بعد كتابيه "الفردوس المفقود: بيروت كما عرفتها" (2018) و"عن أهلي وصحبي وأساتذتي في بيروت" (2020)، ها هو محمود شريح يحيد موقتًا عن التذكر وذكرياته في بيروت ليكتب عن "انكسار القومية وتشظي العلمانية في المشرق العربي: 1949-1961" (بيروت: دار النهار، 2024، 63 صفحة). وقد اختار المؤلف عنوانًا فرعيًا لهذا الكتاب هو: "من أنطون سعادة إلى جمال عبد الناصر"، وبهذا العنوان الفرعي أصبح واضحًا لماذا اختار محمود شريح سنة 1949 كمنطلق لكتابه؛ ففي تلك السنة أعدمت السلطات اللبنانية الطائفية القبيحة (السلطة السياسية والسلطة القضائية معًا) المفكر العَلماني النادر أنطون سعادة المعادي للطائفية وللصهيونية ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن ما هو غير واضح تمامًا لماذا اختار سنة 1961 خاتمة للحقبة الزمنية التي تناولها الكاتب والتي كانت سنة 1949 بدايتها؟ أَيكون المقصود إلى ذلك انفكاك سورية عن دولة الوحدة مع مصر، وانفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة؟ ولماذا لم يختر عام 1967 الذي وقعت في أثنائه الهزيمة المدوية لجيوش مصر وسورية والأردن مجتمعة؟ أو سنة 1970 التي رحل فيها جمال عبد الناصر؟ في أي حال، قليلة هي الكتب، بل نادرة جدًا، التي تُطبع مرتين في سنة واحدة، وفي بلدين عربيّين شبه متجاورين. فقد صدر هذا الكتاب عن دار العائدون للنشر في عمان في آذار/ مارس 2024 (105 صفحات من القطع الصغير)، ثم عادت دار النهار لتصدره في آب/ أغسطس 2024 في غلاف مختلف (63 صفحة من القطع المعتاد)، وهذا الأمر ربما يعكس مقدار الاعتناء بالكتاب والكَلَف بموضوعاته، ولا سيما فكرة القومية المجهضة، سورية أَكانت تلك القومية أم عربية، وكذلك بالمشروع اليائس للعلمانية. وقد لفتني في الطبعة الأردنية والطبعة اللبنانية أن الطبعتين شددتا على أن "من غير المسموح إعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه من دون إذن خطي من الناشر". ومع ذلك انبرت النهار لإعادة إصداره بإذن من المؤلف على الراجح.
ماذا في الكتاب؟
يتناول الكتابان (أقصد الكتاب) ملامح من الروابط الفكرية والثقافية لمصر وبلاد الشام، ويعالج مسائل النهضة القومية الجديدة التي دقّت أبواب المشرق العربي منذ أوائل القرن العشرين: القومية السورية التي أطلقها أنطون سعادة، والقومية العربية التي بلغت ذروتها مع جمال عبد الناصر. وفي سياق هذه المعالجة انثنى المؤلف إلى الكلام على كتاب أنطون سعادة "الصراع الفكري في الأدب السوري"، وعلى تأثيره في تيار الحداثة في بلاد الشام (مجلة "شعر" نموذجًا علاوة على مجلة "حوار"). وكنا قرأنا شطورًا وافية وضافية من هذا الكتاب، بالكلمة والحرف، في كتاب آخر لمحمود شريح عنوانه "من جماعة الديوان في القاهرة إلى مجلة "شعر" في بيروت" (القاهرة: السلام للطباعة، 1996). وفي كتابه "الجديد" يقيم المؤلف توازيًا بين التيارات الفكرية – السياسية والتيارات الأدبية المتماثلة معها.
وفي هذا الميدان ثمة تركيز على التيارات الأدبية يفوق كثيرًا التركيز على التيارات السياسية والوقائع السياسية التي كان لها التأثير الحاسم في صعود الفكرة القومية في مصر وبلاد الشام. وبهذا المعنى، فإن الكاتب أفاض في استقاء شواهده واستشهاداته لا من الحوادث التاريخية (كثورة 1919 المصرية والثورة السورية الكبرى في سنة 1925 وثورة الضباط الأحرار في سنة 1952 والوحدة السورية – المصرية في سنة 1958 صعودًا إلى هزيمة 1967)، بل من الشعر والأدب، وهذا حقل معرفي جذاب، إلا أنه لا يستطيع أن يدّعي، منهجيًا، اكتساب صفة الشمول.
إن مرحلة الإحياء الأدبي في أواخر القرن التاسع عشر التي أراد أصحابها تخليص اللغة العربية مما لحق بها من الركاكة والرثاثة في العهد العثماني كانت جزءًا من حركة الإحياء التي سرى دبيبها في المجتمعات العربية، خصوصًا في مصر والشام، وكان من بين أعلامها الأدباء والشعراء أحمد شوقي وخليل مطران ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم ومصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي. لكن مرحلة "الديوان"، على سبيل المثال، جاءت إلى مصر، خلافًا للإحياء، بتأثير من الرومانسية الإنكليزية، وإلى سورية ولبنان بتأثير من الرومانسية الفرنسية (لا مارتين وفيكتور هيغو وشارل بودلير ورامبو)، ومن دون أن يكون لهما ارتباط سياسي مباشر بالفكرة القومية أو حتى بالعَلمانية. وكان من بين أعلام مجلة "الديوان" (التي صدرت في سنة 1921) عبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد. وعلى غرار "الديوان" عرفنا مرحلة "أبولو" منذ سنة 1932 مع أعلامها الكبار علي محمود طه وإبراهيم ناجي وأحمد زكي أبو شادي. وتعكس بعض تلك المراحل الأدبية، إلى حد ما، تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي.
