}
عروض

"الرجاء استبدال الأكاليل": الذاكرة المثقلة بالحروب

رباب دبس

11 يناير 2024


يغرف مازن حيدر في روايته "الرجاء استبدال الأكاليل" الصادرة عن دار الآداب 2023، من الذاكرة ما يجعلها في مصاف الرواية الواقعية، إذ يحيل أحداثها إلى مرجعية معروفة، من تاريخ وجغرافيا وناس. فالتاريخ هو حقبة زمنية من عمر لبنان، تمتد من خمسينيات القرن العشرين إلى ما بعد عام 2000، وما حدث بينهما، لا سيما الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في عام 1975. أما الجغرافيا فهي مدينة بيروت وبلدات من الجبل اللبناني، الناس في الرواية لبنانيون، منهم من عاش في حقبة السلم الأهلي وذاق مرارات الحرب الأهلية، ومنهم من ولد بعد انتهائها وتسللت إليه فظائعها من الذاكرة الجمعية والفردية للبنانيين، ومن بينهم، حيدر التي انعقدت روايته هذه من صميمها.

الشريط الذاكرة

بطلا الرواية هما فريد وأمينة اللذان هربا من جحيم الحرب، الدائرة في بلدتهما في الجبل، إلى حي بيضون في الأشرفية. أثناء إقامتهما البيروتية القسرية، التي حسبها كل من أمينة وفريد طارئة وقصيرة، طال أمدها، فيما طيف الأيام الهانئة التي عاشاها في بلدتهما الجبلية بدأ يلح بقوة، وكل ما تبقى لهما من ذكراها، موجود على شريط تسجيل تعرض جزء منه للتلف، فقصدا لأجل إصلاحه وإنقاذ ما عليه المعلم برجيس في عين الرمانة، ويجمع الشريط  أصوات أهل الحي على مأدبة غداء في إحدى المناسبات، جيران، وأقارب، ومستأجرين، وزوارا، وأطفالا، على الشريط أيضًا دردشات، أغان، ضحكات. إلا أن فريد وأمينة يختفيان ويصبحان في عداد المفقودين.

كل ما في الرواية من أحداث، يضعنا أمام ذاكرة مكتظة ومثقلة بالماضي، فلشريط التسجيل رمزية خاصة، وكل ما عليه يستدعي العودة إلى ناس آخرين عاشوا في زمن آخر مضى. وعلى طريقة الفلاش باك تتوالى في الرواية صور ومشاهد من زمن ما قبل الحرب، تقابلها صور ومشاهد أخرى من زمن الحرب، تتداخل في ما بينهما شذرات من حياة  فريد وأمينة ومراحل التقصي عن مصيرهما.

ما قبل الحرب

ثمة استعادات مختلفة عن بلدات الاصطياف التي كانت، بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين، مقصدًا للسياح العرب والأجانب واللبنانيين من كل حدب وصوب. انشغالات الناس في تلك البلدات منصبّة على تحسين المنازل وتجميلها من أجل تأجيرها بأسعار تنافسية، العلاقات بين الجماعات والطوائف كانت نموذجًا للتعايش. إنها مرحلة ازدهار لبنان ونموه والسلم الأهلي الذي ظن كثيرون أنه سيدوم إلى الأبد.

صور من ذلك الزمن، هي أكثر ما تلح على بال أمينة وفريد، حيث كانا فيه لا يزالان شابين يعيشان حياة هانئة، في صحبة جيران وأقارب وأصدقاء. إحدى الذكريات تستعيدها أمينة عندما دعاها زوجها فريد، في إحدى المآدب إلى الرقص على أغنية فرنسية: "فيف لا مور.. تو لي سوار، تو لي جور"، قائلًا لها "لن نعدّ الكؤوس يا أمينة"، فيما هتف المدعوون مطالبين برقص أجنبي "بدنا تويست". يتذكر فريد كيف أثارت تلك الجلسة حماس جارهم الياس الهبر، الذي أجاد في ردات العتابا، مشيدًا بدار أمينة وفريد:

"عَ كيف وبسط عزمنا ع دارو

غنوا لنا، رقصوا وداروا

داووا الجرح وحزننا داروا

بدارة أمينة وفريد طاب السهر".

كأن أمينة وفريد سعيا إلى تأبيد تلك اللحظات في الشريط، فلجآ إلى إصلاحه.

