رغم عقود طويلة مضت منذ صدور مجموعة الراحل سعيد حورانية القصصية "شتاء قاس آخر" عام 1963 لم تزل قصصها حاضرة في ذاكرة القراء والنقاد وباحثي الأدب على نحو نادر وقد لا تقاربه أية مجموعة قصصية سورية، وهي حضرت إلى أيدي قرّاء الأدب من أبناء الأجيال الجديدة بعد أن أعادت نشرها "دار المدى"، وصدرت ضمن "الأعمال الكاملة" للكاتب التي أصدرتها وزارة الثقافة في دمشق عام 2005.
في "شتاء قاس آخر" كما في تجربة الكاتب الراحل كلها منذ بدايتها الأولى خروج فني عال ومتميّز وجديد عما كان مألوفًا في القصة السورية (والعربية) من بنائيات فنية تغرق في "السردية الحكائية" البسيطة والأحادية السياق والمضمون إلى فضاءات قصصية تأثرت بإرث الأدب العالمي في هذا الجنس الأدبي الصعب والمراوغ، خصوصًا في نموذجها الأعلى كما عند أنطون تشيخوف، وأيضًا التأثر بمناخات الأدب الروسي عمومًا وبالذات تقديم أبطال قصصيين يمتلكون مواصفات تؤهلهم لأن يكونوا نماذج ملهمة تختصر جيلها وأقرانها كما هي حال شخصيات الروسي غوغول. والمسألة هنا تبدو مزدوجة تجمع الشكل الفني بما فيه بناء الشخصيات إلى مضامين الحدث القصصي وامتلاكها أحداثًا واقعية تحاكي ما يعيشه الناس، وتحمل حاضرهم وتنبئ عن ملامح وعيهم بدون وعظ مباشر أو تقريرية تنتمي للصحافة أكثر من انتمائها لفن القصة أو الأدب عموما.
في مقدّمته للمجموعة يقول الشاعر السوري الراحل شوقي بغدادي، وهو أحد أبرز أصدقاء سعيد حورانية والذي واكب تجربته القصصية والحياتية منذ بداياتها الأولى "ربما يمكننا القول إنه قبس من تشيخوف منحاه في رؤية الجوهري الإنساني، ومن المصريين واقعيتهم وبعضًا من رومانسيتهم، ومن الفرنسيين غرامهم بالتفاصيل الصغيرة والمواقف التي تبدو جانبية وما هي بذلك"، وهي ملاحظة أعتقد أنها تقبض على جوهر علاقة أدب سعيد حورانية القصصي بمسألتين هامتين لا يمكن الفصل بينهما وهما الحياة والفن. في قصة "وأنقذنا هيبة الحكومة" يقدّم سعيد حورانية نشيدًا حكائيًا لأوجاع الريف السوري مطلع خمسينيات القرن الماضي، نشيدًا لآلام البسطاء في مرحلة عصيبة عاشتها البلاد أيام أديب الشيشكلي ومآل الفلاحين في مواجهة قمع لم يترك لهم متنفسًا للعيش. هي قصة تمتاز بقوة حبكتها وجاذبية امتلاكها لعناصر التشويق والإثارة وأيضًا براعة سبك ذلك كله في بنائية قصصية صافية متخففة من أية آثار للأيديولوجيا وآثام تدخلها في الفن. "وأنقذنا هيبة الحكومة" تقارب ولع الكتابة الرشيقة بفكرة الانسياب وتدفق اللغة المشحونة بالألم والمعاناة على نحو يكتنز نسغ الموهبة الكبرى ويوظفه في سياقات درامية فيها الكثير من حيوية السرد، بما فيه من وصف للتناقض الحاد بين جمال الصحراء، وما فيه من فطرية الرجال والنساء وتلقائية عيشهم وبين فظاظة الشرطة التي كانت تمثل تحالفًا يقف الإقطاع على رأس هرمه، وهي قصة "تستفيد" فنيًا من أجواء الكاتب الروسي غوغول خصوصًا في بنائه لشخصياته المتفردة والممتلكة لصفات استثنائية تجعلها في مقام التأثير في قارئها لزمن طويل. القصة عند حورانية تفاصيل وجزئيات صغيرة مشحونة بالتوتر تتناغم مع المشهد وتحرص على بنائية فنية فيها الكثير من حضور اللغة المتناسقة مع سيرورة السرد، والتي تحسن انتقاء الأفكار التي تليق بالشخصية القصصية وطبيعتها وثقافتها وانتمائها على نحو يذهب بنا نحو تآلف يجمع السياق كله ويقدمه حزمة مشتعلة بالتأثير والجاذبية.
أما في "الصندوق النحاسي" (فازت بالجائزة الأولى الممتازة في مسابقة مجلة النقاد السورية عام 1950) فيقدم حورانية موشورًا بالغ الرهافة لعلاقة المثقف المنحدر من الطبقات الاجتماعية الفقيرة بعائلته وهو يختار بالذات علاقته بأمه، فالطبيب الذي يهمل أمه المريضة من أجل معالجة مرضاه الميسورين الذين يدفعون له يصل إلى لحظة يستفيق فيها من ذهوله حين يكتشف أن أمه ماتت بدون أن يهتم بها: "عدت إلى الغرفة ودموعي تتساقط في صمت، وجلست على السرير مطرقًا، ولمع شيء تحت مقعد في آخر الغرفة فاسترعى انتباهي، ولما أخرجته وجدته صندوقًا صغيرًا تذكرت أن أمي كانت تضع فيه حوائجها الخاصة، وكان ضوء الغرفة يقع على معدنه الرخيص الصدئ فيبدو كامدًا عتيقًا كأنه قبر نحاسي، واعتراني شيء من الوجل وأنا أفتحه. ووقفت أحدّق في دهشة وذهول في محتويات الصندوق بينما حاولت الابتسام من خلال دموعي ووجدتني أشهق من أعماقي. لم يكن في الصندوق سوى صورة لشاب يشبهني وأظن أنه أبي وشيء آخر، وغصصت بريقي... حذاء صغير وسخ هو نفس الحذاء القديم الذي كنت ضربتها به يومًا في إحدى ثورات غضبي".
