}
عروض

عن مصادر أيديولوجيا الإبادة الجماعية الإسرائيلية

عمر شبانة

8 يناير 2024


يقوم كتاب منير العكش، هنا، كما في كتب سابقة له، بالجمع بين الأنثروبولوجيّ والميثالوجيّ والفلسفيّ، لكنّه هنا يربط ذلك كله بالدينيّ، وما يربطه بالعنف، حيث السؤال "كيف يصبح الدين شرًّا"؟ هو السّؤال المركزيّ في هذا "الكتاب الأول: اليهود والعنف"، وهو كتاب يجيء ضمن مشروع يتناول علاقة العنف بالديانات التوحيدية، ومن خلاله يرسم المؤلف صورة تاريخية كاملة لما يسمّيه "الذهنية اليهودية"، ويذهب إلى أنها ليست دينًا، بل هلوسة أيديولوجية، أو "برنامجًا سياسيًّا"، بالتعبير الذي يستعيره العكش من الفيلسوف كانط، وأنها صِيغت في وقت متأخر على قياس حاجات مجتمعها الصحراوي القاسية، وعبّرت عن روحه وأسباب عنفه وعبادة ذاته، وعن أحلامها في وراثة بلاد الآخرين، واستباحتها، كما سنرى هنا.
وفيما يعتمد العكش روايات المؤرّخين، ومصادر عدّة عن أصول اليهود وديانتهم، بأنّهم كانوا قبيلة من مجموعة قبائل الجزيرة العربية، لا يختلفون عن هذه القبائل في شيء، ويذهب إلى القول إن "شِعر يهود الجزيرة ليس فيه ما يميزه عن شعر بقية شعراء الجاهلية، أو ما يكشف يهوديّتهم"، لكنه ينقض رواية كمال صليبي في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، هذه الرواية التي يرى فيها أنهم خرجوا من "جنوب" الجزيرة.
والحكاية هنا تدور حول عشائر لها أحلام وطموحات صارت دينًا وظيفيًّا، لكنّ أبرز عبادات هذا الدين هي "العنف المميت"، الذي له مرتكزات عدّة؛ أوّلها مركزية مقدّسة اسمها "العهد"، وثانيها هدف يقدّس الغزو والنهب والإبادة اسمه "الأرض الموعودة"، وثالثها فريضة مقدّسة اسمها "عبادة الذات"، ورابعها خرافة وراثية (جينيّة) استثنائية اسمها "الاختيار الإلهيّ"، وخامسها براءة مطلقة من ربّها بـ"حقّ التضحية بالآخَر"، واستحلال وجوده اسمها "لعنة كنعان"، وسادسها طقس عبادة يسمّونه التحريم (ذبح وتدمير وحرق) ظنًا منهم، وحسب ادّعاءاتهم، أن ربّهم "يُسرّ برائحة الجثث المشويّة"، وأخيرًا كيف صار لها ربّ محارب مهووس بالإبادات "يَدفع" أمامَها ما شاءت من أمَم الأرض لـ"التحريم".

حاضنة الوحوش الشاملة
ولأنّ المؤلّف هو من أبرز الباحثين العرب في ظاهرة العنف والإبادات الجماعيّة، كما يبدو من خلال عدد من مؤلّفاته مثل (أميركا والإبادات الثقافيّة، وأميركا والإبادات الجنسيّة، وتلمود العمّ سام، كما عرفناه في الثمانينيات بكتابه عن أسئلة الشعر، وغيرها)، فإن عمَله هذا يتميّز بكونه، إضافة إلى أنه استكمال طبيعيّ لما كتبه من قبل، يسعى إلى تأسيس نظرة واحدة موحّدة عن العنف في تاريخ الأديان الثلاثة... فهو يعرض كيف تحوّلت فكرة إسرائيل إلى حاضنة وحوش في السياسة والفكر والفلسفة الغربية، ويوثّق كل كلمة يكتبها، من خلال المراجع التي يعتمد عليها، وما أكثرها وأشدّ تنوّعها وغناها، ومن خلال الإضاءات والتحليلات التي يقدّمها، وتشغل المساحة الأكبر من الكتاب.




