}
عروض

هل نحتاج المقدس في عالم بلا أمل؟

فدوى العبود

30 يناير 2024


ما هو المقدّس؛ وكيف يمكن بالنظر إلى أهميـّة رحلتنا على الأرض أن نلغيه اليوم تمامًا؛ هل يستطيع الإنسان العيش بدونه أم هو مجرد احتياج وهميّ؟

هذه الأسئلة وغيرها يدور حولها كتاب "خسوف المقدس: جدل حول الجوهر"، (آلان دو بنوا، توماس مولنار، ترجمة علي حبيب، الدار الليبرالية، السويد، 2024) وهو مجموعة حوارات وآراء بين الفيلسوفين.

والكتاب الذي يتألف من (المسار الروحيّ، وأسئلة دوبنوا وإجابات مولنار، والمقدس وزواله، والعلمانيــــــّة) يأتي ثمرة أحاديث امتدّت لعقدٍ من الزمن، وتهدف لفهم تأريخيته وأسباب انكفائـِه في العالم الحديث.

يعيد توماس مولنار، وهو كاثوليكي محافظ، تفحصّ العقلانيـّة الأوروبيّة والحضارة التقنيّة التي كانت إحدى ثمارها. انطلاقـًا من المقولة التي ترى "أن العقل يقود العالم بينما الإيمان يبطئه" ما أدى للفصل الحاد بين العقل والإيمان. بينما يعتقد أن لهذين المكونين للواقع القيمة نفسها. فانتقد الغرب و"عقلانيته التي بلا عقل". بدءًا من عقلانية ديكارت وربسبيرر، وفكرة التاريخ عند هيجل، والمادة وتعقيدها في مذهب داروين وماركس، ثم الاستمرار في التدهور والانحطاط عن طريق العرق (هتلر)، أو بوساطة مذهب المتعة لـ هربرت ماركوزه. فما بدأ بالأيديولوجيات كطموح فلسفي نتج عنه العشق الحصريّ لـ "إنه يسعدني، فلماذا أُحرم منه. مصدر اللذة بدءًا من الجماع إلى التعذيب والقتل".

وبذلك يُلغى المقدس عن المجتمع، في شكل مختصر ومبسّط عن طريق الأيديولوجيّات والصناعة والتقنية التي حرمت الأشياء من تفرُّدها، فلم يعد لدينا أشياء وإنما أدوات تُستعمل في لحظة وتـُرمى في أخرى. وهذا يستبعد أي احترام من الحضارة الحديثة للوجود فنحن "أحفاد قرنين كاملين من الماديـّة المتفائلة التي تعدّ أكثر أنظمة الفكر قحلًا من الأنظمة التي عرفتها البشرية".

إنّ عقلانية الغرب لم تدرك الاحتياج العميق للإنسان لفكرة المقدس، فالمشكلة التي يواجهها الإنسان، هي أنه وحين يفكر في نفسه بأنه بؤرة الكون؛ يصبح فقيرًا وضعيفًا ويغرق في الكرب والرعب. ما يجعلنا نبحث مدفوعين بالكبرياء عن مقدسٍ آخر، ولكنا لا "نغيّر المقدس إذا غيرنا الأداة".

كما أن العقلية الأميركية مبنيّة على الخضوع الهائل للمفهوم الاقتصادي للإنسان والإيمان الساذج بالتقدم والتفاؤل التقني، والأمور الدنيويـّة التي يجادل البعض أنّها مقدسة (العلم، استكشاف الفضاء، الفن، القبيح، العبثي)، وهي في حقيقتها ليست سوى قيمًا جماعيّة خاصّة بالنخبة، "فما دام الإنسان لا يعيش بدونه، فالنتيجة هي تقديس الإنسان لذاته وللمزيد من دوافعه الحيوانيــــّة"؛ ومن نتيجة هذا، أن انتقل الإنسان من مفسرٍّ لحركة التاريخ ليصبح خالقه الحصريّ. ومن هنا كرّت التفسيرات: (محرك التاريخ تلك اليد الخفية عند "آدم سميث"، والتقدم والتطور "داروين وسبنسر"، والروح العالمية "هيجل"، لتأتي أخيرًا الأيديولوجيا وتضع نهاية هزليـّة في أسرع وقت ممكن).