غير أن نكبة 1948 وإعدام أنطون سعادة في 1949، وانقلاب الضباط الأحرار في مصر 1952 الذي أدى إلى تغيير النظام المصري برمته من ملكي إلى جمهوري، ثم العدوان الثلاثي على مصر 1956، وقيام الوحدة السورية – المصرية 1958، وثورة تموز/ يوليو 1958 في العراق التي قضت على الحكم الملكي الهاشمي، ثم انفراط عقد الوحدة السورية – المصرية في 28/9/1961، وانتصار ثورة الجزائر في سنة 1962، ذلك كله هو الذي رسم صورة المشرق العربي بحذافيرها، وليست التيارات الشعرية والأدبية حتى لو كانت مواكبة للتحولات السياسية. وقد وقعت حرب حزيران/ يونيو 1967 لتحطم الآمال التي عُلّقت على الفكرة القومية (سعادة والبعث وعبد الناصر)، وتفتح، في الوقت نفسه، أبوابًا لنقد الماضي والتطلع نحو التجديد والنهوض والتقدم والتحرر في العالم العربي. لكن موت جمال عبد الناصر في سنة 1970 أقفل الأبواب كلها، ولم يبقَ غير بوابة التحرر الوطني الفلسطيني التي فتحت حركة فتح الفلسطينية مصاريعها في 1/1/1965.
لماذا مصر ولبنان حصرًا؟
حصر محمود شريح شواهده الأدبية في المجالَين المصري واللبناني مع أن سورية، أي الشام، كانت قلب العروبة، والميدان الأمثل لأنطون سعادة وللفكر القومي العربي (ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشال عفلق). ولعل تركيزه على مصر ولبنان بالدرجة الأولى جعل كتابه هذا يخلو من نزار قباني وسليمان العيسى وبدوي الجبل (في الشعر)، ومن فرنسيس المراش وعبد الرحمن الشهبندر وطاهر الجزائري (في الفكر والسياسة). كذلك استنكف الكتاب عن التعرض لتيار الواقعية الاشتراكية ومجلتي "الطريق" و"الثقافة الوطنية" في بيروت، والتي اتكأ عليها أدباء كثيرون في الشام من عيار عبد المعين الملّوحي ونذير الحسامي ونصوح فاخوري. أما الرومانسيون الشوام فقد أغفلهم الكتاب أمثال عبد الباسط الصوفي (الشاعر المنتحر) ووصفي قرنفلي وعبد السلام عيون السود وكمال فوزي الشرابي ومفيد عرنوق وعبد العزيز الأرناؤوط وعيسى سلامة. والأربعة الأخيرون هم من رواد الفكر السوري القومي الذين أصدروا مجلة "القيثارة" في اللاذقية في سنة 1946، فكانت أول مجلة تعنى بالشعر في سورية والثانية في العالم العربي بعد مجلة "أبولو" التي أصدرها في القاهرة أحمد زكي أبو شادي في سنة 1933. وكانت "القيثارة" هي التي نشرت بواكير أدونيس ويوسف الخال.
إيضاحات وملاحظات
لنا، في هذه القراءة، بضع ملاحظات: فقد ورد في الصفحة 15 من الطبعة اللبنانية (ص 16 من الطبعة الأردنية) أن الحزب السوري القومي أُسس في سنة 1933. إن الكاتب الذي يحفظ تواريخ ميلاد جميع النساء اللاتي عرفهن أو تعرّف إليهن نقض التاريخ المأنوس والمشهور لتأسيس الحزب وهو 16/11/1932، إلا إذا كانت هناك رواية مختلفة تعيد تاريخ تأسيس الحزب إلى سنة 1933.
ويقول الكاتب إن حركة القوميين العرب التي نشأت بين طلاب الجامعة الأميركية في بيروت تزعمها دارسو الطب في الجامعة بزعامة جورج حبش (الصفحة 37 من الطبعة الأردنية والصفحة 26 من الطبعة اللبنانية). وهذا الكلام صحيح بنسبة 50 في المئة فقط؛ فمن بين الأعضاء الستة الأوائل المؤسِّسين لمنظمة "الشباب القومي العربي" (حركة القوميين العرب في ما بعد)، درس ثلاثة منهم الطب: جورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب، فيما درس هاني الهندي وحامد الجبوري العلوم السياسية، ودرس صالح شبل الاقتصاد. وعلاوة على ذلك تكررت عبارة "شباط 1961" في غير موضع من الكتاب (ص 5 و62 من الطبعة الأردنية، وص 9 و39 من الطبعة اللبنانية)، والمقصود إليه، كما يلوح لي، هو تاريخ انفكاك الوحدة السورية – المصرية. والحقيقة أن الانفصال المشؤوم وقع في 28 أيلول/ سبتمبر 1961 وليس في شباط/ فبراير 1961. وقد ارتأى المؤلف أن يكون كتابه بلا مراجع، لكنه، مع ذلك، بات مرجعًا في بابه، ولا سيما في الجوانب الأدبية من القومية العلمانية والتيارات المرافقة لها أو المشتقة منها.