}
عروض

"تفوحُ ناردينًا": رمز الوفاء والأمل المفقود

رمزي ناري

14 أكتوبر 2024


تحملُ رواية "تفوحُ ناردينًا" للكاتبة والصحافية الأردنية رُلى السماعين (دار جفرا ــ ناشرون وموزّعون في عمّان 2023)، عمقًا أدبيًا يعكس واقع الحياة الاجتماعيّة والنفسيّة لشخصياتها الخمس، الذين ترتبط قصصهم بشكل ما بمقهى ومخبز "كركر". تجسّد كل قصة من الرواية أسلوبًا خاصًا في معالجة العلاقات البشريّة المعقّدة، والصراعات الداخليّة التي يعيشها أفراد الرواية.
القراءة الأوليّة للعنوان "تفوحُ ناردينًا" تفتحُ الباب أمامنا لاستدعاء قصّة مريم أخت لعازر المذكورة في إنجيل يوحنّا، المرأة التي أخذت طيب ناردينٍ، كثير الثمن، ودهنتْ بهِ قدمي يسوع، مسحة حب وتقدير لا تقدّر بثمن. هذه القصة الإنجيليّة تمثل رمزًا للتضحية النقيّة، والعطاء الخالص، وتوحي بأن للرواية أبعادًا رمزيّة تتعدى القصص الفرديّة، لتصل إلى رسائل أعمق حول الإنسان وعلاقته بالعطاء والحب.
من هنا يأتي العنوان ليؤكد على فكرة "الطِيب" الذي يعبّر عن الحب والتضحية. لكن الرواية تنتهي بجملة مشحونة بالتساؤل: "ولماذا لا يفوح عطرنا ناردينًا؟"، لتثير فينا التفكير حول ما إذا كان هذا العطاء والتضحية قد قضيا أو لم يُقدّرا كما ينبغي.
من خلال هذه العدسة، يمكننا قراءة جميع القصص التي تسردها الرواية، حيث يُنظر إلى الناردين كونه رمزًا للروح الطيّبة والوفاء، والأمل المفقود أحيانًا في زحام الحياة المعاصرة.

تالا

تالا، الشخصيّة المحوريّة في القصة الأولى، تمثّل نموذجًا حيًّا للمرأة التي تتأرجح بين الأمل والمأساة. تنعكس حياتها عبر المأساة الشخصيّة التي مرّت بها عندما تخلّى عنها زوجها إثر مراهقة متأخرة، وهي في أشدّ الحاجة إليهِ.
تالا ليست مجرّد امرأة تعاني من خيانة زوجها، أو سذاجة اختياراتها العاطفيّة، بل هي رمز للمرأة التي تصطدم بمعايير مجتمعيّة صارمة، حتى وإن كانت الضحيّة الحقيقيّة. إنها تمثل المرأة التي تعيش وسط عالمٍ ينهشها ويجعلها موضع الاتهام عندما تفشل علاقتها الزوجيّة، حيث يُحكم عليها بأنها المُقصّرة.
تالا ليست ساذجة كما يبدو للوهلة الأولى، بل هي تجسيد للمرأة التي تنجرف نحو الحب أملًا في تعويض ما افتقدته. ولكن، عند اكتشافها لخيانة أمين، تتحوّل تالا من امرأة عاشقة إلى إنسانة تتحدى الظروف التي جعلتها ضحيّة، وتعكس صراعًا داخليًا حول العاطفة والخيانة، وهو جوهر القصة.
في ضوء العنوان "تفوحُ ناردينًا"، يمكننا أن نرى أن عطر تالا لم يَفُحْ كالناردين، لأنها لم تجد بعد الحب النقيّ الذي تستحقه، فهي محاصرة بين خيانة الماضي وذكريات حب غير مكتمل. تالا تمثّل جرحًا مفتوحًا لا يجد شفاءه.

الداندي الغيور

في قصة "الداندي الغيور"، نجد أن شخصيّة بهاء تمثل التناقض بين القناع الخارجي والقلب المكسور في داخله. بهاء، الرجل الوسيم، يبدو للآخرين قويًا ومتماسكًا، ولكنه يحمل في أعماقه ألمًا قديمًا نابعًا من حادثة تحرّش تعرّض لها في طفولته.
تشكّل هذه الحادثة محورًا نفسيًا دقيقًا لتحليل تصرفاته وسلوكه مع النساء لاحقًا. تمسّكت الكاتبة بهذا الخيط النفسيّ بقوّة، وأظهرت كيف أن الجراح النفسيّة التي لا تُشفى يمكن أن تتحوّل إلى مصدر للألم المتواصل وانعكاس على سلوكيّات الشخص في جميع مراحل حياته.
شخصية أخرى في هذه القصة، هي "خود"، أو "السيدة الجميلة"، زوجة بهاء. تضيفُ خود بُعدًا جديدًا لفهم تعقيدات العلاقات الشخصيّة في الرواية، حيث تمثّل نموذجًا للمرأة التي تعيش تحت وطأة الصراع الداخلي والخارجي، وتعكس واقعًا معقدًا من التناقضات بين ما يظهره الخارج، وما يخفيه الباطن.