يصوّب مولنار سهام نقده للكنيسة التي فقدت احترامها، ليس فقط كمحطِّ تركيز للإيمان، بل تلاشى دورها في ثقافة الغرب وفكره؛ في حين أن الديانات كالإسلام واليهودية تشهد نهضة مذهلةً وعميقة، كما أن المعتقدات الآسيويــّة تفرض نفسها بقوّة. أما الكنيسة فقد توقفت عن نقل التاريخ، وعجزت عن شرح الأحداث، ولم تعد تــُلهم الأعمال العظيمة؛ كما أنها انخرطت في قيم عالم مخلوق ذاتيًّا لتحلَّ بدلًا عنها محركات جديدة (التكنولوجيا، الحركات الثوريـّة).

ووفق رؤية مولنار فإن "كل شيء مرتبط ببعضه البعض"، من اللاهوت للتعليم للأعمال الصالحة، وما يطلبه الدين من الإنسان لا يتعارض مع طبيعته. رافضًا طريقة عمل العقل الغربي وفق ثنائيّات يستبعدُ أحدها الآخر؛ لأنّ الحقيقة لها أكثر من معنى "وعلينا أن ننتظر حتى تكشف الأشياء عن معانيها واحدًا تلوَ الآخر". فأصغر ظاهرة لها قيمتها، وهذا ما تفتقر له الأحكام المتعالية والمزدرية المتسلطة والحادة التي يعوزها الذكاء وينقصها الفهم الأوسع للأشياء. فالانحطاط الذي أصاب الكنيسة، هو في التحول الثقافي للطبقات الوسطى وهؤلاء الذين أصبحوا يمثلون رجال الكنيسة، لم يكونوا سوى مجموعة من بيروقراطيين ومستهزئين ومنكرين وبسببهم أصبح المقدس موضعًا للفكر النقدي (وفي مرماه). وصارت العقيدة ومصادرها أهدافــًا للعقل؛ وهذا نتيجة الفهم المغلوط للدين في النظر إلى علاقته بالإنسان كمطلق يخترق النسبي.

وقبلًا رأى شارل مورا أنه "بدون الوحدة الإلهيّة والنتائج التي تأتي بها تختفي الوحدة العقليّة والأخلاقيّة والسياسيّة في آن".

إنّ المقدس عرضة للتراجع نتيجة التيارات الفكرية التي تخلُّ بالعلاقة بين العقل والإيمان، ووضعه الراهن لا يوحي بالأمان. والسؤال الذي يطرح يتعلق بمدى قدرته على المقاومة في ظل عدوان الحضارة الحديثة. وبرأي مولنار فنحن نشهد خسوفـًا مؤقتًّا للمقدس لا موتـًا، وما يبدو كنهاية عرض حيث يسحب التاريخ الستارة ليرفعها على غرفة أخرى هو "غشاوة مؤقتّة تحجب الذكاء عند شريحة من البشر".

توماس مولنار  وآلان دو بنوا


لقد حلّت الدولة مكانه، وغابت المقاومة الروحيّة للكنائس، لا يوجد تقدم في الأخلاق ولا علم الجمال في غيابه، بل تراجعًا. والدين برأي مولنار يرفعُ الإنسان إلى حالة تسمو فوق البشر والإنسانية الخارقة التي تدعى (التكنولوجيا والديمقراطية) دجل بامتياز. يغالي مولنار ككاثوليكي في اعتقاده أن المسيحية (هي أفضل نظام لاحتضان حركات الروح) وهي فريدة من نوعها لأنّ منبعها المباشر إلهٌ مـُتجسِّد. 

ومن هنا يأتي احتجاج آلان دو بنوا لفكرة حصر المقدّس في دين واحد، وجعله وسيطًا بين الإنسان والله. كما لا يقبل دو بنوا فكرة تدهور الحضارة الغربية لارتباطها بتاريخ المسيحية ووصولها لموت المقدس رافضًا النظرة الصلبة لمولنار والتي تحصر الروح بالمسيحيّة.

فالآلهة عند الهنود الأوروبيين، آلهة مضيئة تسكن السماء، وفي جميع الديانات يتعالى وجود المقدّس فوق الكون، وهو عند أرسطو "فكر الفكر" اللوغوس، بينما عند أفلوطين انبثاق تلقائي للعالم عن الله الواحد.

