في قلب الصراع العربي الصهيوني، ثمّة صراعات متعددة ومعقّدة؛ العسكرية والسياسية، فضلًا عن الثقافية. وفي قلب الثقافية هذه، تكمن صراعات تتركز كلّها في محاولات الكيان الصهيوني اقتلاعَ الهويّة الفلسطينية ــ العربية من جذورها. ومن ضمن عناصر هذه الهوية، التراث الفلسطيني بمكوّناته وعناصره على أصعدته كافة، الأدبية والفنية والفكرية. ونحن هنا أمام صراع في الشعر من خلال التراثَين الفلسطيني والعبري، صراع لا بدّ من قراءة محاوره الأساسية، كما وجدناها في هذا الكتاب الجديد، ولو على نحو شديد الاختزال، ربّما.
تبدأ مقدّمة كتاب "حقول الشّوك: دراسة مقارنة بين التراث في الشعر الفلسطيني والشعر العبريّ"، تأليف الأستاذ المصري علي فتح الله، بالتمييز بين التراث والحكايات التي تُروى للصغار قبل النوم، فالتراث ــ بحسب فتح الله ــ هو تجذُّرٌ للهوية والكينونة والأنا في مواجهة العالم. وبخصوص التراث في كلّ من الشعر الفلسطيني والشعر العبري، فهو فوق ذلك يتميز بـ"خصوصيّة تنبع من ربط هذا الشعر بالصراع القائم على أرض فلسطين، باعتباره (أي الشعر) مكوّنًا أساسيًّا في هذا الصراع"، كما أن هذا الشعر "يمثّل أهمّ مصدرٍ للشرعية على الأرض؛ فالصراع على أرض فلسطين ليس صراعًا عسكريًّا، أو سياسيًّا، فقط، بل هو في المقام الأوّل صراع ثقافيّ يتخذ من التراث ركنًا شديدًا يأوي إليه". وكثيرة هي العناوين والمناقشات التي تستوقف القارئ، لكننا سنقف منها على بعض الأبرز.
منذ المقدمّة الأولى لكتابه هذا (من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، 344 صفحة)، يوضح سبب اختياره الشعر، لا الرواية ولا القصة، لاعتقاده أن الشعر يبقى، حتى في الزمن الذي يُدعى "زمن الرواية"، أشد تعبيرًا عن وجدان الإنسان في أزمته وفي وحدته، فضلًا عن كون الشعر هو "الأنا" التي تتسع رموزها للكون بعبقرية الشاعر، اتّساعًا ينعكس على كل شيء في شعر الصراع العربي الصهيوني، ويوضح قائلًا "إننا حتى قبل الشروع في هذه الدراسة، كنا نقف عند وحدة القصيدة، والرمز الجزئيّ فيها والكليّ، فإذا تعمّقنا وجدنا أنّ الشعر اتّسع، واتسعت رموزه..."، وبذلك فإنه يعتقد أنّه يؤسّس لنمطين جديدين من الرموز: أوّلهما الرمز الخطّيّ الذي لا يقف عند بناء القصيدة، بل يتعداها إلى الديوان... وصولًا إلى النظر في شعر الشاعر كاملًا، أو في مرحلة زمنية، لنكشف عن رموزه كلّها.
مقدّمات نظريّة
يبدأ المؤلّف بفصلٍ يبحث فيه "الموقف من التراث" عبر ثلاثة مباحث تتناول قضايا "الاحتماء بالتراث"، وتتناول بدورها أسباب هذا الاحتماء، وإلى أي تراث يلجأ الشاعر، ولماذا؟ وهل الموقف من التراث هو موقف من الصراع أيضًا؟
في المبحث الثاني مناقشة لقضية انتقاء التراث الذي يحتمي به، وخصوصًا انتقاء التراث الكنعاني، أو "الحركة الكنعانية" الذي يتناوله المؤلّف، وانتقاء التراث الدينيّ. أما المبحث الثالث فيتناول الثورة على الموروث، وأسباب هذه الظاهرة، والفروق بين الشعر الفلسطيني والشعر العبريّ في هذا الإطار.
