اشتهر أميتاف غوش، المولود في كُلكتا عام 1956، برواياته المتناولة لقضايا الهوية، والتراث الثقافي، والمستلهمة بالأساس للتاريخ الإنساني، وأهم فتراته، والربط بينها وبين حاضرنا ومشاكلنا المعاصرة، الضاربة بجذورها في أعماق هذا التاريخ. رُشّح أميتاف غوش لجائزة "البوكر" عن روايته "بحر من الخشخاش"، التي وصلت للقائمة القصيرة عام 2008، وهي إحدى روايات ما يعرف بـ"ثلاثية إيبيس"، وهي ثلاثيّته الشهيرة حول تجارة الأفيون في القرن الثامن عشر.
إلى جانب الأعمال الأدبية، وكتب المقالات، فإن للكتابة الفكرية أيضًا نصيبها في أعمال أميتاف غوش، وله فيها إسهامات غزيرة، تتسم بقدر كبير من العمق والانشغال بالهم العام وكذلك بمصير كوكب الأرض والبشر عامة. وهذا يبرر سر اهتمام أميتاف غوش، خاصة في السنوات الأخيرة، بأزمة المناخ، والكوارث والجرائم التاريخية التي تسبب فيها الإنسان، ولا يزال، تجاه كوكب الأرض. وقد أخذت الأزمة المناخية حيزًا مهمًا من نشاطه ومؤلفاته مؤخرًا. ودفعته لتأليف أكثر من كتاب في هذا الصدد، أهلته للحصول على جائزة إيراسموس المرموقة، لهذا العام 2024، تتويجًا لكتابته المتميزة واللافتة عن أزمة المناخ والتغيرات المناخية.
ومن بين أبرز مؤلفات أميتاف غوش التي يربط فيها تاريخيًا، بمهارة وذكاء وصدق، بين أزمة المناخ الحالية والجذور التاريخية للاستعمار والحروب واستنزاف الكوكب وثرواته، على مدى قرون، مؤلفه "لعنة جوز الطيب" (The Nutmeg's Curse) الذي صدر خلال عام 2021، والصادرة ترجمته العربية حديثًا عن منشورات التكوين بالكويت (375 صفحة) تحت عنوان "للحرب وجه آخر: ميراث الاستعمار، مسار الرأسمالية، خراب الكوكب" بترجمة: إيمان معروف، وتقديم: سنان أنطون.
أسلوب الكاتب ومعالجته
يتميّز أسلوب أميتاف غوش بالبساطة شديدة، والبراعة في سرد التفاصيل العلمية والتاريخية وحتى الاقتصادية. كما نلاحظ مدى سعة الاطّلاع التي يتميّز بها الكاتب، ومهارته في عدم الإثقال على القارئ بما لديه من علم غزير. ونلمس هذا في أكثر من فصل من فصول كتابه "للحرب وجه آخر"، وفي تنوّع موضوعاته، وتباين فصوله. وكيف أن المعلومات المقدّمة سرعان ما تعود لاحقًا لتشتبك وتتلاحم وتتكامل وتكمل بعضها البعض، لتقود إلى وحدة طرح وفكر وهواجس. كل هذا من خلال انتقال تدريجي للأفكار، بمهارة لافتة، وأيضًا برشاقة وذكاء في ربط بين الماضي بالحاضر، بدون خلق أدنى ارتباك أو التباس أو صعوبة، ليرصد لنا في النهاية الفظائع والكوارث المقترفة في الماضي، وحصدنا الآن لبعض عواقبها وتبعاتها. وهذا كله، رغم صعوبة وتشعّب بعض الموضوعات من حين لآخر، إذ يبحر بنا المؤلف بين فصول التاريخ البعيد والمعاصر والآني، ويعرج على تفاصيل وأرقام اقتصادية، وأخرى عسكرية، ومناخية، ناهيك بغيرها من الموضوعات والمعلومات الإنسانية شديدة العمومية أو الخصوصية أو حتى الذاتية، إضافة إلى لمحات من أدب الرحلات. المثير أن الرحلة برمّتها، في الأغلب الأعمّ، مصاغة بسلاسة وسهولة وتشويق، ما يحفّز على القراءة والمتابعة والاستمتاع بالأفكار والطروحات والمقاربات المقدمة.
