هل يكفي أن يغادر الإنسان وطنه ليتوازن؟ وماذا عن جراح المكان الأول! وبعيدًا عن السؤال
المعتاد حول الهويّة. ما هي التشوهات التي يتركها ضياع الانسجام بين الجسد والروح، وإذا انعدمت إمكانية التحقق الحرّ؛ بمعنى آخر إذا أضعنا كرة الصوف فمن يخرجنا من متاهة الذات ومن يدلنا على الطريق؟
سيجيب أحدهم: لذلك وجدت السماء، ويردّ آخر: من هناك انبثق العنف، بينما يتدخل ثالث، ليكن كل حي ما أراد! ويصرخ رابع، هل شاهدتم أرنبًا ظنّ نفسه عصفورًا، أو رأيتم فيلًا يحسبُ نفسه زرافة!
الإنسان يفعل كل ذلك، إنّه الكائن الوحيد الذي يعيش الهوية كتجربة روحيّة عميقة، وهو الوحيد الذي يحمل معه صخرته أينما حلّ؛ كما أنّه من بين كل الكائنات يبحث عن السعادة ولا يجدها! ويترنّم بالحرية ولا يعرفها، وينبذ العبوديّة ويستمرئها. لذلك أن يتطرق عمل روائيّ أو فلسفيّ للهوية ــ يعني في ما يعنيه ــ أن تجدَ نفسك عالقًا في متاهة المينوتور بلا كرة صوف هذه المرة!
وهذا ما تختاره الكاتبة السورية روزا ياسين حسن، التي تفتتح روايتها "بحثًا عن كرة الصوف" بحكاية المينوتور في المتاهة، وهي تروي قصة بطل إغريقي يضيق ذرعـًا بالجزية التي فرضها الملك على كريت لإطعام وحش له جسم إنسان ورأس ثور. وعلى طريقة شهرزاد التي أرادت افتداء بنات جنسها، أراد ثيسيوس حماية الشبان والعذارى الذين يضحي الملك بهم، فيتنكر كأضحية، ويدخل المتاهة التي لا يخرج أحد منها عادة، ويقتل الوحش، وسيتمكن من الخروج بمساعدة ابنة الملك التي رمت له كرة من الصوف.
لكن هذه الكرة التي دلّت البطل الإغريقي على طريقه في الأسطورة هي ما تفتقده الشخصيات في الرواية التي قد تبدو للقارئ المتعجل رواية عن قضايا ازدواجية الجنسية ومسائل الجندر فقط. لكن التأمل الهادئ في النص يفتح قوس السؤال على اتساعه. ما يضع الجواب في موقعٍ حَرِج، إذ يتجاوز العلاقة المُلتبسة بين المكان الأوّل والمنفى إلى أزمات الذات التي تحمل جراحها معها للفضاء الجديد، وتتيح للقارئ مراقبة الصراع الذي ينجم عن ذلك، وأخيرًا حلّ الصراع عبر مهربٍ جديد!
قبل ذلك، نتذكر بطل الطيب صالح، مصطفى سعيد*، ألم يحمل ديكور غرفته معه إلى لندن، ويزينها بالبخور، ويجعل منها عالمًا شرقيًّا مصغّرًا فتَنَ الأوروبيّات الشقراوات! ثمّ ألم ينتهِ بجريمة قتل! وماذا حدث لكل الثقافة التي أعادها معه إلى قرية صغيرة من قرى السودان وأغلق عليها الغرفة! لماذا جعلَ الحريق كل الكتب رمادًا، كما التهم نهر النيل البطل! وماذا أراد أن يقول باختياره هذا المصير للكتب وللبطل!
وبالعودة إلى روزا ياسين حسن، فهي تنسج حكايات شخوصها العالقين بين المكان الأول، وهو الذي تتشكّل فيه رؤى الإنسان وتصوّراته وتجاربه، والمكان الجديد ــ وهو هنا مدينة هامبورغ الألمانية التي تدور فيها الشخصيات ضمن حيّزٍ مكانيّ واحد ــ فما إن تظهر شخصّية حتى تتسلّم زمام الحكي بالتناوب مع السارد العليم في تقنية تعرف بالسرد المتقطع.
فالمكان الأول المنبوذ يبدو كفضاء ضّيق وقاتم، إنّه المُعتقل عند عيسى النديم الذي يعاني أزمة جسديّة، وهو بالنسبة لـ يحيي مكان تنهال عليه القذائف، وعند سرمد عالم عنيف قد يؤذيه بسبب اختلافه الجندري، وبالنسبة لمصطفى، أو ستيف، فهو المجتمع المريض بالنفاق.
