ما يزال عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسريًا في سورية لا يعرف عن مصيرهم شيئًا، ويقبع غالبيتهم في سجون ومعتقلات نظام الأسد، حيث تشكل جريمتا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري معلمين بارزين لهذا النظام، الذي دأب على ارتكابهما منذ تأسيسه على يد حافظ الأسد بعد الانقلاب الذي قاده في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1970، وورثه ابنه بشار بعد وفاته في يونيو/ حزيران عام 2000، وتصنفان في خانة الجرائم ذات الأثر المديد والمتعدي، التي لا تقتصر آثارها على من وقع عليه الانتهاك، بل تمتد إلى أفراد عائلته وذويه، ذلك أن أسر المعتقلين تعسفًا والمختفين قسريًا تتعرض لعقوبات إضافية من طرف النظام.
وقد تفاقمت قضية المعتقلين والمغيبين قسريًا بعد الثورة السورية في مارس/ آذار عام 2011، لأن النظام استخدم الاعتقال والإخفاء القسري كأحد الأسلحة التي أراد من خلالها كسر إرادة المتظاهرين والمحتجين ضده، ومحاولة منع انتشار المظاهرات الاحتجاجية وتوسعها. وقد قامت منظمات مدنية، إلى جانب نشطاء سوريين، بالعمل على توثيق الانتهاكات بحق السوريين. وفي هذا السياق صدر كتاب "معتقلون ومغيبون: الفن يوثّق والأرشيف يتحدّث" (بيروت، دار رياض الريس)، وهو ثمرة عمل جماعي لفريق مشروع " ذاكرة إبداعية للثورة السورية"، بالتزامن مع اليوم العالمي للمفقودين والمخفيّين قسريًا، الذي صادف في 30 أغسطس/ آب الماضي، حيث يتتبّع مؤلفوه ذاكرة السوريين عبر سنوات الثورة والحرب، من خلال عرض نتاجاتهم الفنية والثقافية، التي تناولت قضية الاعتقال والتغييب القسري بوصفها أهم المشتركات في وجدان غالبية السوريين، فضلًا عن كونها أحد أهم الملفات الإنسانية، ذات الارهاصات والامتدادات السياسية والحقوقيّة في القضيّة السورية، والتي بدأت تُترجم بملاحقات ودعاوى قضائية في بلدان اللجوء السوري، ضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، وعلى رأسهم مسؤولون في نظام الأسد، إضافة إلى مرتكبي الانتهاكات في صفوف جميع قوى الأمر الواقع الأخرى.
يأتي الكتاب استكمالًا لما بدأه فريق مشروع "ذاكرة إبداعية للثورة السورية" في التعامل مع الأرشيف والتوثيق، وذلك عبر تقديم مشروعات يمكنها تفعيل وتوظيف عملية الأرشفة وفق طرق متنوعة، واتباع آليات مختلفة، إذ سبق أن أصدر في عام 2017 كتاب "قصة مكان قصة إنسان: بدايات الثورة السورية 2011-2015"، الذي ضم نصوصًا تعريفية ترصد المبادرات والفعاليات التي رافقت بدايات انطلاق الثورة السورية، فيما يحاول الكتاب الجديد رصد حضور قضية الاعتقال والتغييب القسري في المجتمع السوري عمومًا، وفي أوساط الفن والثقافة بشكل خاص، وانعكاسها في الإنتاج الإبداعي والثقافي والحراك المجتمعي، وذلك عبر استعراض سرديات السنوات العشر التي مضت، وتوثيق الأحداث الأساسية والتحولات المتعلقة بالاعتقال والتغييب، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، وما يستتبعها من أحداث بحسب المكان والزمان على الجغرافية السورية، مع عرض الإنتاج الإبداعي المتعلق بالمراحل الزمنية، من خلال الأعمال الفنية والأدبية والأفلام السينمائية التي أنجزت في كل مرحلة. وعليه، يتضمن الكتاب عشرة فصول، يتناول كل فصل عامًا واحدًا، ويقدم فيه ملخصًا لأهم أحداث العام والأعمال والنتاجات التي صدرت خلاله، بدءًا من عام 2011 حتى نهاية 2020. وتوزع الكتاب على قسمين، أولهما شمل عرضًا بصريًا من الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية مثل اللافتات، والغرافيتي، والغناء الشعبي، ولوحات فن تشكيلي، وكتب ومنشورات، وأفلام… إلخ. وبلغ عددها أكثر من 1565 عملًا. أما القسم الثاني، فيتضمن دليل مشروع "معتقلون ومغيَّبون"، ويجمع كل أنواع المبادرات المختصة، أو التي تهتم بقضيتي الاعتقال والتغييب، وبلغ عددها 155 مبادرة، وشملت مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحملات مناصرَة، ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي.
