}
عروض

"سيرة الآخرين": هل نحن بإزاء محاولة كتابة جديدة؟

محمود أبو حامد

23 يناير 2024


من يقرأ كتاب الشاعر والصحافي السوري بشير البكر "سيرة الآخرين" سيقف مندهشًا أمام هذا الغنى الأدبي والجمالي، وهذه اللغة الجزلة السلسة الرشيقة... وحائرًا أمام هذا التنوع الكبير في الأجناس والأشكال والأنواع والفنون الأدبية... ومتسائلًا عن زخم هذه الذاكرة الأرشيفية المتقدة التي تدوّن مشاهدات وشهادات، ومذكرات وذكريات ويوميات، وآراء وكتابات، ومواقف وتأملات لنحو سبعين شخصية تتوزع في الكتاب ضمن أجزاء تحمل عناوين مضافة لأسمائهم بتكثيف عال ودلالات دقيقة يندرج تحتها بوح شفيف، وتناول أنيق ورقيق لحكاياتهم بحيادية وحرفية، وحوارات ومداخلات نقدية وأدبية.... ومقالات ومقاربات وآراء ونصوص وحوارات... تتشكل في أبنية تضم كل أنواع وأشكال الكتابات الأدبية والصحافية، لكنها في الوقت ذاته لا تنتمي إلى أي نوع منها؟! فإلى أي جنس يمكن أن ينتمي هذا الكتاب؟ وما هي التسمية التي يمكن أن نطلقها على هذه التجربة؟

عناوين وعتبات
"سيرة الآخرين" هي ليست سيرتهم الذاتية، بل يمكن عدُّها فصولًا من كتب حياتهم... وهي ليست سيرة بشير البكر أيضًا، وإن تسلل بعضها كنقاط ارتكاز، أو مرجع، أو كمسار سردي بين سطور فصول الكتاب... وقد تقنع سيرة البكر القارئ بأن اختياراته الانتقائية لهذه الشخصيات بعينها يعود لمعايشتها، أو حتى للقاء بها عبر حوارات صحافية، لكن ثمة شخصيات يتحدث عنها من دون ذكر اللقاء بها، كما في فصل "أمين معلوف... الثقافة أو الهاوية"... وثمة شخصيات يعتقد القارئ أنها تتقاطع مع حياة الكاتب وشخصياته لم يتم ذكرها، هذا بالإضافة الى قلة الحديث عن شخصيات جزائرية، أو مصرية، مثلًا.
يشكل عنوان الكتاب "سيرة الآخرين" عتبة للتقصي والبحث عن ارتباطه بمكوناته من جهة، ودلالاتها ككتابة جديدة تبحث عن تسميتها، أو جنسها الأدبي، من جهة ثانية... وربما عدم وجود منهجية لتوزيع هذه الفصول وترتيبها يمنح الكتاب خصوصية إضافية، لكن السؤال عنها يظل مفتوحًا.
يوفق الكاتب في ابتعاده عن السير الذاتية الجافة، أو المليئة بالأرقام والأوقات، والمُعبَّر عنها بلغة تقريرية إنشائية... لكن قد يشي ذلك بأسئلة عن "مزاجية" ذكر ولادة شخصية ما، أو موتها، من دون أخرى، أو تفاصيل في مرجعيات عائلية، أو دينية، قد تغني تناول الكاتب للشخصية... ففي حين يفصّل البكر في سيرة رشا الأمير وعائلتها... ويذكر مواليد عبد العزيز المقالح، مثلًا، يبتعد عن تفاصيل ولادة ونشأة الصحافي إريك رولو، وبداياته التي لعبت دورًا مهمًا في بناء شخصيته... وإن بدأ بوفاته في فبراير/ شباط 2015، إلا أنه أغفل مولده في مصر لأسرة يهودية عام 1926، واسمه الحقيقي إيلي رفول، ونشأته في القاهرة، وعمله في الصحافة وهو في العشرين من عمره.
يشتغل البكر بدقة ودراية على عناوين فصول كتابه، وإن أخذت شكل "الاسم والمضاف إليه" في أغلبها، لكنها في الوقت ذاته مكثفة وموحية، وتربط متن المادة المندرجة تحتها بخيوط متينة وأساسية. ولا يعني وجود اسم شخص في العنوان بأن المادة تتناوله وحده وحسب، بل ثمة أسماء تتقاطع، ولأكثر من مرة، في عدد من فصول الكتاب، وثمة أسماء كبيرة تمر مرور الكرام... وفي أغلب الأحيان تجسّد الكلمات، أو الجملة، المضافة للاسم، عتبة لتقصي الشخصية، أو الحديث عنها، وقد تدل على ميزة مهمة فيها، أو تشير إلى جانب ما من حياتها، أو تكثف مفتاحًا لتناول أعمالها، أو إشارة نقدية لها، أو تأبين، أو رثاء. كما الإشارة إلى أعمال الروائي منيف: "عبد الرحمن منيف... راوي النفط والسجن والصحراء"، ورحيل الشاعر الحسين "رياض الصالح الحسين... بدايات لم تكتمل"، ومعاناة حتمل "جميل حتمل... صورة الكاتب في شبابه الحزين"، وخيبة الريس "رياض الريس... مات ولم تصدر القبس من دمشق"، وحرفية خاطر "نزيه خاطر... بطريرك النقد التشكيلي". وثمة عناوين مباشرة مثل: "عبد العزيز المقالح... صاحب الديوان الثقافي"، وعناوين حدّية وقاطعة مثل "إلياس مرقص... المفكر الماركسي الناصري"، وعناوين مجازية وموحية مثل "أنسي الحاج... سهو الشاعر عند حافة الشك"... وثمة عناوين لا تحكي عن صاحبها، كما في "آحاد نوال عبود"، إذ حمل العنوان اسمها، لكن محتوى الفصل كان فقط عن بيتها ومطبخها وزوجها وزوارها عامة، وفي أيام الآحاد خاصة.




