}
عروض

عن تجليات معنى المكان لدى الفلسطيني

عمر كوش

7 يناير 2024

لا تخرج الحرب العدوانية، التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربيّة منذ ما يقرب من ثلاثة شهور، عن سلسلة حروبها الأخرى، الهادفة إلى تحقيق المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعًا استيطانيًا توسعيًا يمارسُ الفصل العنصري، ويقوم في جوهره على اجتثاث الشعب الفلسطيني ومحوه، وإحلال مستوطنين من مختلف الجنسيات في مكانه، فالاحتلال الصهيوني يختلف عن الاستعمار الكلاسيكي، وعن الانتداب أيضًا، حيث لا يهدف إلى نهب ثروات فلسطين، واستغلال ناسها، بل الاستيلاء عليها، وتهجير سكانها، والسيطرة على من يبقى منهم، بغية خلق مجتمع جديد في مكان المجتمع الأصلي. وقد خاضت إسرائيل حروبًا عديدة ضد الفلسطينيين، بغية السيطرة على أرضهم ومكان عيشهم، ولم يتوانَ المحتل الإسرائيلي عن تلفيق وتزوير الوقائع من أجل دعم سرديته بادعاءات دينية تزعم أحقيّته بالوجود عبر مرتكزات الهوية والدين والقومية والمكان، فضلًا عن شنه حرب إبادة للرموز والمعالم التاريخية في محاولة لطمس الهوية الثقافية الفلسطينية، لذلك لم يتوقف عن استهداف كافة المعالم الأثرية والدينية والتاريخية والمؤسسات الثقافية والاجتماعية، بغية طمس معالم المكان الفلسطينية، وإعادة هندسة الحيز المكاني بما يخدم مخططاته.
في هذا السياق يحاول بلال عوض سلامة، في كتابه "في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2023)، تسليط الضوء على معنى المكان بالنسبة إلى الإنسان الفلسطيني، وتلمّس إرهاصات حرب الأمكنة ووقائعها، وتبيان حيثيات صمود الفلسطيني وتمسكه بالمكان، أو بالأحرى بأرضه، وذلك للوقوف في وجه محاولات سلطات الاحتلال السيطرة على مزيد من الأمكنة الفلسطينيّة، ورفض سياساتها الإحلاليّة، حيث تمكنت حركة التحرر الوطني الفلسطيني، عبر سلسلة من الانتفاضات والهبَّات، من البقاء في المكان، على الرغم من تنفيذ قوى الاحتلال عمليات إبادة جماعية، وتطهير عرقي ضد الفلسطينيين، وقيامها بحملات سلب دائمة بحق أصحاب المكان الأصليين، الذين لم يتوقفوا، في المقابل، عن خوض معارك هائلة من أجل تثبيت وجودهم، وتعزيز صمودهم، وبذلوا جهودًا حثيثة من أجل استعادة المكان، وبناء مؤسسات وطنية، مع سعيهم إلى ترسيخ وجود فلسطيني.
يتخذ المؤلف مدينة القدس نموذجًا لدراسة تجليات معنى المكان لدى الفلسطيني، ويركز على ثلاثة أمكنة فيها، أولها باب العامود، حيث يكشف عن محاولات إسرائيل إحلال واستعمار الإدراك الحسي والعقلي للمشهد البصري للفلسطيني بغية تهويده و"أسرلته"، وثانيها حيّ الشيخ جراح، الذي تركزت محاولات إسرائيل فيه على اجتثاث سكّانه، وجعله بيئة غير آمنة، إضافة إلى مضايقة الفلسطينيين والاستحواذ على أماكن سكناهم، أي بيوتهم، بالقوة العنيفة، والمكان الثالث هو المسجد الأقصى وساحاته، ومحاولات إسرائيل الإحلال الديني فيه، عبر محاولتها إحلال المقدس اليهودي مكان المقدس الإسلامي والعربي. إضافة إلى قيام المحتل بهندسة الزمان للإنسان الفلسطيني في حركته وتنقله، سواء داخل البلدة القديمة، أم خارجها، والذي يواجه سلسلة من نقاط الرقابة والتفتيش والضبط العسكري والحواجز وأنظمة الرقابة المعلوماتية ورصد الكاميرات. وتجسدت هذه السياسة في خطط إسرائيل الهادفة إلى التقسيم الزماني والمكاني لساحات المسجد الأقصى، بحيث يغدو المشهد وكأنه جزء من اللامكان الفلسطيني، فيما يحضر المستوطنون والجنود فيه.
غير أنه، وخلال رصد ما هو يومي في حياة المقدسيين، تتجلى كيفية إدراك الفلسطينيين بشكل عام معنى الأمكنة لديهم، وتشكيلهم المكان باعتباره حيّزًا سياسيًا، لتطوير هويتهم الوطنيّة عبر الفعل اليومي كفعل مقاوم، من حيث الحضور والاحتجاج والتدفق في الشوارع بأشكال متعدّدة، وذلك في سبيل استعادة المكان رمزيًا وماديًا.