في فصل بعنوان "التأثر والتأثير"، نظر الباحث في تأثر كل شاعر بتراث "الآخر"، وخصوصيّة كلّ شعر في هذا السياق، إذ يتعدّى التأثير والتأثّر القضايا الفنية إلى النطاق السياسيّ، وذلك من خلال مبحثين، الأول ناقش الكتابات التي تناولت تأثير التراث العبري في الشعر الفلسطيني، والكشف عن جوانب لم تُطرق بعد؛ مثل الكتابة بلغة الآخر وسبب اللجوء إليها، والثاني بحث الوجه المقابل، أي علاقة شعراء العبرية بالتراث العربي ومدى تأثّرهم به، حيث لا توجد دراسات تعرّضت لهذه القضية، لا في فلسطين، ولا مصر، ولا غيرهما.
كما يناقش المؤلف أثر التراث في "تشكيل الصورة" عبر تقنياتها وبداياتها الحسيّة وتحولها إلى صورة كلية، ومن تأثيرات التراث يناقش أيضًا تأثيره على صورة الذات والتعامل معها، وتنوع صور الذات، ومدى تعلق الوعي بتصوير الذات بوعي تصوير "الآخر" في الصراع، وإلى ذلك يناقش رمزية الصورة وتأثير التراث في تكوين الرموز، معتمدًا على تحليل رمزية صورة الأرض وارتباطها بالأنثى، وكيف تبدو أنماط الرمز من خلال تحليل كليّ لشعر الصراع. وبوصف الشعر تركيبًا لغويًّا، يكشف الباحث عن خصوصية لغة شعر الصراع على مستويين؛ المعجم وعلاقته بالأيديولوجيا، وكيف يمكن لدراسة أحدهما الكشف عن الآخر، وعلى مستوى خصوصية التراكيب في شعر الصراع، يجري بحث ارتباط بعض التراكيب بالتراث ومجاوزة التركيب اللغوي، أو الحفاظ عليه. وإلى موضوع اللغة، نتابع مناقشة موضوع إيقاع شعر الصراع، والتزام بعض الشعراء بنمط محدد من الإيقاع (الوزن التقليديّ مثلًا)، والبعض يتجاوزه إلى إيقاعات حديثة، تعبيرًا عن وعي مختلف.
تأثيرات تعمل في الاتّجاهين
يعرض المؤلّف مجموعة من مصادر التراث ذات التأثير على الشعر الفلسطيني، بدءًا مما يرتبط بالموروث الشعري والثقافي العربي والسِّيَر الشعبية، والتراث الديني متمثلًا في القرآن، وغيره من هذا التراث، وصولًا إلى التراث المعاصر، والرموز التي تنتمي لهذا التراث، في قراءات تمزج النظريّ بالتطبيق على نماذج شعرية لشعراء من تيارات واتّجاهات وأجيال مختلفة ومتعددة، لنقف على أطياف من الشعر الفلسطينيّ تغطي مشهدًا بانوراميًّا واسعًا. كما أنّنا حيال رصد لمؤثرات التراث العبري على الشعر الفلسطيني، وفي المقابل مؤثرات التراث الفلسطيني والثقافة العربية على الشعر العبريّ الحديث والمعاصر.
بخصوص أثر التراث العبري على الشعر الفلسطيني، يناقش المؤلّف ظواهر عدة ذات تأثير على بعض الشعراء؛ كتابة كلمات عبرية بحروف عربية، ولجوء بعضهم إلى كتابة قصائد باللغة العبريّة. ويستشهد المؤلّف بقصيدة لأنطون شمّاس بعنوان "جُنّاز" يقيم فيها حوارًا بعد الموت بينه وبين اليهودي (والقصيدة منشورة باالعبرية وترجمتها العربية، مع إشارة إلى ديوانين بالعبرية لشمّاس، ورواية "أرابيسك"). وكان سميح القاسم ــ بحسب المؤلّف ــ ممن تأثروا برموز الكتاب المقدّس، بل إنه كتب بالعبريّة في بعض قصائده. وكذلك فاروق مواسي (خمسة دواوين بالعربية، وواحد بالعبرية)، وهذه مجرد أمثلة فقط.