يستند الكتاب إلى ما وثّقته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في تقاريرها بخصوص عدد المعتقلين تعسفيًا في سورية منذ آذار/ مارس 2011 حتى آذار/ مارس 2024، وبلغ ما لا يقل عن مئة وستّة وخمسين ألف وسبعمئة وخمسة وسبعين شخصًا، فيما وصل عدد ضحايا التعذيب في سجون نظام الأسد خلال الفترة نفسها إلى ما لا يقلّ عن خمسة عشر ألف وثلاثمئة وثلاثة وتسعين شخصًا. أمّا عدد المغيبين قسريًا حتى 30 آب/ أغسطس 2023، فلا يقلّ عن مئة واثني عشر ألف وسبعمئة وثلاثة عشر شخصًا، معظمهم على يد نظام الأسد، إضافة إلى قوى الأمر الواقع المسيطرة على مناطق في الشمال السوري.
الملاحظ هو أن التوثيق جرى وفق ما شهده مجالا الفن والثقافة، من خلال رصد أعمال مبدعين اعتقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا لأنهم تبنوا مواقف معارِضة للنظام، وكذلك رصد أعمال فنية وإبداعية تناولت الاعتقالات التي طاولت ناشطين وعامة السوريين. ولا يقتصر الأمر على عرض الأعمال الفنّية والإبداعية والثقافية، حيث يرصد الكتاب 40 عملًا إبداعيًا منذ انطلاق الثورة السورية في منتصف مارس/ آذار من عام 2011 وحتى نهايته، توزعت بين الموسيقى والغناء الفن التشكيلي، وتناولت قضايا الاعتقال والسجن والحرية، مثل أغنية "يا حيف" للفنان سميح شقير، وأغنية "بدنا نعبي الزنزانات"، لفرقة "أبطال موسكو الأقوياء"، وسواها.
ومع تصاعد الحرب التي شنها النظام على المحتجين في عام 2012، تزايدت وتيرة اعتقال المثقفين والمثقفات والفنانين والفنانات، ووصل عدد الأعمال الإبداعية خلاله إلى 125 عملًا، توزعت على أنواع متعددة من الفنون، وتناولت عددًا من المعتقلين، مثل عمل سلام النابلسي عن كاتب السيناريو عدنان الزراعي، وعمل فنان الكاريكاتير موفق قات عن فنان الرسوم المتحركة نزار الحمد، وعمل الفنان التشكيلي عمار خطاب عن المونتير محمد حجازي. كما شهد هذا العام ظهور أعمال منشورة، فكرية وروايات أدبية، تناولت قضايا تجارب الاعتقال في عهد الأسد الأب. ونظم ناشطون في عام 2013، حملات تناولت الاعتقال والتغييب. وبلغ عدد الأعمال الإبداعية في هذا العام 155 عملًا، تناولت مسألة الخطف، التي طاولت إعلاميين وفنانين ورجال دين. كما صدرت كتب وروايات وأفلام تسجيلية تناولت الاعتقال والتغييب.
وشهد عام 2014 انشقاق المصور العسكري الملقب بـ "قيصر"، عن جيش النظام، وقام بتهريب العشرات من الأقراص الصلبة، التي تحتوي صورًا لآلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في معتقلات النظام. وبلغ عدد الأعمال الإبداعية في هذا العام 125 عملًا، وتميز بغزارة الإنتاج السينمائي، فظهرت سبعة أفلام، بعضها عن شهادات ناجين من المعتقلات، فيما تناول بعضها الآخر الممارسات وطرق التعذيب في المعتقلات. كما تميز عام 2015، بإنتاجه أكبر عدد من الشهادات، حيث جرى توثيق 35 شهادة، تعود 11 منها لناجيات من معتقلات النظام، أو لأمهات معتقلين روين حكايتهن بأنفسهن.