ذاكرة مثقلة بالحروب

يقول نيتشه "وحدها الأشياء التي لا تنفك تعذّب، تظل عالقة في الذاكرة"، ها هي فظائع الحرب، وإن كانت لا تحضر بوقائعها اللوجستية، تثقل ذاكرة شخوص الرواية، نجدها جاثمة في عقولهم وسلوكهم، وفي تصوراتهم، وتساؤلاتهم، وظنونهم، في أحاديثهم ومفرداتهم: تهجير، إكليل، قتل، اغتصاب، حاجز، عاهات، قناص، بلطة.

نحن هكذا أمام خوف متجذر بل متفشّ كأنه مرض معدٍ، حتى بعد الحرب التي انتهت كما اتفق قولًا، إلا أن مناخاتها التي استقرت في النفوس تنبئنا بأن نوعًا آخر من الحروب قد بدأ وظهرت مفاعليه في كل القضايا التي تمت تسويتها على عجل وشملت كل شيء، لكنها لم تكن حلًا لأي شيء، فلا المهجرون عادوا كلهم إلى منازلهم، ولم تعد المناطق تجمع كل الطوائف، ولا المصالحة أعادت من تهجروا من قراهم، ولم يتضح مصير المفقودين أيضًا.

العنف المتجذر في الذاكرة

شوقي الذي كان يقضي عطلة الصيف وهو طفل عند خالته أمينة في الجبل، عاد بعد أعوام  قضاها في فرنسا ليتقصى مصيرها وزوجها، وتتكشف لنا عبر هذه العملية، العنف الذي جذرته الحرب في نفوس اللبنانيين، عنف له مراتب وصنوف، عنف يضعنا أمام حقيقة بشعة، يبدو فيها ما أصاب المقتولين، نعمة لم يحظ بها المفقودون، فها هي أمينة لا تحظى بدفن لأنها لم تكن في عداد القتلى بل في عداد المفقودين. قالت مدام منسى:

"على الرغم من فظاعة ما جرى، فإننا نحمد الله أن جميع من قتلوا في البلدة قد دفنوا فيها"، "رقد القتلى في مدافن البلدة على عكس ما حل ببعض القرى، حيث بقيت الرفات مختبئة في الوعر والوديان،  بين الصخور وتحت أشجار الصنوبر واللزاب، يعرف تحديد مكانها عدد قليل من الناجين".

هذه التراتبية للقتلى، بين من كان لهم حظ في أن يدفنوا في تراب قراهم، وبين من لا تزال جثثهم في الوعر والوديان، وبين من لم يعثر لهم بعد على أثر، كأمينة وفريد تعمقها الفوارق الطائفية والتسويات التي طاولت كل الملفات، ولم يسلم منها حتى قتلى المجازر: "أقام الصلاة على ضحايا المجزرة كاهنان ماروني وأرثوذكسي، جنازة مستعجلة صحيح، بيد أنها حشدت عددًا لا بأس به من أهالي الجوار من الدروز".

مع هذه المراجعات التي يقوم بها شوقي، نجده يفقد الأمل بعودة خالته وزوجها، وكل ما حصله من أثرهما هو شريط التسجيل الذي تركاه عند المعلم برجيس، بهدف إصلاحه. هذا الأخير انتحر تاركًا في غرفته مئات منها غطاها الغبار لسنوات طويلة. ذلك يضعنا أمام رمزية هذه الشرائط، التي هي بمثابة ذاكرات سعى أصحابها لتصليحها بهدف الحفاظ عليها، إذ ربما كان عليها تسجيل عن حياتهم السابقة الجميلة أيضًا، كما هو شريط فريد وأمينة.

تجميل الذاكرة

هي الحرب التي لا تلبث أن تطل علينا من ثقوب الذاكرة، فنحاول تجميلها، كما فعل شوقي الذي سيعمد إلى تجميل قصة اختفاء أمينة وفريد، وسيروي لطفلتيه إذا ما سألتاه عنهما قصة يقول فيها: "أن حادثة ما في زمن ما حصلت لخالته وزوجها اللذين تاها عن منزلهما وهما يرصدان أصوات البلابل في غابات الجبل الفاتنة".

نحن في هذه الرواية، كأننا أمام فيلم شاهدناه من قبل، وفي كل مرة نتمعن في مشاهدته نجد أن منه ما زال عالقًا فينا، سواء عشنا الحرب أم تسللت إلينا من الذاكرة، بيد أنها تعكس أيضًا أكثر وأكثر ما لا نملكه من أجوبة، على الكثير من الأسئلة حولها. لماذا حصلت الحرب، وما هي نتائجها، وهل انتهت فعلًا؟ واذا ما انتهت أين هو مصير المفقودين فيها؟ علينا أن نقول الحقيقة ولا نجمل الواقع.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.