من أهم العتبات التي علينا التوقف عندها عتبة الذاكرة الشفوية واشتغال البكر على تدوينها.... والعناية بهذا التدوين ودقته، إذ يحرص الكاتب على تمييز التنصيص والاقتباس، والاشارة بالأقواس لكل ما يعود على "قول" الآخرين، أكان منشورًا في الصحف والمجلات، أو مدونًا في أحد أعمالهم... وعليه يحفل الكتاب بكثير من الذاكرة الشفوية النقية والمهمة جدًا عند "الآخرين" عامة، ومن رحل منهم خاصة.

الكاتب/ الصحافي
كثير من كتّاب الأعمدة جمعوا نتاجهم اليومي، أو الأسبوعي، في كتب قاموا بإصدارها. لكنها، يا للأسف، مع مرور الوقت لم تعد طازجة كما كانت، بل أغلبها لم يعد صالحًا لا لأي زمان، أو مكان... في تجربة بشير البكر الصحافية ثمة "مقالات" كانت قريبة من العمود الصحافي، بل ثمة إشارات، أو هفوات، في بعضها، للدلالة على زمن ما، بعد زمن نشر المقالة في الصحيفة، مثل: "في بداية العام، أو قبل خمس سنين، أو الشهر الماضي..."، لكن أغلبها في هذا الكتاب توثيقي وتأريخي وتسجيلي، ونقدي واحتفائي أو تأبيني، أو ذكريات ومذكرات وحكايات في نصوص نثرية ممتعة... وليست كلها لا تزال طازجة وحسب، بل هي بمثابة مصدر ومرجع؛ ما يمنح لهذا الكتاب خصوصية إضافية، ولصاحبه الجرأة والقدرة على تحمل المسؤولية؛ لأن في الكتاب كثيرًا من تدوينات الذاكرة الشفوية، والآراء الخاصة والوثائق والمعلومات المهمة، قد يفندها أو يعترض عليها أو يؤكدها الأحياء من الشخصيات، لكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق صاحب الكتاب في ما يخص الراحلين منهم.

