}
عروض

هاني الحسن: حكاية الأفعى والعصفور

صقر أبو فخر

29 يناير 2024


يستحق هاني الحسن أكثر من كتاب لسرد تاريخه النضالي في حركة "فتح"، وتاريخه الشخصي والعائلي، في آن. وقد توفر على هذه المهمة الأستاذ حسان البلعاوي، فأصدر كتابًا عنوانه "هاني الحسن: صوت الحضور الأنيق والنَّوْء العاصف" (بيروت ـ عمّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023. 407 صفحات)، وساعده في هذه المهمة نفر ممّن عرفوا هاني الحسن عن قرب، أو عملوا معه، أمثال ثائر المصري (مدير مكتب هاني الحسن)، وبكر أبو بكر، وطارق هاني الحسن، الذي كتب تقديمًا له، وعباس زكي، الذي ساهم بمقدمة ثانية للكتاب الذي احتوى على 76 صورة فوتوغرافية، و33 صورة منسوخة (photocopy). ولعلني لا أُجانب الذائقة الأدبية إذا قلت إن العنوان المؤلف من سبع كلمات فيه بعض التكلف، الأمر الذي أدى إلى فقدان الرشاقة. فالعنوان طويل، ولن يحفظ أحد منه غير اسمين: المؤلف حسان البلعاوي، والمؤلف المتواري هاني الحسن. والكتاب يجمع التذكر إلى الشهادات وتقصّي الوقائع، من خلال المصادر المتاحة. فقصة حرب 1982 مثلًا (ص203 ـ 213)، يسردها الكاتب استنادًا إلى كتاب بلال الحسن (شقيق هاني الحسن) الموسوم بعنوان "أيام الحصار"، وليس استنادًا إلى رواية هاني الحسن مباشرة. وكذلك وقائع افتتاح سفارة فلسطين في طهران في سنة 1979 (ص 148 - 150) التي ينقلها الكاتب عن رسالة بلال الحسن من طهران إلى جريدة "السفير" اللبنانية في 20 / 2 / 1979.
استند الكتاب إلى تسجيلات أجراها حسان البلعاوي مع هاني الحسن، وإلى شهادات كثيرة بأقلام ثائر المصري، ومروان عبد الحميد، وعدنان سمارة، ولمعي قمبرجي، وغازي الحسيني، وعباس زكي، وأبو نائل القلقيلي، وعَزّة هاني الحسن، وغازي فخري، وحيدر إبراهيم، وعبد الرزاق خليل، ودوريس فرنجية، وعلاء حسني، ومحمد حمزة (سمير غطاس)، علاوة على مصادر صحافية، مثل مقالات بلال الحسن، وحوارات أجراها مع هاني الحسن صحافيون على مدار أعوام، واستأثرت جريدة "السفير" بمعظم تلك النقول. وهذه المعلومات المتجمعة من مصادر شتى لا تجعل الكتاب بحثًا محكّمًا في تاريخ هاني الحسن، أو ترجمة موضوعية له (سيرة غيرية). والمؤلف لا يدّعي ذلك في أي حال، فالكتاب، في نهاية المطاف، هو عرض لمحطات مختارة في مسيرة هاني الحسن السياسية.

سيرة البدايات
ولد هاني الحسن في قرية إجْزِم على سفوح جبل الكرمل في 9/ 4/ 1937 لسعيد الحسن، وصبرية خليل قبلاوي، وقد قاتل سعيد الحسن مع عز الدين القسّام في انتفاضة 1935، وفَقَد إحدى عينيه. وفي ما بعد، عثر عبد الرزاق خليل عند جدته صبرية قبلاوي على مراسلات بين سلطان باشا الأطرش، وسعيد الحسن، تتضمن معلومات عن إرسال سلطان الأطرش بنادق وذخائر وأموالًا إلى المجاهدين في ثورة 1936 الفلسطينية. وكانت عائلة الحسن غادرت حيفا إلى مدينة صيدا في البداية، ثم رحلت إلى دمشق في سنة 1950، وسكنت في حي القيمرية (مكان ولادة قسطنطين زريق)، ثم انتقلت إلى حي الميدان المشهور. وبرز من أفراد هذه العائلة خالد الحسن (الذي انتمى في البداية إلى حركة الإخوان المسلمين، ثم التحق بحزب التحرير الإسلامي قبل أن ينضم إلى حركة "فتح")، وعلي وهاني (انتميا إلى جماعة الإخوان المسلمين). وكان النافر بينهم بلال الحسن الذي انضم إلى حركة القوميين العرب، ثم انحاز إلى التيار اليساري "الماركسي" في الحركة، إلى جانب نايف حواتمة، وعبد الكريم حمد، وقيس عبد الكريم السامرائي (أبو ليلى)، وياسر عبد ربه، بينما لم يُعرف عن شقيقهم مسعود أي حضور سياسي أو ثقافي، وكذلك شقيقتهم زينب. ويقول عباس زكي إن الفتحاويين الأوائل كانوا يطلقون على آل الحسن لقب "عائلة كينيدي" (ص53).