يستند المؤلف إلى أطروحات مارك أوجيه حول مفهوم المكان، الذي استخدمه لتبيان سمات الحداثة المفرطة، ونظر إلى المكان بوصفه مفهومًا هوياتيًا وعلائقيًا وتاريخيًا، وكل مكان لا يمكن وصفه بأنه هوياتي، أو تاريخي، أو علائقي، وضعه في خانة اللامكان. ومنها ينطلق المؤلف كي يحدد أوجه صراع الحداثة الاستعمارية الصهيونية وقلقها وأزمتها في إيجاد إشارة لها في هذا المكان، كحيّز وتاريخ وسياق فلسطيني، وذلك في إطار بحثها عن مبرر لها في هذا الفضاء، حيث أن تكوين القدس، والبلدة القديمة، بمعالمها وقيمها، كمكان فلسطيني، يعدّ أحد رهانات الوجود الفلسطيني تاريخيًا، سواء على المستوى الفردي، أو الجمعي، أم على المستوى الديني والوطني والاجتماعي، أم على المستوى الاقتصادي والسياسي، وحتى على المستوى اللغوي، أو الصوري. وقد جعل ذلك القدس مكانًا مشتركًا ومقدسًا للفلسطينيين المقدسيين، في عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم.
زمنيًا، تمتد المقاومة المقدسية إلى لحظة الاحتلال عام 1967، وشهدت مراحل متعددة، بدءًا من مرحلة تعزيز الصمود، مرورًا بالكفاح الوطني، ووصولًا إلى محاولات بناء وجود فلسطيني رسمي ومستقل، من خلال مؤسسات عدة، مثل بيت الشرق، وسواها. وقد ساهم المقدسيون بدور فاعل في الأعمال النضالية والاحتجاجية، وقاموا بالاشتباك شبه اليومي مع قوى الاحتلال في إطار حرب الأمكنة، إذ أنه منذ معركة البوابات الإلكترونية عام 2017، تحولت الأمكنة، من باب الأسباط، وباب الرحمة، وباب العمود، إضافة إلى حي الشيخ جراح، وسلوان، إلى نقاط ساخنة في الصراع عليها مع الاحتلال، من أجل فرض الحضور الفلسطيني واستعادتها، بوصفها مداخل لكافة الأمكنة، حيث ترمز السيطرة عليها إلى السيطرة على الحياة والوجود والرواية الفلسطينية فيها. وعليه، يرى المؤلف أن الحاجة الملحة إلى استملاك المكان، حسبما تجسدت في باب العامود والشيخ جراح عام 2021، هي مسألة جمعية، واستعادة المكان هي ضرورة فلسطينية، لذلك لا بد أن الفلسطينيين استوعبوا "ما جرى من احتفالات وممارسات ومسلكيات قد تتناقض مع معتقداتهم الدينية والاجتماعية والثقافية، لأن المساحة التي يتيحها باب العامود تتسع: للصلاة، والرقص، والدبكة، والشراء والبيع، وعزف العود والموسيقى، ورياضة الباركور، وإحياء الليالي الرمضانية. فقدسية المكان من قدسية الفلسطيني، فدعوا الفلسطينيين يستعيدون باب العامود بطقوس وشعائر تعزز التنوع والاختلاف والفرح، ونحمد الله على فطرة القدس".
إن إحدى أولويات الاستعمار الصهيوني الإحلالي هي السيطرة على المكان على طول الجغرافيا الفلسطينية، سواء في المدن، أم في الأرياف، وذلك من أجل إحكام سيطرته وهيمنته على الفضاء الفلسطيني بوصفه فضاءً خاويًا من السكان، ترويجًا لمقولته الإبادة والعنصرية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، لذلك اتبع الاحتلال سياسة انتزاع الفلسطيني من مكانه، من وجوده، من بيته، أي من المكان الذي يألفه، فإذا كان الاستلاب قد جرى بصورة عنيفة في النكبة، فإن سياسة هدم البيوت أو الأبراج هي رديف لسياسات عقيدة الصدمة، التي تهدف إلى سلب السكان الأصليين لمفهومهم بذاتهم وبتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم حتى وجودهم. كما أن الاحتلال اتبع أيضًا سياسات العزل والفصل وتقطيع الأوصال في المناطق الفلسطينية كافة، إلى جانب سعيه إلى "استعمار الإدراك الحسي والعقلي