يبدو أن تقديم الواقع المأزوم والموغل في الجنون، لا تُجدي معه الكتابة الروائية بأسلوب واقعيّ ولغة واقعية ومباشرة، لذا يأتي التعبير من خلال توظيف الخيال الواسع والحلول الفانتازية لخدمة الرؤية الواقعية، في صناعة مشهد روائيّ شديد الواقعية، محكوم بسخرية مريرة. هذه جميعًا تشكّل السمة البارزة في رواية إبراهيم عبد المجيد "قاهرة اليوم الضائع" (الصادرة في دار المتوسّط، 152 صفحة)، وعلى القارئ الوقوف مع ما يكتبه "كاتب شهير" (هو بطل الرواية) عن جولته في مدينته العريقة، وما شهدته من تحوّلات، في تناول سرد يطاول ما يقارب قرنًا من الزّمان، من جانب، ومن خلال جولة في أبرز معالم المدينة، بوصفها رمزًا لمصر كلّها، من جانب آخر. ففيما هو يجلسُ في بيته، مع زوجته، نراه، في الآن نفسه، يتجوّل في شوارع فارغة، يتأمّل أحوال القاهرة بين ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وبين اللحظة الراهنة بعد إجهاض ثورتها، متنقّلًا بين موتاها من أصدقائه ومعارفه الكثر، شاردًا في عوالمها، في تاريخها وحاضرها، يرصد ويتذكر ويتخيّل عمله القادم، يلتقي العفاريت والجنّ وكائنات تحمل روح الجنيّ والعفريت. رواية- على قِصَرها (152 صفحة)- تنطوي على الكثير من العناصر البنائية، هنا جولة وإضاءة سريعة على ملامح أساسية منها، حيث يستحيل تناول تفاصيلها.
في البدء من هذه الرواية، وهي أقرب إلى رواية قصيرة (نوفيلّا)، نجد أنفسنا أمام رجل كهل، كاتب شهير، اعتاد الصحو في الصباح، وبدء نهاره مع موسيقى خاتشاتوريان، وباليه سبارتاكوس، ومارش السلاف لتشايكوفسكي، وهو ما يمنحه شعورًا بالمشي في طريق الانتصار، في ميدان التحرير بعماراته القديمة، الشوارع فارغة إلا من رجال البوليس. يسأل زوجته عن أي جديد، فتجيبه بشيء من السخرية: "الدنيا هادئة زي الفلّ. الوحيد الذي لبّى دعوة النزول للمظاهرات هو البوليس الذي يملأ الشوارع". فينزل إلى الشارع. نلتقي به في شارع طلعت حرب، يقول لنفسه: "لم أترك البيت لأستعيد ذكريات ثورة يناير... تركت البيت لأتفرج على العمارات القديمة".
القاهرة هنا، في الرواية بزمانها ومكانها، هي مصر، وهي "البطل" الذي يرسم الروائيّ ملامحه في جولته المسحورة، أو قُل الفانتازية المغرقة في التخييل وفي الواقعية في آن. فهو يستحضر الموتى، من شرائح شتّى، ليُدلوا بشهاداتهم حول الزمان والمكان، والأهمّ هو التحوّلات الدراماتيكية، والمأسويّة أيضًا، التي وقعت خلال مراحل عدّة من حياة القاهرة، أحيائها وشوارعها وعماراتها وقصورها الشهيرة، مقاهيها ومطاعمها، حاناتها ومحلّات "غرزة الحشيشة المخصّصة للسيّدات" فيها. وفي الأساس، غياب سكّانها وحضور رجال البوليس والأمن في أزقّتها، في "حظر للتجوّل" شامل. تحوّلات تكاد تبلغ مستوى "المسخ" الكافكاوي كما في رواية كافكا "التحوّل"، حيث يصحو بطل الرواية (جريجور سامسا) ليجد نفسه وقد تحوّل صرصارًا... حشرة قذرة!