انضم هاني الحسن (أبو طارق) إلى الإخوان المسلمين والتحق بجهاز "النظام الخاص"، أو "فرسان بدر"، وهو جهاز سري تولى تنفيذ المهمات الخاصة. وتلقّى أعضاء ذلك الجهاز التدريب على يد ضابط مصري سابق هو محمد نجيب جويفل، الذي عمل في إحدى الفترات مع الاستخبارات المصرية (أنظر: يزيد صايغ، "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002، ص151). وفي أثناء دراسته الثانوية في دمشق، أسسس هاني الحسن مجموعة طالبية دُعيت "شباب الأقصى"، لكنه لم يلبث أن سافر إلى ألمانيا في سنة 1957 لدراسة الهندسة، وتعهّد شقيقاه خالد وعلي الإنفاق عليه. وفي ألمانيا، التقى هايل عبد الحميد، الذي كان يعرفه من دمشق، والذي عُرف في ما بعد باسمه الحركي (أبو الهول). وكان أبو الهول أسس في دمشق مجموعة طالبية دُعيت "عرب فلسطين"، وقد دُمجت المجموعتان تحت اسم "طلائع العائدين". وفي ألمانيا بدأ هاني الحسن نشاطه السياسي السري مع هايل عبد الحميد في صفوف الفلسطينيين، وانضم إليهما عبد الله الإفرنجي، وأمين الهندي، ونبيل نصّار، وامتد نشاطهم إلى النمسا، حيث كان هناك يحيى عاشور (حمدان). وفي تلك الفترة كان يدرس في ألمانيا كثير من الفلسطينيين، من أمثال وليم نصار، وغازي الحسيني، وعدنان سمارة، وهؤلاء جميعًا شكلوا الرواد الأوائل لحركة "فتح" في ألمانيا. وقد بدأ التواصل مع "فتح" في الكويت ودمشق من خلال محمد الإفرنجي (شقيق عبد الله)، الذي كان من أوائل الذين عملوا مع خليل الوزير (أبو جهاد) في غزة.
بقي هاني الحسن في ألمانيا حتى سنة 1967، أي بعد عامَين من الانطلاقة المسلحة لحركة "فتح"، ثم جاء إلى دمشق ليلتحق بالحركة، ويخضع لدورة عسكرية في معسكر الهامة القريب من العاصمة السورية، وبعد ذلك التحق بدورة عسكرية ثانية في الصين كان بين عديدها الحاج إسماعيل جبر، وهايل عبد الحميد، والطيب عبد الرحيم، وإبراهيم صيدم، وجمعة غالي، ويحيى عاشور، وممدوح صيدم (أبو صبري)، وداود أبو الحكم، وموسى عرفات. وتدرج هاني الحسن بعد عودته من الصين في مهمات شتى حتى عُيّن في سنة 1974 نائبًا لمفوض الأمن المركزي هايل عبد الحميد، ومفوضًا للأمن السياسي. وانتُخب عضوًا في اللجنة المركزية لحركة "فتح" في المؤتمر الرابع للحركة الذي عُقد آنذاك في بلدة عدرا السورية في مايو/ أيار 1980.