إنّ سرمد وصديقه مصطفى، أو ستيف، كانا يعتقدان أنّهما بتغيير المكان سوف يحظيان بفضاء مختلف؛ فالأول أتى إلى ألمانيا لأن "هنالك من قال له إن حصوله على لجوء إنساني في ألمانيا أمر سهل باعتباره مضطهدًا جنسيًّا في بلاده"؛ لكنه يتعرض للتحرّش والإهانة من اللاّجئين القادمين من بلاد وجنسيات مختلفة؛ والذين يقيمون معه في الكامب. كان يعتقد أنه سيجد الحبّ في المكان الجديد، لكن ما حدث أيضًا هو أن حبيبه سئمه، وتخلى عنه. كما تعامل معه الرجال الآخرين كبغي لا قيمة لها. وبين وقت وآخر كان يتعرّض لتهديد مالك النزل برميه في الشارع إن لم يسدّد ما عليه من ديون.
تتأرجح الشخصيّات في حالة توتر، فينفتح قوس السؤال على أقصاه، وتُنبئ الأفعال عن جراح الماضي، وهي ليست جسديّة فقط. فإذا كانت قيم المكان الأوّل تفرض على أحدهم أن يعيش حياته الداخلّية سرًّا، فإن الفضاء الجديد لا يبدو مرحبًّا بهم. وسرمد الذي يحمل آثار الرفض في ذاكرته، واجه الرفض برفضٍ أشّد. حتى صار يتحاشى لغته ويكرهها، لكونه يعتقد أن "كلمات الحب الحميمة بالعربية صارت أقرب إلى شتائم. لا يقولها إلاّ زبائنه المقرفون ومتحرّشو الطرقات: بشع كتير أن تتحول لغتك الأم إلى لغة تمارس عنفًا معك، تحتقرك وتذلّك"؛ ما يفاقم أزمته الداخليّة عوضًا عن حلِّها، إذ قال للمحقق "أريد أن أكون أنا، من دون أن أشعر بأني أرتكب إثمًا بحقِّ عائلتي". وكان يعتقد أنّه في المكان الجديد يستطيع أن يحسم هذا الصراع بين أنثى تريد التحقُّق، وجسد ذكوريّ يحمله. وما حدث هو العكس.
أما مصطفى، أو ستيف، فقد كان أكثر توازنًا، لأنه يدرك أن تغيير المكان لا يعني ضرورة تغيير الأفكار، فهو يعمل في النهار "كأي رجل ملتحٍ و(شديد)، في مستودع الأدويّة، ولا يمكنه أن يسمح لأيّ تفصيل صغير يشي بحقيقته أن يظهره أمام زملاء العمل، حتى لو كانت ثياب صديقه الآتي ليزوره".
ولا يتوقّف السؤال عند المسألة الجنسيّة، بل يمتد إلى تناول اللباس والمظهر الجسديّ؛ اللذين يعطيان فكرة مهمة عن طريقة تصوّرنا لأنفسنا ونظرتنا لها. فناريمان التي كانت على قناعة بأن الحجاب حريّة شخصّية، وليس مظهرًا يجب أن يفرض علينا؛ قررت أن تتوافق مع معتقدها في ألمانيا، فانفصل عنها زوجها، وانتهى ابنها إلى التزمت الديني. أما ابنتها فقد تحجّبت، وأخذت تحضر دروسًا دينية، وسألتها مرة "هل تعرفين ما عقوبة الفاسقة مثلك".
وبخلاف ذلك، فإن يحيى يتحدى القانون الجديد، ويرفض أن يكون كائنًا مبرمجًا، وهو إذ يقضي ليله في الحانات يصرخ مناديًا أمّه الميتة: "يامو تعي شوفي"، إنه يبدو في صدمة وجدانيّة خصوصًا، وبإدراكه أن ما قد يقتل إنسانًا في بلاده، يمكن أن يفعله إنسان في مكان آخر وكأنه يشرب الماء.
تبدو الشخصّيات مُطالبة بأن تدافع عن نفسها وعن توازنها، أو بمعنى أدق عن هويتها، لكنها لا تجد ما تدافع عنه، كما تفعل ناريمان التي تحاول أن تشرح لعائلتها أن خلعها الحجاب لا يعني أنها فاسقة. وأن تبرِّر في المقابل لمرافقتها الألمانية أنّ الدين الإسلامي ليس دين قتل كما يظهر من بعض الآيات، أو الشاب رودي عمو الذي يشعر بأن مظهره الأنثوي مرفوض ممن حوله. وهو يرى هذا في نظرات الآخرين الذين يعاملونه على أساس شكله الجسديّ، بحيث ينظرون بسخرية إلى القرط الفضيّ المدوّر في أذنه، وإلى شعره الطويل، الذي لمّه إلى الأعلى في كوكينة عسليّة اللون. إضافة إلى الصورة النمطيّة التي تجعل زميله العربي في كورس اللغة يتّهمه ويعيره بكرديته التي هي من صميم هوّيته.
