وهذا الصّنف من الحوارات متعب جدًّا في مرحلة التّحرير والتّحقيق وضبط الأسماء والوقائع وصوغ الحواشي؛ خصوصًا أنّ معظمه يدور بالمحكيّة. فالدّكتور جورج حبش كان يتحدّث في هذا الحوار بأريحيّة، فيذكر أسماء الأشخاص مجرّدة كما اعتاد أن يخاطبهم بها. فهو يذكر، على سبيل المثال "أحمد"، مع أنّ ثمّة أربعة رجال من مناضلي حركة القوميين العرب تبدأ أسماؤهم كلّها بـ "أحمد" وهم: أحمد الطّوالبة وأحمد الخطيب وأحمد اليماني وأحمد فرحان. وكان على الأستاذ صقر أبو فخر أن يتحقّق مَن هو الشّخص المقصود. فإذا كان الكلام يدور على الكويت أو على البدايات الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت، يكون المقصود به أحمد الخطيب. وإذا كان الحديث يتناول مجريات الأحوال الفلسطينية في لبنان، فيكون المقصود بالعبارة أحمد اليماني. وإذا كانت الوقائع تجري في الأردن، فيكون "أحمد" هو أحمد الطّوالبة، فيما يكون الشّخص المشار إليه أحمد فرحان (أبو شهاب) إذا كان الأمر متعلّقًا بانشقاق الجبهة الثّورية عن الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين. وكان لا بدّ أيضًا من التّأكّد الحاسم قبل أن يقطع بمَن هو حامد مثلًا: هل هو حامد الجبوري أم سليم أبو سالم وهكذا. ثمّ كان عليه، بحسب الأصول العلمية، إمعان النّظر في مطابقة الوقائع على تواريخها، وهو أمر أرغمه على العودة إلى عشرات المراجع المتينة والوثائق الصّحيحة كوثائق حركة القوميين العرب والجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين، ولا سيّما أنّ كثيرًا من التّواريخ الواردة في هذا الحوار متخالفة ومتنافرة، علاوة على تفصيلات الوقائع التي يشوبها بعض الاضطراب والتّناقض.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ نهاية الحوار تبدو مبتورة كأنّ الحوار توقّف فجأة. وقد أورد شريف الحسيني ملاحظة في هامش الصّفحة الأولى من النّسخة الأصلية لهذا الحوار تشير إلى "أنّ هناك بعض الثّغرات النّاتجة عن النّقص في الأشرطة التي تمّ التّسجيل عليها". ومهما يكن الأمر، فإنّ الحوار، بصيغته الحالية، يبقى وثيقة مهمّة جدًّا، لأنّه جرى مع عَلَم كبير من أعلام النّضال الفلسطيني المعاصر، أي مع جورج حبش. ودار في كثير من فصوله على أحد المناضلين الكبار في الثّورة الفلسطينية المعاصرة الذي كان، في أخطر مراحلها، سيفها اللّامع ولسانها المدوّي، أي وديع حدّاد.
في مقدّمته للكتاب يلحّ الأستاذ أبو فخر على أنّه لا يُذكر جورج حبش إلّا وينصرفُ الذّهن فورًا إلى وديع حدّاد. ولا يُذكر وديع حدّاد إلّا ويحومُ طيفُ جورج حبش تحت ظلال الذّاكرة الفلسطينية القريبة. وكان الاثنان توأمين في الحياة وفي النّضال السّياسي، وفي المسلك الطُهراني الذي صار في عصرنا الحالي كالعنقاء. ومَن يقرأ وقائع أيّامهما يخالُ أنّهما واحد حلّ في بَدَنيْن، أو اثنان اجتمعا في سيرة واحدة، وفي مسيرة مشتركة فريدة. فلا عجب، والحال هذه، أنّهما في بداية حياتهما النّضالية في الأردن، كانا يعملان في عيادة واحدة، وعيادتهما تلك كانت في شارع الملك طلال في عمّان، في مقابل سوق الخضار، كانت تُسمّى "القيادة"، لا العيادة، بحسب الفكاهة التي أضفاها والد "الحكيم" نقولا حبش.