كشف الأسرار
المعروف أن هاني الحسن كان يقوم بمهمات سرية ذات طابع أمني أحيانًا، ولذلك فإن قارىء هذا الكتاب يتوقع أن يعثر على أسرار جديدة تُنير كثيرًا من الزوايا الظليلة، أو الغامضة، في التاريخ المعاصر للثورة الفلسطينية. فهو، على سبيل المثال، كُلّف معالجة عملية الطائرة الفرنسية التي اختُطفت من مطار أثينا إلى مطار عنتيبي في أوغندا. وفي المطار، التقى عدنان جابر، المسؤول عن العملية التي خططها الشهيد وديع حداد (أبو هاني). وهناك، بحسب هاني الحسن، نصحه بعدم إرسال الطائرة إلى مطار عنتيبي، وكانت الطائرة لا تزال في مطار بنغازي، لكن عدنان جابر لم يُصغِ له، وكان ما كان من النتائج الكارثية للعملية. ويذكر الكاتب أن هاني الحسن علم، في ما بعد، أن الرئيس المصري أنور السادات سمح لفريق الكوماندوس الإسرائيلي بالعبور في الأجواء المصرية في طريقه إلى أوغندا (ص105). وبحكم موقعه الأمني والسياسي في حركة "فتح"، كانت لهاني الحسن صلة قوية بسعيد كمال، مندوب فلسطين في جامعة الدول العربية، والمقرب من الاستخبارات المصرية، وكان سعيد كمال يزوّده بتقارير عن بعض التطورات الدولية بسبب علاقاته القوية ببعض أجهزة الاستخبارات الدولية. وكان هاني الحسن صديقًا لطارق علاء الدين، مدير الاستخبارات العامة الأردنية، وتمكّن من نسج علاقة مع محمد رسول الكيلاني الذي سبق علاء الدين في رئاسة الاستخبارات العامة (ص246).

هاني الحسن (يمين) مع ياسر عرفات في زيارة لبيت أم علي أواخر سبعينيات القرن العشرين، ويبدو صلاح خلف (أبو إياد)، ومحمود الناطور (أبو الطيب)، على يسار الصورة 


يُميط الكاتب اللثام عن أول مفاوضات رسمية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فيقول إنها بدأت في باريس في سنة 1986، وكان هاني الحسن يمثل المنظمة، بينما مثّل اللواء شلومو غازيت (الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية) الجانب الإسرائيلي، ومعه يوسي غينوسار. وتكررت الاجتماعات في بروكسل وباريس وبوخارست. ويكشف الكتاب أيضًا أن هاني الحسن كثيرًا ما اتهم المكتب الثاني اللبناني (الاستخبارات العسكرية) بخلق منظمات شيعية للإيقاع بين حركة "أمل" والمنظمات الفلسطينية (ص189)، لكن الكتاب لم يذكر تلك المنظمات الشيعية، ومَن هم الذين عملوا على خلقها. ولو بحث الكاتب قليلًا لعثر على تشكيل شبه عسكري كان يدعى "أنصار الجيش"، ولعلم أن استخبارات الجيش اللبناني آنذاك هي التي درّبت مجموعات من حركة "أمل"، وقدمت لهم السلاح لمواجهة المنظمات الفلسطينية المسلحة، وكان ذلك في عهد العقيد جوني عبده (ذي الأصول الفلسطينية) ومساعده العقيد نبيه فرحات، وبإشراف مباشر من العقيد قاسم سبليني (أنظر: العميد وليد سكرية في برنامج "بين زمنين"، قناة "الجديد" التلفزيونية اللبنانية، 31/ 7/ 2017). وللمفارقة، كانت حركة "فتح" تزوّد الإمام موسى الصدر بالسلاح، وكان يتولى تلك العملية إبراهيم غالب بأوامر من ياسر عرفات وخليل الوزير، ويتولى تخزين الأسلحة مصطفى جمران [شمران] ومحمد يعقوب، بينما تولى التدريب مجاهد الضامن.
ومن المعلومات المثيرة التي كشفها الكتاب، نقلًا عن هاني الحسن، أن غورباتشوف حين التقى ياسر عرفات في ألمانيا الشرقية في سنة 1985، وكان ذلك هو اللقاء الأول بينهما، أصرّ على إلغاء اتفاق عمّان الموقّع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في 11/ 2/ 1985، لأن الاتحاد السوفياتي يريد أن يؤدي بنفسه ذلك الدور مع الأميركيين. وقد تعهّد ياسر عرفات لغورباتشوف بتجميد الاتفاق، لكن المستغرب أن الكتاب الذي عرض وقائع المجلس الوطني السابع عشر (عمّان، 22/ 11/ 1984) لم يتطرق إلى عملية اغتيال فهد القواسمة ذات الصلة بعقد المجلس الوطني ذاك. والمعروف أن موسى العملة (أبو خالد)، وهو أحد المنشقين عن حركة "فتح"، أرسل مجموعة إلى عمّان لاغتيال محمود تيّم، أحد منظمي الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني قوامها نايف البايض، وشاكر العبسي، وأنور الطميزي.