تكشف الأفعال والحوارات عن أزمات الذات، والتي تتخلق عنها هوية عالقة بين هنا وهناك. إذ تبدو الهوية كشيء هجين، وحين تمرّ ناريمان بشارع العرب تختنق، إذ تراهم بجلابياتهم وكأنهم آتون من زمن آخر. كما تتساءل عن السبب الذي يحدّد شكل التعامل مع اللاجئ، أو الغريب، فشارع شتايندام، وهو الذي يسمونه شارع العرب، "يضم خليطًا من الأكراد والعرب والإيرانيين والأفغان الذين يعملون موزعي المخدرات. ألا يكفي البشرية ما تعانيه من الأحكام المسبقة والصور النمطية. الفيتناميّات يعملن في تجميل الأظافر، والأتراك للطعام الشرقي، البولونيون عمال وسكارى، العرب لاجئون وعالة على الدولة الألمانية".
إنّ شكل الهويّة التي تنتج عن الجراح لم يكن سوى متاهة تعيدها إلى نقطة البدء، كما حدث لمن انتهوا إلى التزمت الديني؛ فقاموا بتدوير العنف الذي مارسه الفضاء الأول نحوهم وإعادته للذات ولعائلاتهم ومعارفهم؛ وهم وقد حملوا صخرتهم فوق قوارب اللجوء، ونقلوا فضاءهم الأول بكل مساوئه ومآسيه دخلوا في اشتباك مع الذاكرة؛ ما انعكس توترًا وعنفًا وانسحابيّه وعزلة.
بشرٌ قدموا من بلاد دمرها العنف، ترافقهم تصوراتهم وآلامهم وآمالهم وبديهّياتهم المعطوبة ومسلّماتهم منتهية الصلاحيّة. وهم إذ حاولوا البحث عن باب للمتاهة، لم يعدموا وسيلة: إنّها الماريجوانا عند يحيى، الذي شعر بقدرته على التمرد الذي حرم منه في بلاده. وتهويمات الروحانيّات عند كندة التي امتلأت بعلم الطاقة؛ لأنّها تريد أن تتخلّص من الأنا الفرديّ الذي أصبح عبئًا "تخلصي من الإيغو، أنت لست الإيغو، أنت الكلّ"؛ أو زوجها الذي يصف علاقته بالرسم والألوان بكونها حالة من الطفو ونسيان الذات.
لتنتهي الذوات هنا بخلق هويات بديلة، أو متخيّلة، أو تنكص إلى هويات مريضة بالعنف "فأولئك الذين يحمل معظمهم كل ثقافته إلى هنا، مكثفة مضاعفة ومتطرفة مئات المرات عما هي عليه في أوطانهم!".
إنها رواية عن الضحايا، وللضحايا الذين نجوا من المكان، لكن ليس من الذاكرة. والشيء بالشيء يذكر، وهو أن الجزء الأهم في الأسطورة: عودة البطل ثيسيوس بعد أن قضى على الوحش، لكن غبطة الحب جعلته ينسى اتفاقه مع والده بتبديل أشرعة السفن السوداء إلى بيضاء كرمز لانتصاره، وفي "البعيد كان والده ينتظره لِهفًا. وحين لمحَ الأشرعةَ السوداء ظنّ أنّ الوحش تمكّن من ولده فألقى بنفسه في البحر".
فقتل الوحش لا يعني النجاة، وإذا كان الجسد هويتنا، والسعادة قدرتنا على أن نحقق التماثل بين التصور الذي نحمله عن ذاتنا، وبين مظهرنا، بين ما نحن عليه وما نعيشه، فإن هذا ربما يفسر لماذا أخفق هؤلاء، وعجزوا عن إيجاد كرة الصوف، بل انتهى بعضهم إلى أن يكون المينوتور في المتاهة.
إحالات:
(*) روزا ياسين، حسن. بحثًا عن كرة الصوف، ثلاثة أيام من متاهة المنفى. الطبعة الأولى. بيروت: دار الريس للكتب والنشر، 2022. 288 صفحة.
(*) مصطفى سعيد- بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السوداني الطيب صالح.
* كاتبة سورية.