فيرى الأستاذ أبو فخر أنّه لم يكن جورج حبش أو وديع حدّاد مفكّرًا أو شاعرًا أو كاتبًا، بل كان كلّ واحد منهما سيفًا. وبالحُلم الذي غمرهما معًا، ناضلا في سبيل تحرير بلادهما، وصارا من أهمّ "الشّعراء" الذين أنجبتهم فلسطين، ومن أبرز "المفكّرين" العرب الذين حملوا رؤى للمستقبل وللحرّية.
لم يفترق جورج حبش عن وديع حدّاد قطّ. لكنّ استراتيجية اختطاف الطّائرات والعمليات الخاصّة هي التي فرّقتهما وباعدت دربيهما، مع أنّ الاثنين كانا متوافقين، منذ البداية، على شعار "وراء العدوّ في كلّ مكان". أمّا آخر لقاء بين الاثنين فكان في فندق بغداد، في العاصمة العراقية، في سنة 1976، وكان لقاءً مكلّلًا بالدّمع والعتاب والتّصافي. لكن، في أواخر سنة 1977 بدأت عوارض الإنهاك تظهر على وديع حدّاد، وتشير إلى ابتلائه بمرض غامض، فنُقل من الجزائر إلى برلين في 1/3/1977، وتوفي في عاصمة ألمانيا الشّرقية في 28/3/1978، ودُفن في بغداد في 1/4/1978.
لم يجتمعا في فلسطين البتّة؛ جورج المولود في اللّد في 1/8/1925، ووديع حدّاد المولود في صفد في 22/7/1928، جمعتهما بيروت أوّلًا، ثمّ دروب النّضال القومي. وفي أيّ حال، فهذا الحوار إنّما هو رحلة تفصيلية عن تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسّسوا معًا حركة القوميين العرب، ثمّ الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين. وهو، إلى ذلك، سرد للمصائر المتعاكسة التي ساقتهم الأيّام إليها بجميع تحوّلاتها وانقساماتها وتشظّياتها. وصولًا إلى نضال محسن إبراهيم في بيروت وأتباع حبش في عدن واعتقال حبش في دمشق وقيام حدّاد بتحريره. إضافة إلى إسهاب في علاقة الحكيم المديدة بياسر عرفات ونايف حواتمة.
يروي أبو فخر قصّة هذا الحوار، ففي سنة 2007 كان سكرتيرًا لتحرير "مجلّة الدّراسات الفلسطينية"، وتلقّى من أحمد خليفة، الذي كان مديرًا للتّحرير في المجلّة، نسخة من هذا الحوار. وقد طلب إليه قراءة النّص وإبداء الرّأي فيه، وهل في الإمكان نشر مقتطفات منه في المجلّة بناءً على اقتراح من د. سليم تمّاري. وقد قرأ الحوار، وهو بتوقيع كلٍّ من شريف الحسيني وسائدة الأسمر، وأرسل رأيه إلى أحمد خليفة الذي كتب بدوره رأيه وبعثه به إلى د. سليم تمّاري، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ، فيما بقيتْ نسخة منه محفوظة لديه.
ومرّت السّنون، ونسي قصّة هذا الحوار الذي لم يصدر إطلاقًا. وتوفي "الحكيم" في عمّان في 26/1/2008، ثمّ توفي شريف الحسيني في عمّان في 4/4/2011. وهنا استيقظت ذاكرته في شأن ذلك الحوار المنسي، وتساءل: لماذا لم يصدر في كتاب حتّى ذلك الوقت؟ وما هي العوائق التي حالت دون نشره؟ وكان لا بدّ من العثور على سائدة الأسمر للاستفسار منها عن مصير الحوار، فالبعض أخبره أنّها تعيش في الضّفة الغربية، وآخرون ذكروا له أنّها تقيم في عمّان، وتبيّن، بعد تفتيش مضنٍ، أنّها مقيمة في لبنان. وتواصلا والتقيا في مبنى المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات في بيروت في سنة 2019.
وحين وقع نظرها على النّص بكتْ، وتذكّرت جورج حبش ووديع حدّاد، وقالت إنّها كانت تحتفظ بنسخة منه، وبنُسخ من حوارات أخرى ووثائق مهمّة في منزلها في الجزائر، وأنّها فقدتها كلّها لأسباب قاهرة، فأهداها نسخة من الحوار وقال لها إنّه راغب في تحقيقه وتحريره على أن يُنشر في سلسلة "ذاكرة فلسطين" التي يصدرها المركز العربي للأبحاث، فوافقتْ وكتبت له إقرارًا بذلك.