الكتاب (صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ويقع في 200 صفحة من القطع الكبير) يشتمل على مناقشات واسعة ومعمّقة لعدد من العناوين، يبدأ من العنوان المركزي "أيديولوجيا الإبادة"، ثمّ فصل بعنوان "المحراث والسّيف"، وفصل "مجتمع بصيغة إله". ويأتي ضمن ثلاثيّة هي "محاولة لتأسيس نظرة واحدة موحِّدة عن العنف وأسبابه وأخطاره في تاريخ الأديان الثلاثة التي تُنسب إلى السّماء، وهي رحلة تنقيب عن الجذور المشتركة لعنفها الديني في مختلف ألوان تربته وأنواعها وطبقاتها"، كما يصفها المؤلّف.
يبدأ باليهودية رغم استنتاجه، منذ التمهيد، أنها ليست ديانة، بل هي مجرّد هلوسات أيديولوجيّة، وهذه هي الفكرة الأساسية التي قام الكتاب عليها، ويرى أنه "لولا تبنّي المسيحيّة والإسلام لديانة العهد القديم لاندثرت، وكانت واحدة من ديانات كثيرة مندثرة، فقد صار شائعًا التشكيك بالنص التوراتي أصلًا"... وهو في هذا السياق يؤكّد أنّ "هذه الديانة، مع كلّ ما أضيف إليها لاحقًا من نصوص وآداب منتحَلة من بابل وكنعان وفارس واليونان، وغيرها، ظلّت ديانة أرضيّة طينيّة بامتياز، وظلّ هاجس الغزو والنهب والاستعباد والتضحية بالآخر، أساسها وجوهر عبادتها وخلاصة ذهنيّتها التاريخيّة"، ولهذا رأى فيها هيجل، بحسب المؤلّف "النقيض الجذري الكامل لديانة السيّد المسيح الحضاريّة المُسالمة".

أيديولوجيا الإبادة الجماعيّة
النصوص التي نُسجت منها هذه الذهنيّة، وتمحورت حول فكرة إسرائيل "الأرض الموعودة" (احتلال أرض "الغير" واستبدال شعب بشعب)، تضعنا أمام أيديولوجية إبادة جماعيةgenocidal ideology لا تتحقّق إلّا بالعنف المُميت. وبحسب العكش، فهي تتجسّد اليوم بالحركة الصهيونيّة اليهوديّة وغير اليهوديّة، فما يشهده العالم في غزّة اليوم (يبدو الحديث هنا عن إحدى الحروب على غزة) هو عرض طقسيّ ritual حيّ تقدّمه حكومة المتديّنين بالصوت والصورة لهذه الأيديولوجيا الإباديّة التحريميّة HRM التي كانت وما زالت عبادة لهم لازمت فكرة إسرائيل من يوم ما اعتقدوا أن ربّهم أعلن قِرانه على إسرائيل. فهو يقول إن "اليهود" الذين تعرّضوا لأفران الغاز "هم أنفسهم الذين يُلقون على رؤوس أهل غزة الفلسطينيّين يوميًّا آلاف أفران الغاز (Made in the USA). يا لها من ضحيّة أشدّ دمويّة من جلّاده!".
وفي ما يتعلّق بتفاصيل اليهود في التاريخ، وخصوصًا حول "منابع العنف في اليهودية"، يستعيد العكش مثلًا، المعنى القاموسيّ والتاريخي لكلمة "العبريّ"، وهو يؤكد، نقلًا عن المؤرّخ وعالم الآثار ثيوفيل ميك، أنها ليست اسمًا لجنس، أو عِرق، بل هي صفة تعني "البدويّ"، كما تعني "العابر"، و"اللصّ"، و"قاطع الطريق"، و"الدّخيل النشاز"، و"البربريّ"، وينقل عن المؤرّخ المصريّ آيبون (20 ق.م) قوله "إنّهم طُردوا من مصر بسبب اشتغالم بالسّحر والشعوذة وأمراضهم التي خِيف منها على المصريّين". كما ينقل عن الفيلسوف اليونانيّ سلسوس (القرن الثاني) قوله "إضافة إلى جذامهم المزمن، كانوا بين المصريّين نوعًا من التلوّث".





أمّا في ما يتعلّق باصطناع ما يسمّيه "خرافة الساميّة"، و"فزّاعة اللاساميّة"، التي هي في حقيقتها مسألة أوروبيّة بامتياز، وأنهم "لفّقوا شعبًا من خلاسيّات هجينة"، ويستشهد بقصّة "انتقام نوح لعورته المكشوفة" من حفيده كنعان، بدل الانتقام من الابن الذي شاهد أباه سكران وعورته ظاهرة، هذه القصة الخرافة هي التي أدت إلى النتيجة العنصرية، وهي كذلك القصّة التي لفّق اليهود منها تاريخًا وهميًّا للإنسانيّة تأسّست عليه أخطر خرافة عنصرية إباديّة في تاريخ البشر. خصوصًا ما يتعلّق باتّهام الربّ ـ ربّهم ـ بأنه هو الذي "دفع الضحايا لسيوفهم"، من جهة، وهو الذي "أوصاهم بسرقة المصريّين وأعطاهم بلاد الكنعانيّين"... إلخ. وهو إلى ذلك يرصد مجموعة من مزاياهم: البداوة، التوحّش، والافتقار إلى أبسط المواهب الطبيعيّة، وعدم مساهمتهم في أي علم، أو اختراع مفيد للحضارة الإنسانية... وهو ما يبرّر علاقة "السّيف والمحراث" الذي يحرك "العقيدة" اليهودية.