كتاب وأعلام تناول كتاب "سيرة الآخرين" بعضًا من سيرهم 


لقد سخَّر البكر مهنيته الصحافية الثرية ليس للتعرف على شخوص كتابه، أو إجراء حوارات معهم وحسب، بل في قراءة أفكارهم وأعمالهم وتداعياتها على تاريخهم ويومياتهم، وتدوين ذلك بمحبة وشفافية، وحيادية واضحة، وخاصة في الموضوعات البعيدة عن السياسة؛ وأولى صناعة الخبر أهمية لافتة، وسطر تجارب كبار الصحافيين كما في فصل "ياسر هواري... مارلون براندو الصحافة العربية"، وتحدث عن تجاربه الشخصية أيضًا، كما في فصل "بلال الحسن... مايسترو اليوم السابع"، وفي فصل "إميل منعم... فنان التصميم الصحافي"، الذي يحتوي على تجربة الكاتب ومنعم في تأسيس صحيفة "العربي الجديد" تحت إشراف المفكر الدكتور عزمي بشارة.
كما استفاد البكر من خبرته الصحافية الطويلة، ومن عمله في مجالاتها وصفحاتها المتعددة والمتنوعة، ما مكنه من تشكيل حصيلة ثقافية ثرية، ومخزون معرفي ولغوي كبير... وواكب من خلال هذا كله شخوصه في مجالات اختصاصها المتنوعة والمغايرة ومشاربها المختلفة.
البكر الشاعر تجلى في هذه الكتاب بلغته، ومن اللغة وبها ثمة مكونات، داخل النصوص، أو الحكايات، تشي بتباينات إبداعية لافتة، أكان في الأسلوب، أم في السرد ومستوياته... أم في جزالة المفردة وتراكيبها وبلاغتها وغناها المعجمي والاصطلاحي... وفي رشاقة الجمل وسلاستها وتشويقها، وانسيابيتها في الانتقال من فقرة إلى فقرة، حتى لو كانت مغايرة، من دون إرباك، أو ارتباك، لا للكاتب ولا للقارئ... والأمثلة على شاعرية اللغة وكثافتها ودلالاتها ومجازاتها كثيرة، ومنها ما قد يغدو في جمل شعرية، أو في فقرة حميمية... ومنها ما يكون ضمن نص خاص بتناول شخصية ما، كما نرى ذلك بوضوح في مجاراته لتألقات صديقه خليل النعيمي بين البادية السورية وباريس، وعلاقته بالكتابة كسيرة وعي... وفي رثائه لصديقته عناية جابر، التي ضاعت في بيروت. هذا بالإضافة إلى اهتمامه الخاص بالشعراء، واحتفائه بهم، وتأبين ورثاء من رحلوا منهم.
البكر الكاتب، في هذه التجربة التي تبحث عن جنسها وتسميتها، يدهشنا باحتضان كتابه لأغلب الأشكال الأدبية... فثمة حكايات وقصص ونصوص ومقالات... وربما فصول من روايات، أو مشروع رواية كحكاية الصافي سعيد، الذي خرج من تونس إلى العالم العربي صحافيًا في سبعينيات القرن الماضي، بعد جولته في محطات عدة، كأنغولا، وكوبا، وفييتنام... وعلاقاته مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية وقياداتها... وعودته إلى تونس بعد 21 عامًا، ومزاولة نشاطه الصحافي والسياسي وعلاقاته المتميزة مع الرؤساء والشخصيات البارزة في المغرب العربي عامة، وفي تونس خاصة؛ إلى أن يصير على مقربة من رئاسة الحكومة. وتضع وسائل الإعلام اسمه بين المرشحين كي يخلف رئيس حكومة الحبيب الجملي التي سقطت...