وحين فشلت المهمة طلب أبو خالد العملة اغتيال أي شخصية بارزة من التي انتخبها المجلس لعضوية اللجنة التنفيذية، فرفض شاكر العبسي الأمر، وعاد إلى دمشق، بينما نفذ الاثنان الآخران المهمة واغتالا فهد القواسمة. وقد اعتُقل نايف البايض وأُعدم في عمّان، أمّا أنور الطميزي فظل هاربًا متخفيًا إلى أن اعتُقل في الخليل في 1/ 11/ 2008. ومهما يكن الأمر، فإن هاني الحسن الذي يعرف أسرارًا كثيرة، إمّا بالمساهمة في صنعها، وإمّا بالاطلاع عليها، بدا في هذا الكتاب فقيرًا جدًا من حيث المعلومات، فهو لم يتحدث عن اغتيال عاطف بسيسو في باريس، واغتيال ناجي العلي في لندن، ومقتل صبري البنا (أبو نضال) في العراق، واغتيال بشير الجميل، أو عن القناة السرية الأميركية ـ الفلسطينية التي تولى أبو حسن سلامة طرفها، بينما تولى روبرت آيمز (Robert Eimz) طرفها الثاني، وكان مصطفى زين الوسيط الدائم بينهما. وأغفل هاني الحسن، بحسب هذا الكتاب، الكلام عن السفينة "كارين A" التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لحصار الرئيس ياسر عرفات ثم اغتياله، كما أغفل قصة اختفاء الإمام موسى الصدر الذي ربطته به علاقة وثيقة. ولم نعثر في الكتاب على تفصيلات عن اغتيال القائد خليل الوزير، وقصة محمد العربي المحجوبي (الشاذلي الحامي) الذي كان يشغل موقع كاتب الدولة التونسية لشؤون الأمن، وهو الذي تواطأ مع الموساد على اغتيال أبو جهاد، وكان بلّغ الموساد قبل ذلك بموعد وصول الرئيس عرفات إلى مقره في ضاحية حمام الشط، فقصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية المكان في 11/ 10/ 1985، وكان ما كان ممّا هو معروف من الوقائع المؤلمة.

إيران والعلاقات الصعبة
كان هاني الحسن أول ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في إيران بعد سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وكان يوم 19/ 2/ 1979 حدثًا مشهودًا في طهران عندما رفع إبراهيم يزدي (نائب رئيس مجلس الوزراء)، وأحمد الخميني، وياسر عرفات، العلم الفلسطيني على سارية المبنى الذي اعتلت طبقته الأولى عبارة "سفارة منظمة التحرير الفلسطينية". وفي تلك الأثناء المغمورة بالنشوة سلّم الايرانيون الوثائق السرية التي صادروها من مبنى السفارة الإسرائيلية إلى الوفد الفلسطيني. وكان لحركة "فتح" علاقات قديمة مع المنظمات الإيرانية المعارضة للشاه، وكان هناك لجنة خاصة بإشراف أبو جهاد لدعم المعارضة الإيرانية، وقد ضمّت تلك اللجنة، وهو ما لا يأتي هاني الحسن على ذكره البتة، أبو جعفر الصادق (اسمه الأصلي محمد صادق خليفة)، وهو أحد كوادر حركة "فتح" في العراق، وفؤاد البلبيسي (موريس)، وأبو القاسم (إيراني استشهد في إحدى عمليات تهريب الأسلحة من العراق إلى إيران عبر منطقة الأحواز). وأنشأت "فتح" معسكرات تدريب خاصة للإيرانيين، مثل معسكر حمورية في غوطة دمشق، الذي كان يقوده عز الدين الشريف. ومن الذين درّبوا حرس الثورة الإيرانية في ما بعد عارف خطاب، وجيفارا (سوري عضو في حركة "فتح"). وأحد أشهر مَن تلقى التدريب في سنة 1975 عباس زماني (أبو شريف)، الذي أصبح أول قائد لحرس الثورة في سنة 1979، كما تلقّى التدريب في معسكر دير العشائر أحمد الخميني ابن الإمام الخميني. ويكشف أنيس النقاش في مذكراته ("مذكرات أنيس النقاش: أطفال وأقدار"، بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 2022) أن حرس الثورة استدان نصف مليون دولار من الرئيس عرفات لإتمام أول صفقة سلاح له. ومع أن العلاقات الفلسطينية/ الإيرانية كانت عميقة وممتدة، إلّا إن الخلافات بين الطرفين سرعان ما نشبت بعد لقاء هاني الحسن مع مسعود رجوي، ومريم رجوي، في منزل أبو الحسن بني صدر في باريس، وهما زعيما منظمة "مجاهدي خلق"، فأثار ذلك اللقاء حفيظة القيادة الإيرانية (ص179). ولا بد من الإشارة، هنا، إلى الحضور الفلسطيني الهائل لدى عرب الأحواز، وخصوصًا بعد زيارة الرئيس عرفات لتلك المنطقة العربية السليبة، والذي استثار الأزرار الحمر لدى بعض القوى الإيرانية التي ارتجفت من تلك المناصرة الهادرة التي أظهرها سكان الأحواز العرب. وكان هاني الحسن نقل كلامًا محرجًا على لسان الإمام الخميني فحواه أن على إيران أن تتزعم العالم الإسلامي بعد أن تزعّمه العرب ثم الأتراك، والآن حان دور إيران. وممّا زاد في استياء الإيرانيين من هاني الحسن أن جريدة "الشرق الأوسط" (4/ 9/ 1981) نقلت عن مسعود رجوي قوله إن لديه وثائق ومعلومات خطرة ومهمة جدًا عن صفقات سلاح إسرائيلي لإيران. ولم ينفِ هاني الحسن كلام مسعود رجوي مثلما رغبت القيادة الإيرانية في ذلك، وإنما صرّح للجريدة أن منظمة التحرير الفلسطينية تدرس هذه القضية المهمة جدًا بتروٍّ لمعرفة هل تشكل انحرافًا في سياسة إيران، أم إن ثمة فخًا وقعت فيه إيران. وقد أثار ذلك التعقيب استياء لدى القيادة الايرانية التي توقعت أن ينفي هاني الحسن أقاويل مسعود رجوي.