صياغة روائية
فوق هذا، يقترب أميتاف غوش في فصول عديدة من أسلوبه الروائي المعهود، فتكاد تشعر، خاصة في الفصول الافتتاحية للكتاب، مثلًا، وصولًا إلى الفصول الختامية تحديدًا، أنك بصدد عمل روائي أو سرد قصصي لحكاء ماهر، ينسج لنا حكايات مسلية، رغم دمويتها. ويصنع من نتف التاريخ عوالم كاملة، ويمضي في سد الفجوات الناقصة في القصص التاريخية، وغيرها، بتوظيفه الماهر والذكي للتخيّل والتصوير والفانتازيا، المدفوعة بتساؤلات وتخمينات تكاد، لفرط صدقها، تجعلك توقن بواقعيّتها وحدوثها. وهذا كله انطلاقًا من حكايته عن نبتة جوز الطيب، وغيرها من الثمار والتوابل. وإن كان التركيز ينصبّ بالأساس على ثمرة جوز الطيب، التي كان اكتشافها والتجارة فيها، بعد وصولها إلى أوروبا قبل القرن السادس عشر، من أهم أسباب احتلال واستعمار جزر الباندا على يد الاستعمار الهولندي الدموي البغيض، وشركة الهند الشرقية الهولندية التي تكاد تشبه اليوم الشركات العابرة للجنسيات والقارات، والنموذج الفج والوقح للرأسمالية في أقذر صورها. وكيف أدّى هذا تدريجيًا إلى حرب إبادة للسكان الأصليين، استمرت لثمانية عشر عامًا، قضت على شعب ولغة وعادات وحضارة الباندانيين أو سكان أرخبيل جزر الباندا، ومسح شامل لمعالم التضاريس الطبيعية، بل وحتى محو أسماء القبائل والأماكن. وكيف أن العملية استمرت لفترة طويلة نظرًا للتخلف التكنولوجي آنذاك، أو على حدّ قوله: "التكنولوجيا في ذلك الوقت لم تسمح بالقتل الجماعي على نطاق كبير".
أصل العلّة
من خلال هذه الحكاية التاريخية التي يفرد لها الكاتب مساحة كبيرة في سياق الكتاب، يحاول أميتاف غوش التدليل على أن أزمة كوكب الأرض، وما يشهده من تدهور أدّى إلى تغيّرات مناخية كارثية، ربما لا سبيل إلى تداركها في المستقبل القريب، ليس مردّها الثورة الصناعية، ولا صعود الرأسمالية أو النظم الحديثة وما شابهها. إذ أن الأمور أكبر وأعقد من هذا بكثير. ولا تعود جذورها إلى الثورة الصناعية كما دلّل البعض بحسن نية، بل مردّ الأمر في رأيه إلى عصور الاستعمار الاستيطاني، وبدايات الحداثة الاستعمارية، وما ترتّب على هذا من إعادة تشكيل وتسليع واحتكار واستنزاف للأرض وثرواتها المختلفة. ما أحدث تغيّرات بشعة وعنيفة ودموية جدًا، أدّت إلى إبادة سكان أصليين، وقضت على حياتهم وثقافاتهم وحضارتهم، وأفسدت، قبل كل شيء علاقة الإنسان بالأرض وفهمه واستيعابه لها ولاختفاء اللغة الخاصة المشتركة بينه وبينها.
في إحدى الفقرات الهامة في الكتاب يقول غوش: "إن الاستعمار والغزو قديمان قدم التاريخ البشري نفسه. حتى الاستعمار الاستيطاني لم يكن جديدًا ولا خاصًا بالأميركيين. بل كان يمارس في جزر الكناري وأيرلندا وفي أجزاء من الإمبراطورية الصينية التي كان لها أشكال موازية خاصة بها من الاستعمار الاستيطاني. ولكن ما يجعل الاستعمار الأوروبي للأميركيتين مميّزًا، هو الحجم الهائل وسرعة التحوّلات البيئية التي رافقته، مما أدّى إلى تغيير جذري في أكثر من ربع مساحة سطح الأرض في غضون بضع مئات من السنين…. إن إعادة تشكيل مساحات شاسعة من التضاريس لتتناسب مع أنماط حياة قارة أخرى يستدعي حتمًا تقويض أساليب حياة أولئك الذين سكنوا تلك الأراضي لآلاف السنين والقضاء عليها".
من هنا، يؤكد المؤلف على استمرارية الماضي والحاضر. بالأحرى، تأثير الماضي على الحاضر، وأن تضرّر الحاضر ما هو إلا بعض حصاد لما اقترف في الماضي، ولم يتم تداركه أو محاولة إصلاحه حتى اللحظة، محذرًا من أننا، في الأغلب الأعم، ما زلنا إلى الآن نتعامل مع كوكب الأرض على النحو الذي انتهجه المستعمر القديم، من حيث نظرتنا الضيقة الاستغلالية الناهبة لخيراته وثرواته. لكن أميتاف غوش، وفي أكثر من فصل بالكتاب، يسوق لنا أمثلة كيف أن الأرض ليست خاملة ولا صامتة، ومفعمة بالحيوية والغضب، وأمكنها ويمكنها الدفاع عن نفسها بعدما صبرت مرارًا على تغوّل الإنسان وجهالته وغشمه، ولن تتورّع قريبًا عن الفتك به. أو على حدّ قوله في عنوان الفصل الخامس "سنختفي جميعًا قريبًا".