قيمة هذه القصة أنها تقبض على النقيضين، الألم الجارح لحدثها الحزين، والرشاقة البديعة التي توهجت إبداعيًا على نحو لا ينطفئ رغم مرور عقود من السنوات، فهي التي كتبت أواخر أربعينيات القرن الماضي، ويكفي أن نتذكر حال القصة العربية يومها، والمناخات التي كانت تنطلق منها وتعبّر عنها خصوصًا وأن الأدب الاجتماعي يومها كان يكاد يغرق في طنين الشعارات وصراخ الأيديولوجيا فلفتت انتباه النقاد الذين أدهشتهم اللغة الجديدة والمناخات الحديثة وزوايا النظر التي تنتبه وتحذق في إمساك خيط العلاقة الرهيف الذي يربط الإبداع بحركة المجتمع والحياة من حوله. قوّة هذه القصة الجارحة بسردها وحدثها أنها كتبت بتكثيف بليغ برع خلاله الكاتب في تقديم لوحته الدرامية بقوة حملت جماليات فنية غير مسبوقة في زمنها.
أما في قصة "حمد ذياب" فيقترب حورانية من عوالم غوغول أكثر ويستفيد من طريقته في بناء "شخصية البطل" بصفاته ذات البعد الجامح الذي يذهب نحو أقاصيه. في "حمد ذياب" يأخذنا الكاتب إلى "جبل العرب" لنتبع حكاية "حمد ذياب" وحياته الصعبة، بل بالغة الخشونة في مواجهة قسوة الحياة. قصة فيها الكثير من براعة نحت صورة بطلها بدون مبالغة أو أسطرة ما إذ هو ابن بيئته ويحمل ملامحها وصفاتها وكثيرًا من تاريخها. تبدو شخصية "حمد ذياب" هنا في مواصفات البطل الشعبي الذي يعيش بطولته ببساطة آسرة أساسها علاقته المتينة بموطنه ومثله وأخلاقه وبما يسكن نفسه من طبائع الشموخ الذي يظل رغم الفقر والحياة البسيطة مشتعلًا بالشجاعة والروح المتوثبة على نحو استثنائي وجميل. يبدو "حمد ذياب" هنا استعادة للبطل الشعبي، ولكنها هذه المرة استعادة لمفهومه وتكوينه ولا تنتمي لعادة استعادة أبطال عرفناهم بأسمائهم في الواقع، فالكاتب يقدّم أسطورته الواقعية التي تليق بأيامنا وتنتمي لها ولأحداثها وتحمل همومًا راهنة وتغذّي السير لتغييرها.
في قصص أخرى، يذهب سعيد حورانية إلى عوالم فيها مزيج من الرومانسية والبعد الإجتماعي كما هي حال قصتين مترابطتين هما "سريري الذي لا يئن" و"الريح الشمالية" وكذلك قصة "وعاد المدمن". في هذه القصص يذهب حورانية إلى المصائر الفردية البالغة الارتباط بحياة أفرادها من الشباب وهو يبني تلك القصص بماء الرومانسية والواقعية معًا، في تآلف يمنح السرد القصصي إيقاعًا سلسًا ومتماسكًا ويشتعل بالمشاعر الإنسانية الصادقة خصوصًا في تلك الخاتمة الآسرة لقصة "الريح الشمالية": "ذات يوم، والرصيف ممتلئ بالناس وبعشرات الوجوه، يبرز لي وجه من وراء الشباب، وأبتسم له بدون أن أعرفه، وأحاول أن أتنسم من خلال أكداس الذكريات، تلك الملامح المألوفة، وأرى بالمقابل الوجه ترتسم في عيونه نظرة مستفهمة، وسنمضي قليلًا في السير ثم نلتفت معًا.
لقد تذكرنا
وينبعث حنين دافئ يلوّن أهدابنا
وأحس بيد ابني وحفيدي تهزني بفروغ صبر وصوت ألثغ يسألني: من هذه يا بابا؟
وأتنهد وأهز رأسي
وتزيح ستر خفيفة من ريح شمالية ناعمة الغبار عن الماسة...
ونحس بجمرها يتقد في عمق أعماقنا ونهز رؤوسنا ونشعر أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش".
قصص سعيد حورانية "شتاء قاس آخر" عاشت في الزمن وبرغمه وكانت حاضرة في قراءات عشاق القصة وكتابها، ولا مبالغة في القول إن أغلب كتاب القصة القصيرة في وطنه سورية احتفظوا لها بمكانة خاصة في ثقافتهم ووعيهم وحتى في تجاربهم الإبداعية إلى الحد الذي يجعل هذه المجموعة الاستثنائية بمنزلة أيقونة القصة القصيرة السورية وواحدة من أبرز المجموعات القصصية على المستوى العربي أيضًا. من الغريب حقًا أن هذا الكاتب الرائد الذي قدّم للأدب ثلاث مجموعات قصصية مميزة ومسرحيتين توقف فجأة عن الكتابة في حادثة أعتقد أنها نادرة في تاريخ الأدب العربي، وظلت إلى اليوم مجهولة الأسباب.