مهما يكن الأمر، فإن هاني الحسن يكشف في هذا الكتاب ما كان قد كشفه للزميل غسان شربل في "مجلة الوسط" الصادرة في لندن في 16/ 5/ 1994، وهو أنه في أحد أيام سنة 1980 استُدعي من طهران إلى بيروت، وحين وصوله قابل، على الفور، الرئيس عرفات، الذي قال له: "سنذهب إلى اجتماع في السفارة السوفياتية، وأُريدك أن تُعبّر عن رأيك بشدة" (ص161). ذهب الحسن برفقة أبو عمار، وأبو إياد، وأبو جهاد، واجتمعوا إلى الجنرال ألكسندر، وهو ضابط كبير في الـ"كي. جي. بي"، ومسؤول فيه عن الشرق الأوسط. وفي ذلك الاجتماع طلب الجنرال ألكسندر التعاون مع هاني الحسن بصفته سفير فلسطين في طهران لتطوير الأوضاع الداخلية الإيرانية المفككة في اتجاه السيطرة على إيران، وترتيب الأمور لمصلحة حزب "توده" الشيوعي، على غرار ما حدث في أفغانستان المجاورة. وهنا وقف هاني الحسن ليغادر الاجتماع، فغضب الجنرال ألكسندر، فما كان من هاني الحسن إلّا أن خاطبه بالعبارة التالية: "إن دخولك إيران يعني أن قيمة إسرائيل الاستراتيجية ستزداد بنسبة مليون في المئة في الغرب" (ص162).