استحكام الأزمة
يقول غوش، مدلّلًا بوقائع تاريخية ثابتة ومؤكدة، ليست موضع إنكار أو تشكيك، إنه على مدى قرنين من الزمان مزّق المستعمرون الأوروبيون جميع أنحاء العالم، ونظروا إلى الطبيعة والأرض كشيئين خاملين يجب غزوهما واستهلاكهما واستنفادهما، بلا حدود. أما نظرتهم للسكان الأصليين وأصحاب الأرض فلم تزد عن اعتبارهم مجموعة من الوحوش غير الآدمية، وكمتوحشين لا قيمة لهم، وأن معرفة هؤلاء الهمج البرابرة السحرية الخرافية بالطبيعة معرفة بدائية متخلفة يجب في كل الأحوال التخلص منها أو محوها، والأفضل إبادتها كلية. كانت هذه النظرة الاستعلائية الاستعمارية الاستيطانية، وهذا الهوس بعملية القتل والفتك والتنكيل والمحو والإبادة، ومراكمة المال واستهلاك الثروات واستنزافها، وغيرها من الفظاعات الناجمة عن أطماع بربرية وضيق أفق ومحدودية تفكير وانعدام ضمير، هي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.
وكيف أننا عقدنا الأمور على أنفسنا وجعلناها مستحيلة جرّاء تفكيرنا الخاطئ عبر قرون في أن أفضل سبيل لنا هو التخلّص من تبعيّتنا للأرض والطبيعة وتحكّمها فينا... إلخ. لكنه يؤكد أن النقيض تمامًا هو ما حدث. وبالأدلة والبراهين. إذ أن ما يقال عن أن العصر الحديث حرّر البشرية من الأرض ودفعهم إلى عصر جديد من التقدّم تكون فيه للسلع التي يصنعها الإنسان الأسبقية على منتجات الطبيعة، محض أكاذيب. ليؤكد لنا: "نحن اليوم أكثر اعتمادًا على الغطاء النباتي مما كنا عليه قبل ثلاثمائة عام (أو خمسمائة أو حتى خمسة آلاف عام)، وليس فقط من أجل طعامنا. يعتمد معظم البشر المعاصرين بشكل كامل على الطاقة التي تأتي من الكربون المدفون منذ فترة طويلة، وهل الفحم والنفط والغاز الطبيعي سوى أشكال أحفورية من المادة النباتية؟"، وبسبب هذا الاعتماد تحديدًا ستحدث الكارثة، وكيف أن علينا التخلي عنه وإيجاد مصادر أخرى للطاقة، أكثر نظافة وسلامة.
ثمة أمل
إن غوش الذي يشبّه الأزمة المناخية الراهنة بالموت الأسود أو الطاعون الذي ساد العالم بين عامي 1346 و1353، ورغم إشارته المتكرّرة في الكتاب إلى فيروس كورونا والوفيات التي يحصدها حول العالم، وفي نيويورك تحديدًا حيث يعيش وكتب هذا الكتاب، ورغم قتامة الصورة التي يقدّمها لنا، وشبه استحالة إصلاح ما فسد، ما زال يعتقد أن ثمة بعض الأمل في ألا نخسر معركتنا، وفي أن نعمل بصدق على التصدّي للأزمة. إلا أنه يؤكد جازمًا على أن هذا الأمل لا يعتمد بالمرّة على الشركات العابرة للحدود، ولا التعويل على المنظمات الدولية التابعة لليبرالية العالمية، وإنما بالأساس على الحركات الاجتماعية المناهضة لهيمنة نموذج الغرب الاستعماري، وصوره المختلفة في العديد من بلدان العالم التي تبنت نمطه، وإن بصور أخرى حديثة مغايرة.
"للحرب وجه آخر"، بالأحرى، العديد من الوجوه الأخرى، من الكتب البالغة الصدق والأمانة، بدون تهويل أو تضخيم. يستنبط من الماضي الدروس والعبرة، ويحاول أن يسهم في طرح حلول لمشاكل عصر الراهن وصراعات البشر، خاصة الإنسان الأبيض الذي لا يرضى بغير الانصياع والإخضاع والسيطرة، حتى وإن تطلّب الأمر اندلاع صراعات وخوض حروب في أنحاء الكوكب لبسط هيمنته وسيطرته، أو بالأحرى سيطرة الرأسمالية وأربابها الذين لن يتورّعوا أبدًا عن مغادرة الكوكب صوب أماكن أخرى حال حدوث طامة الكبرى.
جدير بالذكر أن للأديب الهندي والمفكر أميتاف غوش أكثر من رواية وكتاب جرت ترجمتها إلى اللغة العربية، منها: "في البلاد العتيقة"، أو في ترجمة أخرى "في أرض قديمة"، و"القصر الزجاجي"، و"بحر من الخشخاش".