}
عروض

"قِناع بلون السماء": أقنعة الروائي الأسير باسم خندقجي

باسم سليمان

26 يناير 2024

بدءًا من الرسوم الموجودة في كهف لاسكو الفرنسي، حيث رسم الإنسان القديم الحيوانات التي سيصطادها، متقنّعًا بالفنّ والسحر حتى يسيطر عليها، إلى القناع على المسرح الإغريقي، الذي كان الممثّل يرتديه لينتقل من شخصية إلى أخرى، أصبحت تقنية القناع ثيمة مهمة في الآداب؛ لأنّ التخييل هو القناع الذي نفرّ عبره من الواقع، وفي الوقت نفسه نواجهه، إلى أن نفصح عن شخصيتنا الحقيقية في النهاية. لا ريب أنّ مقولة ابن خلدون بتقليد المغلوب للغالب هي تقنّع سلبي، وهذا ما سيبينه نور مهدي الشهدي عبر لعبة لغوية للدلالة المخفية لكلمة القناع بالإنكليزية: (Mask) التي تلفظ بالعبرية (مسيخا)، وبالعربية (مسخ) المشوّه الملامح، لكنّ نور لبس وجه الإسرائيلي الأشكنازي أور شابيرا!
إنّ طموح الأدب أن يكون أكثر إبداعًا من الواقع! ومن هذه الرؤية سنقترب من رواية: "قناع بلون السماء"، للروائي الفلسطيني باسم خندقجي، الصادرة عن دار الآداب عام 2023، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر لعام 2024.
عندما يمرض الواقع، يُشفى بالتخييل؛ هذا كان لسان حال نور في جداله مع صديقه مراد، الذي حُكم عليه بالسجن بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال الاسرائيلي بتهمة محاولة إطلاق النار على الجنود الإسرائيليين. كان مراد يعيب على نور الانشغال بأسطورة مريم المجدلية، كونه خريج المعهد العالي للآثار الإسلامية التابع لجامعة القدس، وتخلّيه بموجب مؤهّلاته عن الاشتباك فكريًا مع أفكار الكولونيالية الصهيونية، أو حتى دعم أهالي حي الشيخ جرّاح في القدس بإثبات ملكيتهم للبيوت في مواجهة سعي الصهاينة لتهويده، ما دام يملك العلم ذاته الذي زوّرت به الصهيونية التاريخ لتثبت حقّ تواجدها في فلسطين، فالأولى به أن يستخدمه لينقض ادعاءاتها.