في الكتاب قصص قصيرة، تحقق تسميتها بكل جدارة، قصص بكامل عناصرها الفنية، والمثال الأوضح على ذلك قصة وصول الكاتب بشير البكر إلى مقيل، أو صالون عبد العزيز المقالح الثقافي في صنعاء، وهي قصة متماسكة ومكثفة، ومشوقة وبلغة رشيقة، وخاتمتها مدهشة... هذا بالإضافة إلى الاحتفاء بالقصة القصيرة وكتابها، وفرد كثير من الصفحات لهم، وعرض الآراء النقدية المتعلقة بهم وبأعمالهم، ونرى ذلك من خلال ما فرده البكر في الكتاب عن حياة زكريا تامر وأعماله القصصية... وما كتبه عن حسونة المصباحي وأعماله، وما قال عنه كاتب القصة يوسف إدريس: "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة... كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين".
ثمة استمرار لأدب السجون بين ثنايا "سيرة الآخرين"، وإن كانت كتجارب ذاتية خاضها كثير من شخصيات الكتاب، أو كأعمال تصدرتها روايات عبد الرحمن منيف، وبالأخص "شرق المتوسط"، أو شهادات وحوارات وتداعيات وذكريات... لكن ثمة إضاءة إضافية لهذا الأدب دوّنتها تجربة الشاعر فرج بيرقدار عن علاقة السجن بالمخزون اللغوي، واقتصار حياة السجناء، والكتّاب منهم، على كلمات عدة في يومياتهم وحسب، وتخثر الباقي من قاموسهم مع الزمن... ويشير بيرقدار إلى خطورة ذلك، وسبل المحافظة على هذا المخزون اللغوي التاريخي... ويقول: "سألني أحـد أصدقائي السجناء عن جدوى مخاطرتي بخرق قوانين السجن عبر التسلق إلى إحدى النوافذ العليا من أجل إلقاء نظرة خاطفة إلى الخارج... قلت له إني سأتسلق الآن، وألقي نظرة، ثم أعود لأعدد لك مئات الكلمات التي لا نستخدمها في السجن... وبالتالي يمكن أن تموت أو ننساها...".
أدب الرحلات لم يتم تناوله عبر من كتبوا فيه وعنه فقط، بل عبر شخصيات عاشته وعايشته، وشخصيات دوّنت ذاكرة لأمكنة ومشهدياتها... ووصفت تفاصيل بيوت وظلالها، وشوارع وأزقة وقرى ومدنًا... وتناولت فن العمارة والتحولات الجمالية التاريخية لملامح البلاد، والعادات والتقاليد والثقافات الشعبية، ورائحة الذكريات الشفوية والمكتوبة... ويفرد الكاتب لذلك فصولًا عدة من كتابه، كما يعرض للكتب والروايات الخاصة بأدب الرحلات، يتوّجها التناول المبدع لأعمال الطبيب الجراح خليل النعيمي، الروائي الذي يعد الكتابة سيرة وعي: "حين يكتب النعيمي الرحلة يرمي عن ظهره كل الأثقال، ويبدو خفيفًا، كما لو أنه الطفل الذي كان يطارد الغزلان في الجزيرة السورية، في مرابع الأهل هناك. على أن الرواية تتمة لما انقطع من سيرة بقيت مفتوحة على مديح الهرب".




