يوسف سامي اليوسف، وبعيدا عن التنظير النقدي، قدّم بعضا من سيرة حياته في قريته "لوبيا" في كتابه الهام والبديع "تلك الأيام" (منشورات دار كنعان – دمشق – 2005) وفيه عودة إلى البدايات الأولى لنشأته هناك في أرض أبيه وأجداده قبل عصف النكبة الكبرى عام 1948، والتي عاشها في عمر العاشرة أي في مرحلة وعي كان يشاهد ويسمع ويتابع تفاصيل المأساة، ومعها ما تلاها من فصول التهجير القسري والتشرد بين لبنان أولا ودمشق بعد ذلك.
في "تلك الأيام" يستعيد يوسف سامي اليوسف صورة فلسطين تحت الانتداب البريطاني، أي في الحالة التاريخية التي جرى فيها تطويع البلاد لتحقيق وعد البريطاني بلفور للصهيوني وايزمان على النحو الذي شهده العالم بعد ذلك عام 1948. نحن أمام استرجاع ينهل من ذاكرة صبي كان في العاشرة من عمره أي في مرحلة التعرف على العالم والحياة من حوله وهو أيضا العمر الزمني لتفتح الوعي على المعرفة والتعليم في صفوف المرحلة الإبتدائية وتكوين صداقات أولى ستظل في الذاكرة بعد ذلك كعلامات مضيئة تؤشر إلى الزمن الجميل الضائع.
عن فلسطين التي تتجسد في "لوبيا" قرية يوسف سامي اليوسف يقول الكاتب: "عندما ولدت في العام الثامن والثلاثين وربما في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، كانت مفرزة من جيش الإنكليز تتمركز داخل "لوبيا"، إذ لقد استأجروا بيتا في حارتنا، التي كان اسمها حارة الجرينة (بضم ففتح) وهي الواقعة إلى الشرق من الجامع، واتخذ الجنود ذلك البيت بمنزلة معسكر لهم تنطلق منه دورياتهم في الليل والنهار. وقد فرضوا منع التجول على القرية منذ غروب الشمس وحتى بزوغها، كما فرضوا على جميع البيوت ألا تشعل نارا أو نورا خلال الليل، وكانت هذه حال سبعمائة قرية في فلسطين".
يمسك يوسف سامي اليوسف بخيط السرد فنتخيله يمسك خيط الدم خصوصا حين يروي لنا كيف أقدم جنود الانتداب على ارتكاب مجزرة في أحد البيوت لأن أهل البيت أشعلوا سراجا ضئيل الضوء خلال ولادة طفل قتل برصاصهم مع أمه في لحظة ولادته بدون أن يرى العالم في تلك الجريمة أي شبهة إرهاب أو جريمة ضد الإنسانية. هنا بالذات يبدو سرد الكاتب للأحداث الدامية مغمسا بدهشة الطفولة التي كانت تبحث في الأحداث وتحاول تفسيرها أو العثور على أسباب مقنعة لها ولكن من دون جدوى.
الجزء الأبرز والأهم من الكتاب يفرده الكاتب لرحلة اللجوء القاسية التي قامت بها عائلته إلى جنوب لبنان حيث "نمنا تلك الليلة في العراء عند الحافة الجنوبية لبركة الرميش وفي الصباح رحلنا مشيًا على الأقدام إلى بلدة قريبة اسمها بنت جبيل ولكننا لم نقم فيها، بل تابعنا سيرنا حتى وصلنا الى قرية اسمها بيت ياحون وبالقرب من جدار أو ربما بناء مهجور وضعنا أمتعتنا القليلة وجلسنا على الأرض وجمعنا شيئًا من الحطب وطبخنا المجدرة وبقينا هناك لبضع ليال وكان معنا بيت جدي كلهم وكذلك خالتي ذيبة وزوجها سعيد". يحفظ يوسف سامي اليوسف تفاصيل الرحلة إلى بعلبك بدقة ويستعيد معها عوالم إنسانية عكست بأشكال متعددة صور الحياة في تلك الأيام وما مر به فلسطينيو النكبة من عذابات إنسانية كبرى خصوصا أنه في سياق تفاصيل تلك "الرحلة" الصعبة يسرد أشياء عن مذابح ارتكبها جيش العدو ضد أهالي قرى وبلدات فلسطينية عديدة راح ضحيتها العشرات ورواية الكاتب لتلك الأحداث شهادة كاملة ودقيقة عن كثير مما حدث من خلال حدقتي فتى كان يومها في العاشرة من عمره لم ينس أسماء القرى الفلسطينية واللبنانية التي مروا بها قبل أن يصلوا إلى مدينة بعلبك وتبدأ فيها حياة لجوئهم بعيدا عن فلسطين ومنها بعد ذلك إلى دمشق التي عاش فيها عمره كله وأنتج فيها كتبه التي نعرفها والتي رفعته إلى مكانة هامة بين النقاد، فيما برز كأحد أهم وأنجح مدرسي اللغة الإنكليزية في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- "أونروا" على مدى عقود ثلاثة وتزيد.
"تلك الأيام" أحد أهم كتب السيرة الفلسطينية وصفحاته سرد مشوق وإن يكن قاسيًا للأيام الأخيرة في فلسطين وبالذات في قرية "لوبيا" وأعتقد جازما أن "تلك الأيام" الدامية والعاصفة بالبؤس والقسوة ظلت في خلفية وعي الناقد الكبير بل لا أغالي حين أقول إنها ساهمت في تشكيل ذائقته الرهيفة التي جعلته واحدا من أبرز النقاد العرب وبالذات نقاد الشعر، ولا أجد غرابة بين إرثه الإنساني هذا وبعض أبرز ما أنتجه من نقد خصوصا كتابه الهام "ما الشعر العظيم" ودراسته المرموقة "رعشة المأساة" إذ في كليهما وعي عميق لمدلولات النصوص وتأمل حصيف في ما وراء سطورها، ثم إن كتابه هذا يستعيد الطبيعي والمألوف لحياة الفلسطيني على أرض وطنه في ذلك الزمن الذي صار اليوم بعيدا وموغلا في الأحزان والمآسي الكبرى، وهي استعادة تشير إلى أمل ما يلوح من بعيد ويصبح بالأدب واللغة الأدبية أجمل وأكثر استحقاقا للسعي ورائه.