وشهد عام 2016 اعتقال الشاعر بشير العاني وإعدامه. وبلغ عدد الأعمال الإبداعية فيه 144 عملًا، تميزت بغزارة الأعمال الأدبية التي تناولت وقائع وظروف الاعتقال والمعتقلين وطرق تعذيبهم مثل رواية "الخائفون"، للروائية ديمة ونوس، ورواية "كان اسمها سورية"، للروائية ماجدولين الرفاعي، وديوان الشعر "ميزان الأذى"، للشاعر جولان حاجي، وكتاب "بدكن حرية" للكاتب رمزي العنزي. وجرى في عام 2017 توثيق 85 عملًا إبداعيًا، حيث تناولت عدة كتب تجربة الاعتقال، وأنتج خلال هذا العام فيديو كاريكاتير بعنوان "سجن صيدنايا: المسلخ البشري"، للمخرج عبد المهيمن بدوي، وفيلم "لأولئك المنسيين في المسالخ الذين لا تذكرهم إلا مع التقارير الدولية"، لمؤسسة الإنتاج ضجيج. وتناول فيلم المخرجة ياسمين فضة بعنوان "المختفون" قصة اختفاء المهندس "باسل خرطبيل"، عبر شهادات زوجته وأفراد عائلته والمقربين منه. وقام جابر بكر في فيلمه "معسكر اعتقال الغوطة الشرقية"، بإجراء مقارنة بين معاناة المعتقلين في زنازين النظام ومعاناة المحاصرين داخل الغوطة.
وفي عام 2018، بلغ عدد الأعمال الفنية الإبداعية 139 عملًا، وتميزت بغزارة الأعمال الروائية، وأعمال أخرى تحدثت عن الاختفاء القسري مثل كتاب "خيالات المختفين"، من إعداد منظمة دولتي ومنظمة النساء الآن، إلى جانب إصدار عدد من الأعمال الشعرية، مثل "لم ينتبه لموتك أحد"، للشاعر رامي العاشق، بالإضافة إلى أربعة أفلام.
وفي عام 2019 جرى تنفيذ 75 عملًا لإبداعيًا، وتميز هذا العام بغزارة المنشورات وأفلام الفيديو والأفلام التسجيلية، مثل فيلم "فرجة"، للمخرجة لينا شقير، وفيلم "سر حبات المطر"، للمخرجة ديمة نشاوي، وفيديو "لون الغياب"، للفنانة ميريام سلامة. وأخيرًا، جرى توثيق 109 أعمال إبداعية في 2020، توزعت بين الأعمال الروائية المتعلقة بموضوع الاعتقال، إضافة إلى شهادات وتجارب وأفلام مثل فيلم "عيوني"، للمخرجة ياسمين فضة، وفيلم "سفر الخروج" لصحيفة حبر.
في أهمية التوثيق
يظهر الكتاب أن الفنون واكبت الثورة السورية منذ البداية مع أطفال درعا وكتابتهم على جدران مدرستهم "إجاك الدور يا دكتور"، ثم تطورت مع اللافتات والشعارات التي رفعها المحتجون في تظاهراتهم السلمية، والأهازيج، ورسومات الجدران، والغرافيتي، وأعمال وكتابات الفنانين والمثقفين. ولعل أهمية الكتاب تكمن في التعرف على ما جرى في سورية خلال فترة عشر سنوات، من خلال البحث والتنقيب في المصادر، وجمعها وأرشفتها، بغية توثيق فنون الثورة التي تناولت المعتقلين والمغيبين قسريًا، ومراكمة أرشيف هائل، يحفظ أعمال الفنانين، بوصفها وثيقة على مواكبة الفن لوقائع الثورة. إضافة إلى أنه يشكل ملفًا هامًا على المستويين السياسي والحقوقي. كما يظهر الكتاب الحاجة إلى التوثيق وبناء أرشيف واسع للتاريخ، لأن الذاكرة التاريخية في سورية وسواها تتطلب وجود هذا الأرشيف، فمن خلاله يستطيع الأفراد كما المؤسسات تحويل الذاكرة إلى قوة فاعلة في الحاضر، فالتوثيق يسعف الناس من فقدان الذاكرة، ويسهم في بناء الوعي التاريخي.