ومثلما يتنقّل "الكاتب الشهير" (بطل الرواية) بين الأحياء والموتى، بين الواقعي والخياليّ المغرق في خياليّته، بين الحقائق والأوهام والأحلام، يتنقّل معه القارئ ما بين شخصيّته الحقيقيّة، شخصيّة الكاتب والزوج الذي لا يغادر بيته عندما يسمع دعوة الشباب لتظاهرة لا يحضرها أحد سوى رجال الأمن، وبين شخصية شبح يستغلّ فرصة خلوّ الشوارع من الناس ليقوم بجولته المتخيّلة بين الموتى، لكنها جولة تقول كلّ ما يريد الروائيّ قوله عن عالم عايَشَه على نحو ما. عالم يرى فيه الكاتب "هزائم مصر" كلّها، لا القاهرة وحدها، منذ الملك فاروق ثم تجربة جمال عبد الناصر، والسادات، وصولًا إلى حسني مبارك وإعلانه التنحّي عن الحكم، وانتهاء بالرئيس الحالي عبد الفتّاح السيسي.
تُطاول جولته مناحيَ الحياة كلّها، المعيشية والاقتصادية والسياسية والثقافية... إلخ. أي أننا هنا حيال رحلة في المكان والزمان، ليوم واحد لكنه طويل، يخلص من خلالها إلى أنه كان طوال يوم واسع لكنه (ضائع)، ويتخيّل نفسه وقد عاد إلى البيت، ونادى زوجته باسم كوثر، فغضبت وسألته عمّن تكون كوثر هذه، ليجيبها بأنها بطلة رواية جديدة. وجلس إلى مكتبه، يسمع الموسيقى الكلاسيكية التي لا تفارقه وقت الكتابة، بل هي تدخل كعنصر في الرواية التي سيكتبها، حول هذا "اليوم الضائع للقاهرة".
تحوّلات كارثيّة
الرواية تشكّل صورة من صور استعراض فن العمارة في القاهرة، والمهندسين الذين أشرفوا على أشهر العمارات فيها، وهم غالبًا من الأجانب، فرنسيون وإيطاليون ويونانيون، وكان ذلك قبل ثورة يوليو. لكنه لا ينسى الصنيع الهندسي المعماري للمهندس- الفنان المصري حسن فتحي، أحد المعماريين الكبار، وهو الذي أقام قرية "القرنة" في الأقصر لسكان ما حول المقابر (عمارة الفقراء)، بتصميم يقي السكّان ضد الحر والبرد، ويشير الراوي إلى أن دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) سرقت الفكرة والتصميم لتنفيذه في كيبوتساتها في صحراء النقب، ويضيف أن الصهاينة كما سرقوا هذا المعمار، فقد سرقوا غيره الكثير، وبقدر من السخرية المرّة ولكن الواقعيّة يقول عنهم "يقولون إنهم أصل صناعة الفلافل والملوخية...".
وحين يرد ذكر مكان ما، يحاول الروائي التعريف بهذا المكان، تاريخه ومواصفاته ومؤسّسه، فمثلًا هو يورد كثيرًا ذكر ميدان طلعت حرب، فنعرف سبب التسمية، وأن هذا الشخص المسمّى باسمه هو رجل الاقتصاد والسينما ومؤسس استوديو مصر. كما يخبرنا الراوي أن تمثال حرب هذا جرى وضعه في مكان تمثال سليمان باشا الفرنساوي، مؤسس الجيش المصري أيام محمد علي وشركات الغزل والنسيج التي باعتها الدولة، فندخل في اقتصادات الدولة وسياساتها وما تؤشر عليه من سلوكيّات، سواء لجهة استبدال تمثال شخص بتمثال شخص آخر، أو لجهة بيع شركات!
محاكمة وهجاء
إنها "المحاكمة" لمحطّات من حياة مصر، ممثلةً في الخراب والانهيارات التي أصابتها. وسواء تعلّق الأمر بحضور "عملاق" خارق يفرد ذراعيه فيُباعد بين عمارات ضخمة، أو تعلّق بالفتاة الجميلة الرقيقة كوثر التي تصاحب "الكاتب" في رحلته، فإننا في الحالين أمام أعمال خارقة للمألوف أو للممكن. إنها أعمال من "عمل" الكاتب "الشهير"، ومن ورائه الكاتب الأصليّ، الذي يوظّف أساليب السرد وتقنياته المختلفة، من حوار وتأمّلات واستعارات للأغاني من الزمن الجميل، ليعبّر عمّا بلغته الأحوال من التردّي.
