}
عروض

عن رحلة غزاوي بين الشقاء والأمل

عمر كوش

27 يناير 2024
يكتسي كتاب السياسي والناشط الفلسطيني، جمال زقوت، "غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، القدس، 2023) أهمية خاصة في أيامنا هذه، كونه يأتي كشهادة عن معاناة أحد أبناء اللاجئين الفلسطينيين في غزة، التي ترتكب فيها إسرائيل جرائم إبادة جماعية ضد أهلها، في حربها المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، والتي لا يخفي معظم ساستها وجود خطط من أجل تهجيرهم قسريًا إلى صحراء سيناء المصرية، أو إلى جزيرة اصطناعية، حسبما تشدق مؤخرًا وزير خارجيتها، يسرائيل كاتس، أمام الاتحاد الأوروبي.
ينفتح الكتاب على محطات من سيرة حياة زقوت، الغزاوي الذي ولد بين الرمل ومياه البحر، بدءًا من سنوات طفولته ونشأته في مخيم الشاطئ في مدينة غزة، ثم سفره إلى القاهرة وصوفيا من أجل الدراسة، والانخراط بالشأن العام والعمل السياسي المباشر، من خلال عضويته في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والانخراط في العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاءً بالعمل مع السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة، ثم انفكاكه من العمل معها في يوليو/ تموز عام 1994، الذي يصفه بعملية تحرر، لأن العمل معها كاد أن يصيبه بجلطة، وأورثه حالة اكتئاب رافقته سنوات عدة، حيث كان يشعر بشيء من الانفصام ما بين العمل مع السلطة ومعارضتها.
ينتمي الكتاب إلى نوع من السيرة الروائية الذاتية، بوصفها كتابة المرء لحياته الخاصة، أي بوصفها عملية إنتاج السيرة الذاتية روائيًا، أو لنقل بأسلوب روائي غير متخيل، لكنها في سيرة الشقاء والأمل تنفتح دون إطالة على الفضاء العام، وعلى سيرة الآخرين، لتتحول إلى سيرة غيرية مع عملية الانتقال من الخاص، المعني بالأنا وصولاتها وجولاتها، إلى العام، المعني بأوضاع الناس، بمن فيهم أفراد العائلة والمعارف والأصدقاء في المخيم، وبأحوال معيشتهم ومعاناتهم في ظل ممارسات الاحتلال الصهيوني، ثم يجري توسيع السردية السيرية لتمتد إلى الوضع الفلسطيني العام، وأحوال القضية الفلسطينية إبان سنوات العمل الفدائي المسلح، مع التركيز على العمل السياسي المباشر.
تبدأ الرحلة من مخيم الشاطئ الذي أنشئ في عام 1949 على شاطئ البحر المتوسط في مدينة غزة، من أجل إيواء لاجئين من القرى والمدن الساحلية الواقعة جنوبي فلسطين ووسطها، حيث عاش أطفاله حياتهم ما بين الرمل ومياه البحر، وسكنته عائلة زقوت، المكونة من ثمانية أشخاص في ذلك الوقت (أصبحوا عشرة في ما بعد)، في بيت لا تتجاوز مساحته 40 مترًا مربعًا، ضم غرفتين بسقفين من القرميد، ومطبخ بلا باب، وبلا مرحاض. ودفعه ضيق البيت إلى قضاء ساعات طويلة خارجه، كي يخلو بنفسه، ويجد مكانًا هادئًا لمراجعة دروسه، لكن رغم هذه المعاناة، فإن البيت كانت له رمزية خاصة، بما يعنيه من وجود واستقرار، والذي عمدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى هدمه مع مجموعة بيوت أخرى في المخيم، كي تنفذ مشروعًا صهيونيًا استيطانيًا على الساحل الغزاوي. وقد سبق أن هجّرت عائلته من بلدة إسدود، ولجأت إلى المخيم، وباتت، مثلها مثل سائر سكان المخيم، تتلقى معونات من مركز توزيع تابع لوكالة "الأونروا"، عبارة عن كمية من الطحين، وزيت السيرج، وأرز، وبعض البقوليات، وعلب السردين، لكن سكان المخيم عاشوا في ذلك الوقت على أسماك بحر غزة، التي أنقذتهم من المجاعة.