إن عملية غياب المقدّس تبدأ بالتأكيد باختلاف الكون عن الله، فقصة التكوين بأكملها قصة انفصال "وبخلاف الوثنية التي تنشئ جسورًا وروابط، ينشئ الكتاب المقدس شروخًا وتمزقات بين السماء والأرض وبين الناس والإله"؛ لأنـّه وفي اللاّهوت الجيّد، هناك علاقة جيدة بين العالم والله (علاقة مشاركة لا سببيّة فقط) إنه في كل الأديان فيه براءة وتوحيد للموجودات وهو نقطة التقاء، لكن في المسيحية تسود فكرة الذنب.



كتب رودولف أوتو "إن المقدس لا يمكن الوصول إليه من خلال الادراك المفاهيمي للكلمة إذ أنه ينشأ من أعمق مصدر للمعرفة يوجد في الروح نفسها". إنه بوصفه انفتاحًا يحيلنا إلى هايدغر الذي تحدث بوضوح عن "رحيل الآلهة القديمة "وشيوع البؤس لأن "فترة خلوِّ العرش هي فترة تهيمن عليها التكنولوجيا" كما يشرّح هايدغر نسيان الكائن المخلوق: "فهذا النسيان هو العمل التأسيسي للميتافيزيقا في الغرب". لأن النظر لكون الله مجرد سام وقيمة عليا وهو مركز الحياة (والكينونة توجد في الله)؛ يجعل التفكير في المجرد يتعلق بالملموس بحيث لا نفكر في الأول إلاّ لمنفعة الثاني، ومن نتائج هذا التوحيد الذي أدى للتشيؤ والإحباط هو فصل الطبيعة عن المقدس والنظر إليها بآلية "فالتقنية الحديثة ليست علمًا تطبيقيًّا بقدر ما هي الوريث المباشر لمبدأ العقل الذي تحمله الميتافيزيقا الغربية". 

إن العقل في هذه الحضارة يفقد الإيمان ليستقر في العلمنة، أما الدين فهو يفقد العقل وينسحب باتجاه التحريض الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، أو باتجاه العاطفي ويصبح "مجرّد همهمة عديمة الشكل" كما وصفها هيغل.

فالحداثة كنظام أيديولوجي تظهر على أنها مدمرة بلا رحمة لكل المقدسات. كتب هايدغر: "الميتافيزيقا لا تطرح السؤال الذي يتعلق بحقيقة الكينونة ذاتها، ولا تتساءل عن الطريقة التي يبنى بها جوهر الإنسان"، وهذا النسيان الذي روجت له الميتافيزيقا الغربية أتى من هذا الفصل الجائر.

فماذا تبقّى منه في عالم خائب الأمل؟

هذا السؤال الحاسم الذي يجعل مولنار يضع الألوهيّة في العالم. إن مراقبة وسائل التواصل، والرموز المصطنعة في توجيه الوعي الجمعي، والقيم التي تحجب الإنسان عن قيمة وجوده، يجعلنا نشك أن المؤامرة – مؤامرة العالم الحديث لا تستهدف الوعي فحسب، بل تريد إفقار الحياة الروحيّة للإنسان وتجويف عالمه الداخلي.

في كتابه "مقاربة هولدرلين" وفي تعليقه على قصيدة (كما في يوم العيد)، ذهب مارتن هايدغر إلى أن المقدّس ممكن بقدر ما يجلب للعالم الوجود المفتوح "حيث يمكن للأرض والسماء والبشر والآلهة الاجتماع مع بعضهم البعض"، ومن هذا الاجتماع، يأتي احترام الإنسان لذاته وانفتاحه على كينونته المتعددة بوعي؛ وهو لا يعني إلغاء الذات، بل في حقيقته: جزء من تكوينها الداخلي، وهي إذ تبحث عنه، عليها ألاّ تنظر له بوصفه مفارقـًا، بل أن تحتضنه في داخلها. بحيث يرفع الإنسان رأسه للسماء لا رهبةً ولا خوفــًا بل ليتأمل في كائناتها المضيئة؛ لأن العلاقة بينهما تتحقق عبر المشاركة والفهم والمواساة في عالمٍ آخذٍ في التبدّل والتحوّل للأسوأ.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.