تبدو خود، التي وُصفت بالجمال الباهر، وكأنها تعيش حياة مثالية كزوجة رجل وسيم ومحبوب مثل بهاء. ولكن خلف هذا المظهر المثالي، تدرك أن زواجها لا يعتمد على الحب الحقيقي، بل هو نوع من الوهم الاجتماعي القائم على الجمال والمظاهر الخارجيّة.
تعيش خود في ظل خيانات بهاء المتواصلة، وتتحمل معاناة داخلية عميقة في صمت، مما يجعل حياتها خالية من المشاعر الحقيقية.
بهاء، الذي يعاني من شعور دائم بالنقص، يظل يبحث عن السعادة، ويتنقل بين العلاقات بحثًا عن إثبات لذاته المهشّمة، من دون أن يسعى لتحقيق السلام الداخلي في علاقته الزوجيّة.
تتجلى الرمزيّة في هذه القصة عندما نربطها أيضًا بالعنوان "تفوحُ ناردينًا"، حيث نجد أن بهاء غير قادرٍ على أن يجعل عطره النارديني يفوح. الجرح الذي يحمله داخله يمنعه من تحقيق السلام الداخلي، ليبقى محبوسًا في دائرة لا تنتهي من العلاقات الزائفة والتعويضات النفسية الفارغة.

جزء من السماء على الأرض – الراهبة فرح

تُقدّم الرواية شخصيّة تحمل نقاءً فريدًا يعكس التضحية الروحيّة في مقابل التجارب الدنيويّة في القصص الأخرى، وتُظهر جمالية الحياة الإنسانيّة. فرح، التي كرّست حياتها لخدمة الله، ترسم صورة إنسانيّة ملهمة للصفاء الروحيّ والعطاء غير المشروط، وانتقالها من العالم الخارجي إلى الدير يُظهر جمالية الحياة المتقشّفة، ما يعكس عمق الفكرة الأساسيّة في الرواية، في عطاء لا ينتظر من مقابل.
تُحلل هذه الشخصيّة من منظور رمزيّة الناردين، حيث تعزّز الروحيّة والعطر النقي الذي يفوح من أفعال الخير والإيثار. كما أن فرح تختار طريقًا مغايرًا للشخصيّات الأخرى التي تسعى وراء السعادة، أو الحب المادي.
حياتها هي تضحية يوميّة من العطاء من خلال خدمة الآخرين، مما يجعلها تعيش في حالة دائمة من الصفاء الروحي.
تتجلى الرمزية في القصة بوضوح في المشهد التي تفتح فيه فرح خزانة غرفتها في الدير، حيث تختار المنديل الحريري الصغير، متذكرة خاتمها المطاطي الأسود من صديق طفولتها. هذا المشهد البسيط يعكس التزامها العميق بالعطاء والتضحية، حيث تختار مسارًا يعيد تعريف الحب القديم. على الرغم من أن الخاتم المطاطي لا يحمل قيمة مادية، إلا أنه يحمل في داخله رمزية الحب الطاهر غير المشروط.
في هذه اللحظة، يبدو أن العطر الذي يفوح من حياة فرح هو الأعمق والأصدق، وهو ما يجعلها في تناقضٍ مباشرٍ مع الشخصيات الأخرى في الرواية، التي تعاني من الألم الداخلي والصراع النفسي.

