورج أورويل المعروفة في رواية "1984"، والتي يرى فيها "أن من يتحكّم بالماضي يتحكّم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي"، مشيرًا إلى أن خطابات لا حصر لها من قبل الساسة الغربيّين، وخاصة الأميركيّين، ممهورة بإشارات متكررة إلى التراث التوراتي لإسرائيل، بل وتحدثت عن إسرائيل التاريخية باعتبارها وطنًا، أو عن القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل القديمة، وهي خطابات توضح تمامًا أن إسرائيل لديها الحق بخنق الماضي والحاضر والمستقبل.
وأشار وايتلام إلى أنه كتب "إيقاعات الزمن: إعادة سرد تاريخ فلسطين" لتحدّي السرد المهيمن، وللتأكيد على أن النضال الثقافي من أجل تاريخ فلسطين، ويربط الماضي القديم بالحاضر، وهو أمر حاسم في النضال من أجل تقرير المصير، فإيقاعات الزمن لدى فلسطين والفلسطينيين عبارة عن ماضٍ ثريّ يتدفق إلى حاضرهم ويعلّمهم، وتحقيق الحقيقة بأن تاريخًا شاملًا لفلسطين لن يضيء فقط ماضيها الغني، ويعلّم حاضرها، ولكن أيضًا، كما نأمل، فهو يساهم في مستقبل غنيّ وحيوي.
"كنت آمل في الأصل أن أكتب تاريخًا لفلسطين، من ماضيها القديم إلى الوقت الحاضر، معتمدًا في ذلك على عدد من القضايا التي أثيرت في اختراع إسرائيل القديمة، ولكن بسبب التقاعد المبكر واعتلال الصحة، لم أعد قادرًا على متابعة هذا الهدف طويل المدى"، يؤكد وايتلام، ليضيف: مع ذلك، فمن المفترض أن يكون كتاب "إيقاعات الزمن" بحثًا برمجيًّا يبحث في فترة معيّنة، ويظهر كيف يتناسب مع الإيقاعات الأوسع من التاريخ الفلسطيني.
ومع أن بعض الكتاب والمؤرخين والساسة في الغرب رأوا في الكتاب عملًا مُستفزًا، إلا أن هنالك من وجد فيه مرآة أمينة يمكن من خلالها رؤية نظام الدراسات الكتابية في انعكاسات غير مألوفة، وأنه يستحق تداولًا واسعًا ليس فقط بين القراء، بل بين العلماء والأكاديميّين والباحثين والمهتميّن.
ويسرد وايتلام تفاصيل تاريخية وأثرية، وأخرى نقدية غاية في الأهمية، غير غافل عن تدعيمها بمجريات أحداث وتصريحات لساسة غربيّين وإسرائيليين، موزعة على فصول الرواية: "ضياع ماضي فلسطين"، و"تاريخ مبنيّ على عظام الموتى"، و"إعادة وصل ماضي فلسطين"، و"ركود في منطقة البحر الأبيض المتوسط: إضاءة على عصر مظلم"، و"إحياء الريف... مواجهة الأزمة"، و"إحياء المدن"، و"تكامل الماضي الفلسطيني".
ويخلص وايتلام إلى أن "فلسطين، على مرّ القرون، على الرغم من التهديد المستمر من الإمبريالية، نجدها منطقة يصعب إخضاعها والسيطرة عليها، كما يُقرئنا الحاضر بوضوح، فالمقاومة دائمًا حيّة ضد سيطرة أي دولة، في بعض الأحيان من خلال النضال المباشر، ولكن في أكثر الأحيان من خلال الحفاظ على الهوية الوطنية، وعلى هذا الأساس، وحتى خلال فترات السيطرة المركزية القوية، كانت هنالك دومًا فرصٌ للتخلص من أغلال الإمبريالية".
وخلص أيضًا إلى أنه "على الرغم من الاحتلال الحالي القائم على الاستخدام المفرط للقوّة والإرهاب لإخضاع السكّان الأصليّين، أو إعادة هيكلة الماضي من قبل الإمبريالية، لا يزال من الممكن قياس ماضي فلسطين بشكل مختلف، حيث قابلية السكان للتكيف في مواجهة قوى الطبيعة وقوى الحضارة المستبدة، فما أوجد تاريخ فلسطين هو التغير المستمر للمناطق المختلفة فيها، بالإضافة إلى أنها حلقة وصل بين مناطق العالم المختلفة... إنها إيقاعات الزمن التي استرشدت بها الأغلبية الساحقة من السكان، حتى في الوقت الحاضر".
ويرى أنه يمكننا أن نبدأ في رؤية ما هم مهم في التاريخ الفلسطيني، وكيف أن العصر الحديدي ليس فترة فريدة من نوعها، ولكنها كانت قد خضعت لإيقاعات الماضي تمامًا مثل القرون العديدة التي تسبقها، أو تتبعها، وأنه يجب العودة إلى الموتى، ففلسطين مبنيّة على عظامهم، ويستثمر الحاضر في ماضيهم، ونادرًا ما يتم سماع أصواتهم في نصوصنا، أو تاريخنا. ومع ذلك، فإن حيواتهم وآمالهم وطموحاتهم وصراعاتهم ضد القوة الساحقة، هي التي شكلت كثيرًا من ماضي فلسطين، وإلى أن العصر الحديدي، كما كل العصور، هو جزء من تاريخ فلسطين العريق، وهي جزء من إيقاعات قصة إنسانية تحكي حكايات أناس عاديّين شقّوا طريقهم إلى الحاضر، فالإيقاعات بطيئة الحركة، واتصال المناطق المختلفة ببعضها بعضًا، وقدرة السكان على التكيّف والتحرّك، كلها وصلت هذه الفترة بتلك التي سبقتها، والأخرى التي تبعتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.