ما باح به هاني الحسن
يروي حسان البلعاوي عن هاني الحسن أن السفير السوفياتي في لبنان ألكسندر سولداتوف قال لياسر عرفات في ذروة الحصار الإسرائيلي لبيروت في صيف سنة 1982: "اُخرج من بيروت، فسأله أبو عمار: كيف أخرج؟ أجابه: على ظهر المدمرات الأميركية"، [....] فـ "المهم المحافظة على الكوادر"، فقال له أبو عمار: "والله لو خرجتُ من هنا، فلن أُطاع، فأنا لستُ دولة". فأجابه السفير: "إذًا، ستؤخذ أسيرًا بالشبكة! فرد عرفات: إن قائدًا في مسدسه طلقتان لا يؤخذ أسيرًا" (ص217). وقد ذهب السفير سولداتوف لمقابلة جورج حبش الذي كان يعتقد أن السوفيات سيتدخلون لإنقاذ بيروت والقوات الفلسطينية، فسأله حبش: "متى تتدخلون؟ فأجابه: أي جنون تطلب؟ أَمِن أجل بيروت ندمر العالم؟ اُخرجوا [....] تحت راية الصليب الأحمر" (ص218). ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن هاني الحسن عمد دائمًا إلى إطفاء الحرائق في لبنان، كتلك التي اشتعلت أحيانًا مع الإمام موسى الصدر قبل اختطافه، ومع القيادة السورية، وكان يصف العلاقة مع سورية بأنها "زواج كاثوليكي لا طلاق فيه"، ويشير إلى أنه على الرغم من التجارب الصعبة، فإنه ليس هناك بديل من علاقة سورية ـ فلسطينية ذات تصور استراتيجي مشترك. أمّا عن العلاقة السورية بلبنان فيصفها هاني الحسن بأنها ليست علاقات حسن جوار، بل مسألة أمن قومي. فالأمن القومي السوري موجود في بيروت وطرابلس وصيدا، مثلما أن الأمن القومي للبنان موجود في دمشق، ويصل إلى دير الزور والموصل. وكثيرًا ما شرح آراءه في هذا الميدان بالقول إن "مَن يقف في لبنان ضد سورية سيُهزم، والقضية لا علاقة لها بالأفكار، أو بالصواب والخطأ، لها علاقة بالجغرافيا السياسية". ولهذا رأى هاني الحسن أن "بشير الجميل، وكمال جنبلاط، وعرفات، أخطأوا في موضوع العلاقة مع سورية" (ص224)، كلٌّ من موقع مختلف. وفي هذا السياق لم يغادر هاني الحسن بيروت في سنة 1982 مع الرئيس عرفات إلى تونس، وإنما إلى دمشق مع رفيقه التاريخي هايل عبد الحميد (أبو الهول). وفي ميناء اللاذقية كان في استقبال السفينة التي أقلتهما من بيروت عبد الرؤوف الكسم، رئيس الحكومة السورية. وما إن تدافع المتجمهرون على الرصيف لحمل الكسم على الأكتاف حتى راح يهتف: "عاش عاش أبو عمّار" (ص224).

يعلِّم بالأمثال
كان هاني الحسن في تفكيره السياسي وفي مسلكه النضالي واقعيًا إلى أبعد الحدود، ولم يكن أيديولوجيًا إطلاقًا، وإنما كان عمليًا. وكان في كل موقف يتطلع إلى الفاعلية والدينامية بالدرجة الأولى، ولم ينفك في تلك الحقبة يردد قول لينين: "ننخرط [في الحدث] ثم نرى"، وهو ما يُعدّ نقيضًا لنظرية "ننتظر ثم نرى". واشتُهر في ندواته ومحاضراته بتكرار قصة العصفور والأفعى، فكان يتساءل: أَتعرفون كيف تصيد الأفعى العصفور؟ ويجيب: تتسلل إليه من شقوق الأرض، بينما يكون لاهيًا يفتش عن حبة هنا أو حُبيبات هناك. وعندما تصل إلى جواره تنتصب في وجهه، فيصاب بالشلل رعبًا. وهنا تنسل الأفعى نحوه وتلتقمه بسهولة وهو متجمد من الخوف. وهنا كان هاني الحسن يشرح: لو أن العصفور يدرك أن الأفعى خُلقت لتكون من الزواحف، وأنه خُلق ليكون من الطيور، لطار وأنقذ نفسه، فهي لا تستطيع أن تلحق به. ولكن الخوف شلّ تفكيره، وأدى به إلى الهلاك. ولعل رمزية هذه القصة تعني ضرورة امتلاك الوعي والمعرفة والإدراك، وهي عناصر لا بد منها في النضال الوطني، أي وعي الجغرافيا السياسية والمصالح الاستراتيجية والأمنية المشتقة منها، ومعرفة العدو وتشققات كيانه ومظاهر القوة وعلائم الضعف لديه، وكذلك إدراك أوراق القوة لدينا وفاعليتها. وكان يقول دائمًا: "البندقية تزرع والسياسة تحصد". وللأسف، توفي هاني الحسن في عمّان في 6/ 7/ 2012، ولم يرَ حصاد ما زرعته البندقية الفلسطينية إلّا قليلًا من غمار سنابلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.