الفيلسوف طفل المجتمع المدلل
الفيلسوف، الشخصيّة المركزية في القصة الرابعة، يمثل الحالم الذي يعيش بين الواقع والفكر، متسائلًا باستمرار عن معنى الوجود والهدف من الحياة. إنه يختلف عن بقيّة الشخصيّات في الرواية، حيث يكون مشغولًا بالقضايا الفكرية، بالإضافة إلى الصراع العاطفي الذي عاشه في خياله مع نهى.
يعيش الفيلسوف في خيبة أمل عاطفية، حيث كان يتمنى الزواج من نهى، لكن رفض والدها أوقعه في حالة من الحيرة. يكشف هذا الجانب العاطفي عن هشاشة شخصيّة الفيلسوف، الذي اعتاد الحصول على كل شيء من دون جهد يُذكر، لكنه في هذه المرة واجه واقعًا قاسيًا حينما أدرك أن المال والرفاهية لا يمكنهما شراء الحب، أو التحكّم في مصائر القلوب.
الصدمة التي تلقاها من رفض والد نهى لم تكن مجرد رفض للزواج، بل كانت أيضًا رفضًا لتلك الصورة المثالية التي رسمها لنفسه في مجتمع اعتاد أن يعامله على أنه طفل كبير مدلل.
نهى كانت تمثل له الحلم العاطفي، ولكن والدها حجبه عنه تحت ذريعة إكمال دراستها في الخارج، بينما الحقيقة المؤلمة كانت أن نهى تعاني من مشكلة مرضيّة في القلب، وهو ما لم يرغب والداها في كشفه. هذا التضارب بين الحقيقة التي لم تُقل والذريعة التي قُدّمت جعل الفيلسوف يعيش حالة من الحيرة والتساؤل حول معنى الحب والعلاقة بين الحقيقة والخيال.
في هذه القصة، يمثّل العطر النارديني الحلم الذي لا يتحقق، والرغبة في الحريّة الفكريّة والوجوديّة التي تظلّ محاصرة بقواعد المجتمع.
تجمع هذه القصة بين شخصيتين متناقضتين في مشهد يلخّص كثيرًا من جوانب الرواية. الدكتور جميل، حديث التخرّج، يقرر أن يعمل لمدّة ثلاثة أشهر نادلًا في مقهى كركر، بعد أن أخذ مباركة عائلته. يمثّل الدكتور العقلانيّة والنخب الفكريّة، وعلى الرغم من معرفته العميقة وتحليلاته للحياة، يبدو غير قادر على الوصول إلى السعادة التي يبحث عنها.
في المقابل، نجد النادل جميل، الملّقب بـ"أبو طويلة" بسبب طوله، يمثّل البساطة والتفاصيل الصغيرة التي تكوّن حياة الإنسان البسيط، لكنه سعيد بما لديه.
تثير هذه المقابلة بين الشخصيتين تساؤلات حول ما إذا كانت السعادة تكمن في التعقيد، أو البساطة، وهل يجب على الإنسان أن يبحث عن المعاني الأعمق في الحياة ليحقق السلام النفسي، أم أن السعادة تكمن في الاستمتاع بما هو متاح بالفعل؟
يمثل المقهى، بوصفهِ مكانًا يجمع شخصيّات قصص هذه الرواية، عالمًا مصغّرًا حيث تتقاطع الطبقات الاجتماعيّة والفكرية، وتظهر العلاقات الإنسانيّة في شكلها النقي. يرمز "كركر" إلى مكان التلاقي بين مختلف فئات المجتمع، وهو المكان الذي تتبدد فيه الفروقات الخارجية بين الناس. يجمع المقهى بين الدكتور ــ النادل جميل، الفيلسوف، والراهبة سيستر فرح، والسيدة الجميلة وطفلها، والرجل الوسيم الأنيق الذي انضم إليهما، مما يكمل المشهد وكأن الكاتبة تدعونا للتأمل في أنّ الحياة قد تتجلى في الأماكن البسيطة، حيث يمكن للعطر أن يفوح ناردينًا من بين التفاصيل الصغيرة التي نعيشها يوميًّا.
في نهاية الرواية، يبقى سؤال "لماذا لا يفوح عطرنا ناردينًا؟" معلّقًا في ذهن القارئ، مما يعزز الشعور بأن العطر الحقيقي هو الذي ينبع من العطاء الحقيقي، سواء أكان ذلك من خلال التضحيّة الروحيّة كما في حياة فرح، أو من خلال السعادة البسيطة كما يعيشها جميل.

رُلى هاني السماعين: صحافية وكاتبة أردنية مختصة في شؤون حوار الأديان/ حوار الثقافات والسلم المجتمعي.
حصلت السماعين على لقب صانعة سلام/ قائد سلام لعام 2023 من قِبل وحدة ثقافة السلام التابعة لمؤسسة العالم للسلام الأميركية، ومن ثم مستشار في وحدة ثقافة السلام في الشرق الأوسط.
تسلمت منصب رئيس فخري لمنظمة "أكاديمية جائزة المرأة العالمية"، وقد تمّ اختيارها لهذا المنصب الرفيع من بين القيادات النسائية العالمية لعام 2022.
السماعين مختصة في صحافة السلام، ومتحدثة محلية وعالمية بموضوع نشر ثقافة السلام، والسلم المجتمعي، ومحاربة التطرف والعنف والكراهية ومكافحة الإرهاب.

*كاتب ومترجم ومصوّر عراقي يقيم في عمّان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.