ثمّ تكرّرت اللّقاءات القليلة، إلى أن كانت "الكورونا" بمآسيها، فرحلت سائدة حسني الأسمر بهذه الجائحة في 26/7/2022. وصدر النّعي باسم حكمت صالح نصّار. وسائدة الأسمر مناضلة من يافا، نشأت في بغداد ودرست في مدارسها وفي جامعتها، ثمّ انتمت إلى حركة القوميين العرب في العراق، وناضلت إلى جانب باسل الكبيسي وزوجته نادرة. ومع تأسيس الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين التحقت بـ "المجال الخارجي" بقيادة وديع حدّاد.
أمّا شريف الحسيني المولود في سنة 1938، فهو مناضل معروف وابن الشّهيد خالد الحسيني الذي تولّى قيادة جيش الجهاد المقدّس بعد استشهاد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل في سنة 1948. التحق بحركة القوميين العرب في سنة 1955 في أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وانضمّ إلى الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين فور تأسيسها، وناضل في صفوفها قائدًا في التّنظيم الطّلابي ومسؤولًا عن القطاع الطّلابي في الخارج، وأحد مساعدي وديع حدّاد البارزين.
درس حبش في الكلّية الأرثوذكسيّة في يافا ثمّ في كلّية الأرض المقدّسة في القدس قبل انتقاله إلى بيروت عام 1944 لدراسة الطّب في جامعتها الأميركية (طبيب أطفال، 1951) وفيها درّس علم الأنسجة فور تخرّجه فيها. تعرّف حبش عام 1948 على قسطنطين زريق وكان أستاذ التّاريخ هذا زعيمًا روحيًّا لطلبة الأميركية (وديع حدّاد/ هاني الهندي/ أحمد الخطيب/ حامد الجبوري) في مناداتهم بالقومية العربية وتأسيسهم لحركة القوميين العرب وميلهم إلى النّاصرية ثمّ الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين إثر هزيمة 1967.
أمّا وديع حدّاد فولد في صفد ودرسَ في حيفا ثمّ في أميركية بيروت (طبيب أطفال، 1953).
الحوار ها هنا هو وثيقة أساسية في مسار تاريخ النّضال الفلسطيني وإضاءة وافية على فكر جورج حبش، حكيم الثّورة الفلسطينية، وسردٌ لمرحلة هامّة من تاريخ فلسطين الحديث، إذ يمتدّ الحوار ليغطّي مفاصل حيويّة في سيرة حبش كان لها أثرها المباشر على إبقاء فلسطين جذوة كفاح لا تنطفئ على مدى ثمانية عقود لما فيها من محطّات تاريخية، من تأسيس حركة القوميين العرب إلى النّاصرية والانفصال وتأسيس الجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين إلى تبنّي الماركسية.
جورج حبش في حديثه هنا إلى مُحاوريْه لا يضيء فحسب على تاريخه النّضالي، ولكن الأهمّ، أيضًا، على قرابة نصف قرن من نضال شعب فلسطين، إذ تمكّن حكيم الثّورة الفلسطينية من إعمال مبضعه في الكشف عن جوهر حقيقة الصّراع مع الدّولة العبريّة في الانتقال من القوميّة العربية إلى النّاصرية فالماركسية بموازاة متطلّبات كلّ مرحلة، وكان لا بدّ من إشارات إلى ما غَمُض في حواشٍ علّقها الأستاذ أبو فخر على متن الحوار ما أغناها، وصوّب وجهتها.
فهرس الكتاب كشّاف جامع مانع ودليل إلى معاصري د. حبش. أمّا الصّور المرفقة بالكتاب فهي بهاء وضياء، ومنها حبش مع نايف حواتمة ومحسن إبراهيم ومحمود درويش جالسًا بين عرفات وحبش، وحبش مع الزّعيم الوطني كمال جنبلاط، إضافة إلى صورة تجمع عرفات وأحمد اليماني وطلعت يعقوب وأبو العبّاس وأحمد الخطيب وأبو علي مصطفى وطلال ناجي وتيسير قبعة وأبو إياد وسمير صبّاغ، وغيرها من صور الزّمان الجميل، إضافة إلى مصادر ومراجع أضافها أبو فخر ذات صلة بالحوار.