ولم تتوقف الرحلات بين المدن في بلد الكاتب، كالحسكة، والرقة، وحلب، ودمشق... بل تعدتها إلى دول عربية وعالمية، كلبنان واليمن وتونس ومصر والعراق... وفرنسا وبريطانيا وتركيا وقبرص... وربما في تناول الكاتب لهذا الجنس الأدبي دعوة للإضافة عليه، فالرحلات لم تكن لبعض المدن عابرة، بل ثمة "معايشات" متفاوتة المدد، كحياة الكاتب، وبعض شخوصه في بيروت، وفي تونس، وعدن، وباريس، ولندن... وثمة سفر قسري كالشتات واللجوء والمنافي... يتناوله البكر بحنين شفيف، ويفرد له عديد صفحات الكتاب، كما في "إنعام كجه جي... سيدة الشتات العراقي".
النقد عند المؤلف له خصوصيته، وفي هذا الكتاب له تنوعاته وانتقائيته أيضًا... واللافت في ذلك أنه، أي النقد، يأتي في سياقات عفوية، ولكنه مكثف وعميق؛ وإضافة للتساؤلات المثيرة، ثمة إشارات إلى جوانب بعينها، بأنها لم تأخذ قدرًا كافيًا من النقد، أو هي في حاجة إلى نقد مغاير، أو نقد يليق بها... كما في حكايته عن الشاعر محمد الماغوط، وعدم تناول النقد لظاهرة توقف الماغوط، وغيره من الشعراء عن الكتابة... أو في قوله إن النقد لم يعط الروائي فواز حداد حقه... أو في تأكيده على أن الشاعرين محمد عمران، وعلي الجندي، أكثر من تعرضوا للظلم، وأكثر من أخلصوا للشعر.
ويخوض البكر تجارب نقدية جريئة في شتى المجالات الأدبية والتشكيلية والصحافية والفنية... وفي فصول الكتاب كثير من الأمثلة: كما في حديثه عن تجربة بول شاوول الطاعن في الشعر، وتجربة ممدوح عدوان الشاعر ذو الظل الأخضر، والشاعر حسن نجمي، صانع الصورة وشاعر اللغتين... وفي مجال الرواية تجربة الحبيب السالمي، الروائي ما وراء الحكاية، أو في قراءته لأعمال الكاتبة سلوى النعيمي... وفي الفن التشكيلي تناوله لتجربة الفنان مصطفى الحلاج، وبين الرسم والشعر تجربة إيتيل عدنان المتعددة بين القصيدة واللوحة... وثمة نقد للنقد أيضًا، ككتابته عن الناقد يوسف سامي اليوسف، الذي أخضع الشعر العربي إلى جلسة تحليل نفسي... وتوصيفه لأسلوب ديما شكر النقدي، واتكائها على "الحدس النقدي" بتقاطعه بين الذاتي والموضوعي... وثمة تناول شفيف ومحايد لعدد كبير من الشخصيات، ولأعمالها الإبداعية، وتقاطعاتها مع الآخرين في محطات من مسيرة حياتها... وفي كثير من الحميمية ثمة آراء نقدية تحليلية لدواخل شخوص عايشها الكاتب، وتناول سيرتها، كما في حديثه عن "الباهي محمـد... رجل من معجزات الصحراء"، وعن صديقه الشاعر "حامد آراغون بدرخان الكردي"، الذي يمتلك كيمياء خاصة تتيح له التسرب بخفة وحب إلى قلوب الآخرين، ومن قبل فئات متنوعة ليس من طرف الكتاب والصحافيين فقط.