قناع نور
من هذه المشهدية الحوارية الجدلية التي تجري بين نور ومراد، لكن من طرف واحد، ينشئ خندقجي روايته، فنور بعد اعتقال صديقه مراد أصبح وحيدًا، يخاطبه عبر تسجيلات يودعها ذاكرة موبايله، مستكملًا حواراتهما السابقة قبل الاعتقال، ومتممًا مرافعته لإقناع صديقه مراد بأنّ معركة التفاصيل لا تقل أهمية عن معركة المبادئ التي جهّز مراد نفسه لها بدراسة العلوم السياسية، ونيله الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في كلية الدراسات العليا التابعة لجامعة القدس على الرغم من سجنه، ليدحض افتراءات الصهيونية الفكرية. اختبر مراد بعد سجنه تلك الكثافة الضاغطة على الكينونة التي عاشها محمود درويش إبّان سجنه، وكتب بموجبها قصيدته: "أحنّ إلى خبز أمي"، من أجل أن لا تعدم قوى الكينونة لديه، كما قال مراد، فالسجن يُجهض فعل المقاومة، ولذلك لجأ كثير من الأسرى الفلسطينيين إلى الإضراب عن الطعام احتجاجًا، ومقاومة للعدمية الوجودية التي فرضها عليهم الاحتلال بسجنهم، فبهذه الطريقة يؤكّدون له قصور عنجهيته عن إرادة المقاومة. لم يذهب مراد إلى ذلك، بل رأى في الاشتباك الفكري، وتفكيك أسس الكولونيالية الصهيونية، عبر دراستها ومجابهتها بأدواتها ذاتها، خيارًا ما زال متاحًا، مثلما فعل الفلسطيني إدوارد سعيد. وكان مراد يريد لنور الذي يعيش خارج قضبان السجن أن يدخر جهده ووقته من أجل هذه المهمة، لا أن ينخرط في سعي خلّبي بحثًا عن تلك المجدلية التي استبعدها التاريخ الرسمي للكنيسة من سرديته، إلّا في شذرات معدودة. مع أنّ مراد هو من أوقد جذوة المجدلية في صدر نور بعد أن طلب منه أن يحضر له إلى السجن كتابين: "شيفرة دافنشي" لدان براون، و"الدم المقدس والكأس المقدسة"، لمايكل بايجنت، لكنّ نور كان يكرّر لصديقه المولع بحرب المبادئ والأسس بأنّ التفاصيل المهملة، والتي قد لا تعني شيئًا لحاضر يستعر بنار الاحتلال، يمكن لها أن تساهم في إطفاء تلك النار الجهنمية. لقد كانت وجهة نظر نور بأنّ هنالك خارج السجن كثافة ضاغطة تشظي الوجود نهائيًا، ويتمنّى أن يكون سجينًا ليخفّف من عبئها، فهو ابن اللد اللاجئ في مخيم رام الله، وهو ابن مناضل انقلب على ذاته بعد خروجه من السجن وتوقيعه على ورقة يمتنع بموجبها عن الأعمال النضالية التي تُسمى إرهابية من قبل سلطة الاحتلال وفق اتفاقها مع السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، والذي صدم أكثر بعد خروجه ورؤية رفاق الدرب يستغلّون المناصب التي منحت لهم من قبل السلطة الفلسطينية، فأصبح بائع شاي وقهوة على عربة من خشب معيدًا ذكرى مقهى والده، الذي امتلكته عائلته قبل النكبة الفلسطينية عام 1948. فيما نور أصبح عجيًا منذ لحظة ولادته، فقد ماتت أمّه بعد ولادته مباشرة وهو الملقّب بــ(السكناجي ـ تعريب لكلمة: الأشكنازي) من قبل أطفال الحي، لأنّ ملامحه أوروبية، وهو من كان يعمل ليؤمن مصاريف دراسته، فأبوه رفض محاولة السلطة الفلسطينية تبييض صفحتها بعد أن تخلّت عنه، وذلك بمنح ابنه معونة دراسية. لقد شعر نور بأنّه لقيط؛ لا أم له ولا أب، ولولا حادثة صغيرة تجلّت بأن قام بقص شعره الأشقر ليوقف تنمّر رفاقه عليه وذهاب أبيه إلى المدرسة مهددًا، لمَا شعر بتلك الأبوة أبدًا، لذلك كان نور يؤكّد لمراد بأنّ سجن الخارج أشدّ وطأة من السجن الذي يعانيه مراد، فمعادلته واضحة: سجن سجّان سجين، أمّا في الخارج فقد استولت المجاهيل على طرفي المعادلة، ممّا يجعلها مستحيلة الحل. لقد كسر أبوه البوصلة، فأصبح بلا وجه، ومن كان بلا وجه يسعى لقناع يستر به فقدانه للملامح.
يعاني نور تهميشًا متعدّد الجوانب، بدءًا من الأسرة إلى مجتمعه الفلسطيني، مرورًا بمنعه من الحصول على تصريح العمل كونه أحد أبناء المناضلين، لذلك كان يعمل متخفيًا، فإن قبض عليه أودع السجن. وعندما طلب منه مراد أن يحضر له رواية دان براون اطلع عليها، فاكتشف تلك المرأة التي سكبت عطر الناردين على قدمي المسيح، ووقفت تحت صليبه، وكانت أول من ظهر لها بعد قيامته من الموت. ومع ذلك، أهملتها المنظومة الذكورية لتلاميذ المسيح، ومن بعدها الكنيسة، فهل رأى فيها شبهًا له؟ وخاصة أنّ المجدلية كانت محور عدد من الأناجيل غير الرسمية والكتابة الأبوكريفية (المنحولة) الغنوصية! فهل يشبه وجود نور وجود المجدلية، لذلك كان سعيه لكشف حقيقتها التاريخية مطلبًا شخصيًا في الوقت نفسه؟
لم تفض دراساته المكثّفة وبحوثه المضنية في سعيه لإثبات تاريخية مريم المجدلية إلى نتيجة، فالأدلة والأحفوريات التي وجدها لا ترتقي لإقامة دراسة علمية محكّمة عن وجود المجدلية، ممّا دفعه ليحوّل هذه الجهود إلى رواية، إلى خيال لا يعكس الواقع كما هو التعريف النمطي للأدب، بل يذهب، وفق رؤية أدونيس، بأنّ القصيدة تزيد من سعة الأرض، والرواية قادرة على إعادة فتح خزائن التاريخ عبر مساءلة حقائق التاريخ القارة، وأساطيره المشتهاة، وخرافاته اللاشعورية، أليس التاريخ خيالًا معقلنًا، كما قال نور.