يحاول زقوت إبراز بعض التفاصيل حول بعض من عاشوا في المخيم، من شخصيات فاعلة، وسواهم ممن يوصفون بأنهم على البركة، وبعضهم كان من ضحايا ممارسات الاحتلال، التي أدت إلى فقدانهم العقل، أو إلى تخيل أشياء غير حقيقية، إلى جانب شخصيات طريفة مثل "عشيش"، الذي كان يعمل عتالًا في مركز تموين الأونروا، وكان يرتدي ملابس رثّة مصنوعة من قطع "الخيش"، ويجمع ما يكسبه من عتالته من أموال. وقد تفاجأ أهل المخيم، عند وفاته، لأنه كان يملك فرشة كاملة من المال، لكنها كانت لعملات منتهية الصلاحيّة ولا يعمل بها في ذلك الوقت.
بعد التحاقه بمدرسة الشاطئ الابتدائية عام 1963، بدأ وعيه الاجتماعي والديني بالتبلور، حيث حاول أحد أساتذته شده إلى حلقات دينية، وقد أثر عليه رهاب القبر وعذاباته إلى درجة أنه كتب رسالة لوالده يدعوه فيها للصلاة. ثم دفعه إلى قبول دعوته بالذهاب معه إلى القدس، من أجل الصلاة معًا في المسجد الأقصى، غير أن وجهته تغيرت تمامًا، حين انتقل للدراسة في مدرسة غزة الجديدة الإعدادية، حيث أثّر عليه أحد أقربائه المدرسين فيها، وكان مقربًا من الشيوعيين، ولعب دورًا مفصليًا في تحولات حياته، إذ راح يزوده بروايات من الأدب الروسي، وكتب من إصدارات دار التقدم السوفياتية. ثم بدأت تتكون ملامحه الفكرية الممزوجة بالفكر التقدمي والقومي العلماني، بالتزامن مع هزيمة 1967 التي عنت استكمال احتلال فلسطين، وأفضت إلى بداية تشكل خلايا عسكرية للمقاومة في غزة من بقايا جيش التحرير، حيث تشكلت قوات التحرير الشعبية، ثم الجبهة الشعبية، وتشكلت بعدها الجبهة الوطنية في قطاع غزة.




كان طبيعيًا أن يرتبط وعي أي شاب فلسطيني، عاش تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، بمشاهدة الجرافات الإسرائيلية وهي تهدم بيوت أهله وجيرانه، وأن يتشكل من خلال معايشة بدايات تشكل حركة المقاومة الشعبية والمسلحة في قطاع غزة، واستلهام تجارب من سبقوه، حيث تأثر أبناء غزة بتجربة "غيفارا غزّة" ورفاقه في مقاومة الاحتلال، وبالحضور والاحترام الذي كانت تحظى به شخصيات وطنية، مثل الدكتور حيدر عبد الشافي، الذي يشيد زقوت بدوره الوطني، ويصفه بصاحب الضمير. إلى جانب أن شباب المخيمات في نهايات فترة ستينيات القرن الماضي، تأثروا كثيرًا بشخص جمال عبد الناصر ومواقفه من القضية الفلسطينية، لذلك "شاركت مدن قطاع غزة ومخيماته عن بكرة أبيها يوم وفاة جمال عبد الناصر"، لكن الدور الأهم في توجهات زقوت السياسية لعبه أخوه الأكبر بشير، الذي قتلته إسرائيل في جنوب لبنان عام 1978، وكان يمثل قدوته في العمل السياسي، وفي الانتساب إلى "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين".
بعد انتهاء الدراسة الثانوية، والعمل داخل إسرائيل، من أجل جمع مبلغ من المال يعينه على الدراسة في الخارج، يحصل زقوت على منحة لدراسة الطب في جامعة عين شمس، لتبدأ رحلة الشقاء من القاهرة إلى صوفيا، ومنها إلى دمشق وبيروت وعمان، ثم تأخذه تلك الرحلة إلى تونس وعمان وعواصم أخرى، حيث يتشابه ما عاناه مع معاناة الفلسطينيين المتنقلين واللاجئين في بلاد الشتات، وما كان يشدهم من أمل في العودة الى فلسطين.