التشريح الروائي هنا يطاول الجميع تقريبًا، خصوصًا مرحلة جمال عبد الناصر، وعمليّات "تأميم" الممتلكات الخاصة، لمصلحة الثورة، ثورة يوليو (تموز) عام 1952، أو الانقلاب كما يسمّيها، والقائمين عليها، ولصالح الجيش والمؤسسات المنبثقة من تلك الثورة، يرى الراوي- المؤلّف ربّما- أن "عبد الناصر كان يقلّد محمد علي باشا قضى على الباشوات وآلت قصورهم لرجال جيشه ودولته"، هذا فضلًا عن كون هذه المرحلة تنطوي على الكثير من التجاوزات، كالسجون والقمع. مرورًا بمرحلة السادات التي شهدت تمدّدًا للإسلاميّين بتلاوينهم، واحتجاجات المعارضين وقمعهم في عقد السبعينيات، وتحديدًا في عام 1977، من دون ذكر صريح لأسبابها، وللعلاقة مع الكيان الصهيوني واتفاقيّات كامب ديفيد. ثمّ عهد الرئيس مبارك، وصولًا إلى عهد الرئيس الحاليّ وما ينطوي عليه من المآسي.
ويعود ويؤكد على قضية التأميم لدى ذكر عمارة يعقوبيان، وصاحبها الأرمني، وعمارة الإيموبيليا التي بناها أحمد عبود باشا عام 1940، وهو من أغنياء مصر، وكان رئيسًا للنادي الأهلي، وصاحب أكبر شركة ملاحة في الإسكندية... وكلّه تمّ تأميمه في عهد عبد الناصر، وهذه البناية "كلفت وقتها مليون ومائتي ألف جنيه. الجنيه وقتها كنت تشتري به خمس دجاجات أو بطّتين أو ألف بيضة، أما الآن الحمد لله فلا يوجد دجاج ولا بيض". وممّن كان قد سكنها من المشاهير نجيب الريحاني ومحمد عبد الوهاب وهنري بركات وأسمهان... وعلى سبيل السخرية ممّا آلت إليه أمور الجنيه مواجهته مع الدولار في مرحلتين، مرحلة كان فيها الدولار أقل من جنيه (80 قرش)، ومرحلة الانهيار حين صار الدولار بخمسة وعشرين جنيها!
ومن ضروب الفانتازيا التي يلجأ إليها الراوي- الروائي، استغلال لحظة ذكر الموسيقى والغناء، ليطلق جوقات من العازفين والمطربين، ويحدث هذا غير مرّة في الرواية القصيرة، إذ يستحضر بعض الأغاني القديمة الشهيرة، كأغنية محمد عبد الوهاب في مديح الملك فاروق، ويستحضر كلماتها، بما فيها المقطع الذي جرى حذفه بعد ثورة يوليو 1952، خصوصًا هذا البيت "والفن مين شرّفه غير الفاروق ورعاه" الذي تمّت استعادته في الأغنية بعد رحيل عبد الناصر. ولكن حين يستحضر الروائي شخصية الملك فاروق ضمن الموتى الذين يستدعيهم، يتوجه الملك بالعتاب القاسي لعبد الوهاب والسخرية من تقلّباته؛ "رأيتك ترتدي بدلة لواء عسكرية أيام السادات، وتلحّن نشيد بلادي بلادي... السادات هو الذي جعلك ترتدي البدلة العسكرية وأعطاك رتبة لواء". كما يستدعي أغاني العندليب وأسمهان وأم كلثوم، أغاني الزمن الجميل، مقابل ما يسمّيه "أغاني العشوائيّات" الهابطة.
على هذا النحو المتنقّل بين هجاء الواقع السوداوي والسخرية منه، نستطيع معرفة أسلوب الروائي الذي يشتغل على رواية متّصلة من بدايتها، من جملتها الأولى، حتى نهايتها، بدون توقف أو فواصل أو تقطيع، كما لو كانت قصة طويلة. وتساعد في ذلك سلاسة السرد، والمفاجآت المدهشة التي تحفل بها الرواية، وكثرة الحكايات وتداخلها، وتنوّع المادة/ الموادّ التي تصنع الرواية وحبكتها وختامها الذي يجعلنا في حيرة إن كان بطل الرواية قد خرج من بيته وأمضى يومًا في التجوال؟ ولكن الأهمّ هو ما يقدّمه في هذه الجولة حتى لو كانت من الخيال والذاكرة معًا، وفي آن واحد، من خلال "خلطة سحريّة" لكتابة "رواية متماسكة وإن كانت صغيرة"، بحسب ما يكتب الروائيّ في نهاية روايته.