قناع الروائي
لا يخفي نور منهجه في كيفية الاشتغال على روايته المفترضة، بل يناقش تخييله لإيجاد المبرّرات العقلية والسببية والوثائقية التي سيزود بها بطل روايته، نسيم شاكر، المختص في الآثار، وفق ما فعل دان بروان في روايته "شيفرة دافنشي"، مع أنّه يرى أنّ براون قد سرق المجدلية من فلسطين إلى أوروبا.




ومع ذلك، كان يقصي بعض الأدلة المبهمة، ويثبت منها بعضًا آخر؛ من أناجيل نجع حمادي المنحولة غير المعترف بها من قبل الكنيسة، إلى الدراسات التاريخية التي وضعت عن حياة المسيح. وملاحظًا بأنّ تلك العلاقة المتوترة بين بطرس أهم تلامذة المسيح والمجدلية، ساهمت بشكل كبير في طمس حياة تلك الأنثى التي كانت أول من رأت المسيح بعد قيامته من الموت، ووقفت تحت صليبه، بينما أنكره بطرس ثلاث مرات. وكأنّ نور بهذا الأسلوب يعالج واقعه، فما الذي سيقبله منه، وما الذي سيرفضه؟ لكنّه ظلّ في متاهته لا يستطيع الفرار منها إلى أن أتته الفرصة المواتية، فلقد اشترى من سوق البالة معطفًا وجد فيه بطاقة شخصية زرقاء لإسرائيلي أشكنازي يُدعي أور شابيرا! ومعنى أور في العربية النور، وفي الوقت نفسه تومئ إلى موطن النبي إبراهيم الذي اشتجرت منه الديانات السماوية الثلاث. وهذه البطاقة الشخصية إن لبس نور ملامحها، فسيمتلك الفرصة الذهبية ليبني هيكل روايته على أرض الواقع، وخاصة أنّ دراسته كانت عن ثورة باركوخبا اليهودية التي قمعها الرومان ما بين عامي 132 ـ 136 ميلادي. وعندما رأى إعلان معهد أولبرايت للأبحاث الأثرية نيته افتتاح موسم التنقيب الثاني عن معسكر الفيلق الروماني السادس قرب موقع مجدو الأثري (وادي اللجون) في شمال فلسطين قرب سهل مرج ابن عامر، وهو المعروف باسم هرمجدون، حيث ستقوم المعركة النهائية بين الخير والشر بعودة المسيح للاقتصاص من أعدائه. خرج نور من متاهته بعد أن رأى في قرية مجدلة، التي تعود إليها مريم المجدلية الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا، واقعًا يستطيع أن يخصبه بتخيلاته.