في القاهرة التي وصلها عام 1976، وبالنظر إلى نشاطه الفلسطيني، تقرر السلطات المصرية طرده من مصر، بعد ذهاب السادات إلى إسرائيل، مثلما سبق أن أبعدت أخاه بشير. وتمكن بعدها من الذهاب إلى العاصمة البلغارية صوفيا لإتمام دراسته في الطب، حيث سيتعرف على نائلة عايش، التي ستصبح زوجته في ما بعد، وتتقاسم معه معاناة الاعتقال في سجون الاحتلال، إضافة إلى أنهما لعبا معًا دورًا في نشاط الحركة الطلابية في صوفيا، وتعبئة الطلبة للانخراط في صفوف المقاومة والتصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان، والتي أجهضها نظام حافظ الأسد. لكن انخراطه في العمل السياسي الفلسطيني، وتطلعه للعودة إلى غزة، دفعه إلى اختصار مدة دراسته، عبر التخلي عن دراسة الطب والتوجه نحو دراسة العلوم السياسية. وبالفعل، عاد إلى غرة في صيف عام 1985، لتعتقله السلطات الإسرائيلية، ثم أفرجت عنه في أبريل/ نيسان 1986 بعد اعتقال دام ثمانية أشهر. وبعدها قرر مع نائلة عقد القران. لكن فرحتهما لم تدم طويلًا، حيث لم يكاد يمضي على زاوجهما ثلاثة أشهر حتى اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي نائلة، ومارست عليها مختلف أنواع التعذيب النفسي والجسدي، الأمر الذي أدى إلى فقدانها جنينها.
يرى زقوت أن عامي 1986 و1987 عامي الخصوبة والنهوض الوطني، حيث تشكلت شبكات منظمات جماهيرية، طاولت معظم القطاعات، وتعمق من خلالها الصراع مع سياسات الاحتلال، وعملت تلك الشبكات على مراكمة العوامل التي أفضت إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية السلمية عام 1987، والتي استمرت سنوات طويلة، وانخرط في فعالياتها المتنوعة كل فئات الشعب الفلسطيني. ويسرد زقوت كيفية هيكلة قيادة الانتفاضة، ومماحكات تأسيس القيادة الموحدة للانتفاضة، وتبنيها شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، والفصائل التي شاركت فيها، مع ما رافقها من إرهاصات فلسطينية وعربية وإقليمية وعالمية، حيث يشيد بدور حيدر عبد الشافي، ولا يتردد في الإشارة إلى أسباب تفككها، عادًا أن أحدها تجسد في دخول الزعيم ياسر عرفات في مفاوضات سرية أفضت إلى "اتفاقيات أوسلو"، بسبب صعود حركة "حماس" والعمليات التي قامت بها، والتجاذبات التي أدت إلى تآكل المرجعيات الشعبية للانتفاضة. إضافة إلى موقف القيادة الفلسطينية في الخارج إزاء مسألة "دفة القيادة" بين الداخل والخارج.
بعد تشكل السلطة الفلسطينية، انتقل زقوت إلى العمل ضمن صفوفها، وامتد ذلك على مدى ست سنوات، لكنه أصيب بخيبة أمل من أدائها، لينهي سرديته عن رحلة الشقاء والأمل بانفكاكه عن العمل معها، وذلك بعد أن خاب الأمل.
أخيرًا، يكتسي الكتاب أهميته في تقديمه تجربة ذاتية حافلة بالنشاط والعمل، السياسي والعام، للدفاع عن الوطن، تنفتح على معاناة في السجون، وفي الهرب والتخفي والإبعاد القسري إلى بلاد الشتات، إلى جانب تضمينه محطات من تاريخ العمل الفلسطيني، استحضر فيها تفاصيل عديدة، مقدمًا بذلك سيرة تحتفي بالذاتي الخاص وبالموضوعي العام أيضًا، وتقدم للقارئ صفحات من التاريخ الفلسطيني، الذي أرهقته حالة الانقسام الفصائلية، ولعبت دورًا في زيادة الشقاء، وكبر حجم المأساة الفلسطينية، فضلًا عن ممارسات احتلال استيطاني عنصري ومتوحش.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.