للمقدسي والفلسطيني، والعمل على تشويه الذاكرة الجمعية والمحلية، واستعمار الجسد الفلسطيني؛ من أجل خلق اللامكان واللا معنى للفلسطيني"، فيما تجسد الحضور الفلسطيني في حرب الأمكنة في تنوع الأدوات والوسائل الاحتجاجية، والتركيز على خيار التدفق إلى الشوارع، والنضال من أجل استعادة الأمكنة الفلسطينية فعليًا، أو ثقافيًا ورمزيًا. وقد أسهم الحضور الفلسطيني الكثيف في معركة الأمكنة، خاصة على درجات باب العامود، في بلورة هوية وخطاب وثقافة وشعارات المحتجين السلميين في حضورهم اليومي المقاوم، وهذا ما يرى فيه المؤلف "مرابطًا في لحظة، ومقاومًا في لحظة ثانية، وجدعًا في ثالثة، وفلسطينيًا في رابعة، و"جكارة" كحضور يومي للمقدسي في مواجهة الاستعمار في لحظة خامسة". وعليه، فإن الانخراط بالنضال والاشتباك مع الاستعمار الصهيوني الإحلالي ليس حدثًا جزئيًا، بل "يندرج في بنية مواجهة الاستعمار الإحلالي، كون هذا الاشتباك ليس مجرد رد فعل عفوي، أو حتى فورة، وإنما هو دينامية متفاعلة متواصلة من خلال الحضور في المكان لأسباب سياسية، أو أيديولوجية، أو ثقافية، أو اجتماعية، وسرعان ما ينتظم الحضور حول خطاب سياسي من نوع ما، أو مطلبي، ويكون السبب في بداية النضال".
اللافت هو أن المؤلف، في نهاية كتابه، يتنقل من مستوى يقترب من الأنثروبولوجي في رصد معنى المكان، وتتبع حرب الأمكنة إلى المستوى السياسي المباشر، من خلال تناول "الطبقة الوسيطة وثرثرة نوستالجيا الانتفاضة الشعبية"، حيث يحصر مفهوم النوستالجيا في معنى "الإفراط في المعنى والمتخيَّل، من حيث الحنين إلى الماضي، وفي حالتنا في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية"، ويقصد هنا انتفاضة عام 1987، التي يرفض تسميتها بالانتفاضة الأولى، لأنه يرى أن "وراءها مشروع وتسوية سياسية هدفه إقامة دولة فلسطينية في الأرض المحتلة عام 1967، وليس في فلسطين الانتدابية"، إضافة إلى أن الثورات والهبات الفلسطينية لم تبدأ منها فقط. لكنه ينتقص منها من باب سلميتها، مستندًا إلى شعار "بلا سلمية بلا بطيخ... بدنا حجارة وصواريخ". وعليه ينتقد ما يسميه "تقديس الطبقة الوسيطة (بين من ومن؟)؛ من سياسيين، ورجال أمن، وأحزاب، وموظفي المنظمات الحكومية وغير الحكومية، وليبراليين... إلخ، للانتفاضة الشعبية نظرًا إلى سلميّتها، حتى إن لم تكن المقاومة الشعبية كذلك يومًا، بل أصبحت كذلك بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وأصبحت تحيل على اللاعنف والسلبية المفرطة، وتعرية العدو، والكشف عن وجهه البشع... إلخ، يعبر عنها عبر أغنية تعكس الموقف السياسي الفلسطيني (ازرع ليمون... ازرع تفاح)، وهي محطّ للسخرية في الشارع الفلسطيني، إذًا، فما بال هذه الطبقة الوسيطة تشجع اللاعنف وتحبذه دون غيرها؟".
لا يتسع المجال هنا لمناقشة آراء المؤلف السياسية، لكن من المهم الالتفات إلى أن موضوع كتابه لا يتناسب مع ذلك، فهو لا يحتمل إقحام مواقف سياسية مباشرة، كونه يخص حرب الأمكنة من وجهة نظر علمية، كما أنه ليس مطلوبًا منه أن يلعب "دور المثقف المشتبك في إيقاف ثرثرة العقل وإسكاته أو النوستالجيا في نقد المقاومة تحت ذريعة التغني بالانتفاضة الشعبية"، بل على المثقف ألا ينتقص من دور العقل، وألا يكف عن الاحتكام إلى عقله، وعن القيام بدوره النقدي أبدًا، وإلا فقد مكانته كمثقف، ليتحوّل إلى بوق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.