قناع أور شابيرا
ذهب نور ببطاقته الشخصية الجديدة إلى القدس، التي كانت على وشك الاشتعال احتجاجًا على محاولات الصهاينة تهويد حي الشيخ جرّاح. هناك يلتقي بصديقه المغربي الأصل، الصوفي الشيخ مرسي، الذي يؤمن له سيرة عمل باسم نور شابيرا. يلتحق نور ـ عفوًا أور شابيرا- بمجموعة التنقيب بقيادة البروفيسور بريان، حيث تعجب به فتاة إسرائيلية تدعى أيالا (من اليهود المزراحيم/ الشرقيين الذين تعود أصولها إلى حلب). وفي خضم تعريف أعضاء البعثة بأسمائهم، يتفاجأ نور بصوت أنثوي يعلن عن نفسه: سماء إسماعيل، فلسطينية من حيفا من عرب 1948. كاد نور أن يخلع قناع أور شابيرا بعد رؤيته سماء، لكنّه تمالك نفسه، فالبحث عن معطيات تدعم روايته عن المجدلية أوقف تعريه. كان على أعضاء البعثة أن يلتقوا في كيبوتس/ مستوطنة مشمار هعيمق، التي أقيمت على قرية أبو شوشة، حيث زرعوا غابة من أجل طمس معالم القرية.
يدخل نور مستوطنة مشمار هعيمق رافضًا اسم كيبوتس لها، مستبدلًا إياه بمصطلح المستوطنة، مستذكرًا ما علّمه إياه مراد عن الفرق بين المصطلحين، فالمستوطنة تشير إلى الاحتلال، أمّا الكيبوتس فخضوع وقبول به. وعلى حاجزها الأمني يبرز البطاقة الشخصية لأور، فيدقّق الحارس فيها، ولكنّ قدوم أيالا بسيارتها ينقذه، حيث تخبر الحارس أن أور منهم. هكذا يلج نور إلى أرض تخييله. تبدأ الحفريات، ويزداد تقرّب أيالا منه. ومع ذلك كانت تتهمه بأنّه أشكنازي ينظر إليها نظرة دونية كونها من اليهود الشرقيين. يحاول نور التهرب منها، والتقرّب من تلك السماء التي ما فتئت تعلن عن هويتها الفلسطينية، محاولة أن تشرح لأعضاء البعثة الأوروبيين بأنّ المنطقة كانت قرى فلسطينية زوّر الاحتلال تاريخها.
كان سهل مجدو مسرحًا لحروب كثيرة، هناك هُزم الجيش العربي عام 1948 أمام العصابات الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، وجد فيها نور أرضًا صالحة لتخيله، فبعد ثورة باركوخبا اليهودية التي شتتها الرومان تهرب عائلة سمعان الأعرج تلميذ المجدلية من القدس إلى قرية مجدلة ومعهم صندوق مقدس فيه عطر الناردين وجدائلها. يقومون بدفنه في أحد الآبار ليظل قابعًا في الظلمة إلى أن يأتي المسيح في آخر الزمان، فيحيي المجدلية. وفي خضم الصراع بين الواقع والتخييل، ترتفع نبرة الجدل بين نور وقناعه لينتهي، بأن يقول القناع لنور: إذا اعتبرتك إنسانًا، سأختفي أنا في المقابل. ينقذ حضور سماء نور من سيطرة القناع عليه، فيحاول إفهامها بأنّه فلسطيني من اللد، وما القناع الذي يرتديه ممثلًا بشخصية أور شابيرا، إلّا لمقتضيات اشتغاله على رواية ترصد حياة المجدلية. تجيبه سماء بأنّه أحد رجالات المخابرات، فما الذي يريده منها؟ إلى أن تقول له: بأنّ تلك البطاقة الشخصية الزرقاء هي كابوسها الذي سعت للتخلص منه طوال حياتها، بينما أنت، يا نور سعيت إليها، فأي فصام في الشخصية تعيشه! يحلم نور في الليل بأنّه دخل غابة أبو شوشة ووجد البئر، فيهبط إلى داخله. وفي ممر سري ينفتح على غرفة مضيئة يجد المجدلية جالسة يشع من وجهها النور، لكنّه كان وجه سماء! يُعلن عن انتهاء الحفريات وإقفال موسم التنقيب، لأنّ حماس هدّدت بقصف المنطقة إذا خرجت المظاهرات الإسرائيلية في القدس.

باسم  خندقجي

يغادر الجميع المكان، وعلى محرس المستوطنة، يخبر رجل الأمن أور بضرورة تغيير بطاقته الزرقاء القديمة إلى أخرى جديدة، فيجيبه بأنّ من يدخل التاريخ ينسى الحاضر! يغادر نور المستوطنة يتنازعه شعور بين الخيبة والرجاء، فتقف قربه سيارة يتبيّن له بأنّ راكبها هو سماء، وقبل أن يستقلّها ينزع قلادته ذات النجمة السداسية، ويمزّق بطاقته الزرقاء، ويعيد برمجة لغة موبايله من العبرية إلى العربية، قائلًا لسماء: "أنت هويتي ومآلي".

قِناع مراد 
قبل الدخول في تحليل قناع مراد، لا بدّ من إيراد بعض المعلومات عن الروائي باسم خندقجي، فهو من مواليد نابلس في عام 1983، اعتُقِل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، حين كان في سنته الجامعية الأخيرة في جامعة النجاح الوطنية في قسم الصحافة والإعلام. حُكم عليه في 7 سبتمبر/ أيلول 2005 بثلاثة مؤبّدات. بدأ حياته الأدبية في السجن بمقالات جمعها في كتاب: "مسودات عاشق وطن"، ومن ثم: "وهكذا تحتضر الإنسانية" عن تجربة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال، وله في الشعر مجموعة "طرق على جدران المكان"، و"شبق الورد إكليل العدم"، ليتجه إلى الرواية، بدءًا من روايته: "مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرّة"، و"نرجس العزلة"، التي دشّن إطلاقها فعاليات ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية في عام 2017، فرواية "خسوف بدر الدين"، إلى رواية: "قناع بلون السماء" التي نقاربها الآن.