السياسي والثقافي

"رياض الريس... مات ولم تصدر القبس من دمشق"... إطلالة على سيرة الورَّاق الأخير في كتاب بشير البكر


يفتتح بشير البكر كتابه بشخصية المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة "المثقف العربي في الزمن الصعب"، وهو بذلك يحتفي بالمفكر بشارة، ويبدو جليًا من خلال السرد المستفيض "مدى تأثر الكاتب به، وبمنهجه في التحليل، ومقاربة القضايا المحورية"... وإضافة لذلك يمهد لوجود تواشج وتكامل بين السياسي والفكري والثقافي من جهة، وقطيعة من جهة ثانية، مع أننا قلما نجد حكاية شخصية ما، من دون تسليط الضوء على الجوانب السياسية في حياتها وأفكارها وأعمالها الابداعية... والدكتور بشارة يرفض أن يصنف نفسه بين الشعراء والروائيين، ولم يطمح إلى ذلك، ويقول بشارة: "الفكر السياسي يتضمن تسويات مع الواقع، بينما الأدب يتيح لي كسر التسويات.... وكانت كتابة ’الحاجز’ و’حب في منطقة الظل’، نوعًا من العلاج الذاتي".
والبكر واضح بمواقفه السياسية أكان بما يخص الربيع العربي عامة، أو الثورة السورية خاصة، ويفرد فصولًا من كتابه عن أحداثها، وعما كُتب عنها، كما في فصل "خالد خليفة... الرواية عمل شاق"، وفي فصل "سمر يزبك... الروائية في الثورة"... ويتحدث في الكتاب عن علاقاته مع منظمة التحرير الفلسطينية وقياداتها، والقوى الوطنية اللبنانية، والقيادات السياسية في اليمن... وغيرها. وربما الخيط الرفيع الفاصل بين البكر الكاتب، والبكر الصحافي، هو هاجسه السياسي في أغلب "المقالات"، وتسليط الضوء عليه حتى من بين السطور... وقد يبتعد من الأدبي نحو السياسي في بعض الفصول، كتناوله للكاتبين هاني الراهب وسعيد حورانية: "ولن أتناولهما على سبيل الاستعادة التقليدية، أو التقييم النقدي المعياري، وإنما من زاوية لها علاقة بحياة الكاتب في سياقها الثقافي والسياسي". وقد يبتعد نحو السياسي أيضًا، كما في فصل الكتاب الخاص بالعظم "صادق جلال العظم... سيرة في ثورة لم تكتمل"... وقد يفرد للفكري والسياسي حيزًا خاصًا كما في الفصلين الخاصين بمرقص وعمر: "إلياس مرقص... المفكر الماركسي الناصري "، "جار الله عمر... الاشتراكيون يذهبون إلى الجنة"... وحتى في علاقته بالشاعر محمود درويش، يسلط الضوء على الجانب السياسي فيه، في الفترة التي كان فيها درويش عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم قدم استقالته منها قبل توقيع اتفاق أوسلو في 1993، وذلـك بسبب اعتراضه على الاتفاق، وسجل ذلك في رسالة مخطوطة بيده ما زال بشير البكر يحتفظ بنصها الأصلي بين أوراقه.
أما في ما يخص الثقافي، وبرغم تقاطعه مع السياسي، فسيلاحظ القارئ أن القاسم المشترك بين كل تلك الأسماء/ العناوين، هو أن كلهم أصحاب مشاريع ثقافية... وأصحاب نتاجات إبداعية... لا يمكن لكتاب واحد أن يجمعها كلها، ومع ذلك يحاول البكر في هذا الكتاب، كما في كتب التراجم، أو ما يعرف بالبورتريهات، أن يتحدث عن 69 شخصية تتقاطع كلها في المجال الثقافي...
وهو يفتتح "سيرة الآخرين" بعرض لكتاب "في نفي المنفى" 2017، الذي يضم حوارًا أجراه الكاتب صقر أبو فخر مع الدكتور عزمي بشارة... كما يدعم تناول شخصية المفكر السوري إلياس مرقص بكتاب "إلياس مرقص: حوارات غير منشورة" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودرسة السياسات عام 2013. ولا يتوقف اهتمام البكر اللافت على عروض الكتب، وذكر نتاجات شخوصه منها، بل ينتقد بعضها، ويشير إلى أهمية بعضها الآخر، ويسجل تقديره لصنّاعها والقائمين على نشرها، كما في فصل "نجاح طاهر... الغلاف صورة موازية للنص"، وفي فصل: "رياض الريس... مات ولم تصدر القبس من دمشق"، وفصل "رشا الأمير... الساكنة في الكلمة... بيتها الأبدي"... كما يعطي للمجالس الثقافية رونقها الخاص ودورها الفاعل في الحياة الثقافية بعيدًا عن السياسة، كما في فصل "عبد العزيز المقالح... صاحب الديوان الثقافي"، وفصل "عبد السلام العجيلي... الحكواتي ذو العينين"، وفصل "بندر عبد الحميد... صاحب المضافة الثقافية".

كما يولي البكر اهتمامًا لافتًا بالترجمة، كما في فصل "محمـد حقي صوتشين... ترجمان الأشعار من العربية للتركية"، وفصل "صالح علماني... المترجم شريك الكاتب ومؤلف الترجمة"... واهتمامًا بالإذاعة والسينما، كما في فصل "غسان عبد الخالق... رحلة لم تكتمل في الإذاعة والسينما"، وفصل "صاموئيل شمعون المحارب الآشوري الأخير"... وبالحكواتي كما في "عارف حجاوي... الحكواتي الفصيح"... ومع كل هذا، قد يفتقد القارئ تناول الكتاب للمسرح، أو كتّابه.
كتاب "سيرة الآخرين" يعدُّ برأيي كتابة جديدة، ومحاولة قد تضاف إلى كتب السيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.