شهادات المؤرّخين
نقرأ في فصول الكتاب، نقلًا عن مجموعة من المؤرّخين هم: مانيتو المصري (القرن الثالث قبل الميلاد)، مولون اليوناني، المؤرخ المصري أبيون (القرن الأول قبل الميلاد)، ليسيماخوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، وعالمة العصور الجيولوجية جاكيتا هوكس (جائزة نوبل)، وأحدثهم الفيلسوف اليوناني سلسوس، ما يراه هذا المؤرّخ الفيلسوف من "انحطاطهم الثقافيّ وعالتهم على الإنسانيّة (ووصف) ديانتهم بأنها لا تناسب إلّا الجهلة والأغبياء (و) لا يختلفون عن برابرة أوروبا الشرقية في زمانهم، ويقاربونهم ببرابرة ديشا Dacia".
كما يؤكد بعضهم على أن الذهنية المريضة بعبادة الذات والعمة أمام المرآة هي التي أدّت إلى طردهم من مصر، وهي التي جلبت عليهم كثيرًا من الكوارث التي لم يتعلّموا من دروسها شيئًا. حيث إنّ معظم مؤرخي العصور القديمة مثل تاسيتوس، وبلوتارخ، وبومبيوس، ومانيتو، وثيوفيلوس الأنطاكيّ، وسلسوس، وديودوروس، أكدوا على نشاز ذهنية العشائر البدوية، وتناقضها مع العالم المتحضّر في عصرها، ما أدى بالضرورة إلى طردها من مصر، وتطهير المجتمع المصري من "قذارتها". وكلّهم نفَوا ما ورد في سِفر الخروج من خرافات وأوهام... فالمؤرخ ديودوروس يقول إنهم كانوا بين المصريّين "نوعًا من التلوّث الذي أضرّ بهم".
وأخيرًا، ومن بين أبرز خلاصات المؤلف، وبخصوص العهد القديم وأسفاره الـ39، وباستثناء سِفرَي راعوث ونشيد الأناشيد، فإن سبعة وثلاثين سِفرًا "مسكونة بهاجس الحرب والنهب وتمجيد دمار حضاراتنا الأولى وقتل شعوبها التي صنعت إنسانيّة إنسانيتنا، من وادي الرافدين إلى وادي النيل..."، كما أن "الأسفار الخمسة الأولى تشحن هذه الحروب بالمعنى الإباديّ "التحريميّ" من دون التساؤل إن كانت هذه الحروب حقّا أو باطلًا، أخلاقيّة، أو لاأخلاقيّة". فمثلًا نحن نقرأ: "إن لم تطردوا من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكًا في أعينكم ومناخس في جنوبكم..." (سِفر العدد). ومن دون أيّ إدانة تذكر لهذه المجازر.
وربطًا بما هو راهن، يتعلّق الأمر بـ"أيديولوجيا الإبادة"، وهي الأيديولوجيا التي تستند إليها الصهيونية في القتل تجاه "الغوييم"، وحصوصًا الفلسطينيّ، هذه الأيديولوجيا المتولّدة من هلوسات التوراة وخرافاتها تجاه الآخر، وحتى تجاه الربّ. هنا، نقرأ ما يقوله العكش من أنّ اليهود يدّعون "أنّهم أنبل من ربّهم وأطهر وأكرم أخلاقًا"، وهذا هو أساس لأيديولوجيا التفوّق التي تبيح مبدأ إبادة "الآخر". ويواصل العكش أنّ رواة نصوص هذه الذهنيّة "يتلذّذون بشاعريّة معصرة غضب الربّ: ووحشيّة عصرها "دم شعوب الأرض"، كما ورد في إشعيا". بل إنّهم "كانوا يتقدّسون بمشاهد التطهير العرقيّ، والجرائم التي ارتُكبت في أرض مصر بحقّ كلّ بيت وطفل مصريّ: يروونها بروح مختنقة بالشماتة... ويزعمون أن ربّهم الذي خلقوه على صورتهم، ومن ضِلع بداوتهم، يُسرّ برائحة الجثث المشويّة".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.