بعد أكثر من سبعين سنة على النكبة والفلسطيني لا يُرى إلّا كفدائيّ، أو نازح، أو أسير، أو شهيد. وما أراده خندقجي من سرديته الروائية ليس الاشتباك مع أسس الاحتلال فقط عبر تعرية وحشيته، بل مع حياة الفلسطيني الذي يعاني كغيره من البشر من مشاكل عائلية وخيبات وجودية وسطوة تقليد المغلوب للغالب. ومن هذه النقاط كان الجدل الإيجابي بين نور ومراد، بين الرؤية المثالية التي قيدنا بها الفلسطيني، وبين رؤيته على أرض الواقع. وكأنّ خندقجي، بارتدائه قناعي نور ومراد، يعيد مقولة محمود درويش: "أنقذونا من هذا الحب"، بعد أن طلب منه إعادة قصيدة: "سجل أنا عربي" في إحدى المهرجانات الشعرية، فهنالك تفاصيل أخرى يحياها الفلسطيني من الضرورة تسليط الضوء عليها، فكما ذهبت الصهيونية العالمية باستغلال المحرقة النازية ليس فقط، بخطوطها الكبرى، وإنّما عبر تفاصيلها الصغيرة، لا بدّ للفلسطيني أن يُري العالم تلك التفاصيل، فالمقاومة لا تنحصر بالبندقية والكلمة الأكاديمية، وإنّما مضاف إليها؛ صياح أبي نور على مشروباته، فهو مقاومة أيضًا، وإن تبدّت كهزيمة لسيرة مناضل. إنّ حصر النكبة بذكرى من دون تسليط الضوء على أنّها حالة يومية في حياة الفلسطينيين، سيحولها إلى شعار فارغ؛ وهذا ما كان نور يقوله لمراد، بأنّ الاحتفال السنوي بذكرى النكبة يعني ضمنًا، بأنّها انقضت مع أنّها معاشة في كل لحظة يعيشها الفلسطيني.
لم يكن لجوء خندقجي لتقنية الأقنعة لرفاهية تخييلية، بل لأنّ الفلسطيني يعيشها بشكل يومي ما بين مراد ونور وأور، فهو في احتكاك دائم مع المحتل؛ مرة مقاومًا، وأخرى مهادنًا، وأحيانًا متشبهًا، وكثيرًا كإنسان عادي أخذته ضرورات الحياة. إنّ الفلسطيني أشبه بالمجدلية، فعلى الرغم من أنّها لم تجزع لحظة الصلب، ولم تهرب كبقية التلاميذ عندما ضُرب الراعي، إلّا أنّ التاريخ الرسمي يهملها! ومن هذه النقطة جاءت فكرة خندقجي لاستحضارها في مخيال الرواية. وما رؤية نور للمجدلية بوجه سماء إلّا للقول بأنّ عرب فلسطين عام 1948، على الرغم من جنسيتهم الإسرائيلية، فإنّهم لا يقلّون فلسطينية عن فلسطينيي الضفة وغزة. وما اختيار زمن الرواية، وانتهاء عمليات التنقيب بقصف حماس بالصواريخ للمستوطنات الإسرائيلية، إلّا للقول بأنّ خيارات الفلسطيني تتسع من المجابهة الأكاديمية إلى الرصاصة والتخييل، فالشعوب لا تنجو من دون سردية خيالية تدعم سرديتها التاريخية.
إنّ رواية "قناع بلون السماء" مليئة بالتفاصيل والإشارات والرموز التي تفسّر وتؤول بكثير من الدلالات، حيث نجد مقولة: بأنّ الأدب يطمح لأن يكون أكثر إبداعًا من الواقع؛ متواجدة بقوة في هذه الرواية.
في الختام، ما الذي سيتغيّر في الرواية لو كان الأسير الروائي باسم خندقجي قد كتب روايته بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هل كان اسم نور مهدي الشهدي الذي لبس قناع أور شابيرا في قائمة المقاومين الشهداء! سيُترك الجواب للقرّاء، لأنّ الرواية تستحق القراءة، وهي إضافة مهمة للإبداع الفلسطيني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.