ومن المؤثرات العربية على الشعر الفلسطيني ما يستحضره المؤلّف من تأثر الشاعر توفيق زيّاد بموقعة حطين، مثلًأ، بوصفها صخرة لا يفتّتها الزمن، كما يُفصح في هذا المقطع:
وأشربُ ريحَ تشرينِ
وأُدمي وجهَ مغتصِبي
بشِعر كالسّكاكين
وإن كسر الردى ظَهري
وضعت مكانه صوّانة
من صخر حطّينِ.
أمّا المؤثرات العربية على الشعر العبري، فتبدو كثيرة، بدءًا من القرآن الكريم، والتراث والتاريخ العربيّين، وصولًا إلى الشعراء الفلسطينيين، وخصوصًا شعر محمود درويش، وانتهاءً بالفنون العربية والفنانين والفنانات العرب: أغاني أمّ كلثوم وفيروز وغيرهما، من دون إغفال لتأثير الفن التشكيلي الفلسطيني... وفي سياق متصل يتخذ التأثر صورة انتحال شخصية شاعر فلسطيني. يلفت المؤلّف إلى ظاهرة شاعر يدعى يسرائيل إليزار الذي انتحل اسم جورج إبراهيم، ويدّعي أنه ترجم له قصائد عن الفرنسية بعنوان "طريق بيت لحم"، ليتبين أن هذا الديوان له هو (إليزار)، وهذه ظاهرة غريبة.
وتوظف الشاعرة اليهودية طال نيتسان الخطّ والمثلَ العربيين لتكتب قصيدتها "خان يونس"، في مقارنة بين الطفل الفلسطيني ــ الغزّي، والطفل اليهوديّ ــ الإسرائيليّ المدلّل، تخاطب الأمّ الفلسطينية:
الخدش على يد ابني يُقبّل
لكنّ ابنك الصغير الذي لا يعرف إلّا الفزع
لا يمكن أن تمحو فزعه قبلة...
"الباب الّلي يجيلك منه الريح
سدّه واستريح"...
وفي التوقف مع غير قصيدة عبرية، يشير المؤلّف إلى ظاهرة كتابة الكلمات العربية بالحرف العبري، وكتابة الكلمات العبرية بحروف عربية، بوصفها ظاهرة من ظواهر التأثّر والتأثير بين الشعرَين والثقافتين.
وهو يأخذ على بعض الدراسات التي درست التأثير المتبادل مآخذ عدة، أوّلها الاقتصار في الحديث عن محمود درويش، وغياب الشعراء إلّا من خلال درويش نفسه، وخصوصًا أنها أهملت شعراء تأثروا بالتراث العبري أكثر من تأثر درويش ولم تلمح إليهم مجرد تلميح. وثاني هذه المآخذ أن الدراسات تحاملت على الشاعر بشكل لافت، وأنها اتخذت الموقف السياسيّ، ولم تتناول الدراسات تأثير درويش في الشعر العبريّ. واللافت في دراسة فتح الله أنها تمنح تجربة درويش المساحة والاهتمام الأوسع.
خلاصة أخيرة
في قراءة استخلاصية لعلاقة الشاعر مع تراثه من جهة، ومع تراث "الآخر" من جهة ثانية، يقف الباحث على الفرق بين الشاعر الفلسطيني والشاعر العبري لجهة رؤية كل منهما للآخر وتراثه، حيث الموقف من التراث لا يعبر عن طبيعة فنية فقط، بل عن موقف سياسيّ وأيديولوجيّ أيضًا، وهو ما تتجلّى معه ظواهر متعلقة بتوظيف التراث، مثل الانتقائية، والتوازي في طبيعة التراث، والموقف من الصراع من ناحية، ومع متغيرات الصراع من ناحية ثانية.
ويتوقف الباحث هنا ليلتقط التقاطة هامة هي اتساع رؤية الشاعر الفلسطيني ونظرته إلى التراث العبري، مقابل ضيق هذه الرؤية لدى الشاعر العبريّ، إلى درجة طغيان النظرة العنصرية لديه، حدّ رغبته في التدمير، باستثاء قلة من الشعراء اليهود الذين تعاملوا مع الفلسطيني بدافع تطهير الذات أكثر منه نصرة للحق الفلسطيني، كما يرى المؤلّف. وهذه قضية ينبغي الوقوف عليها بمزيد من العمق والتوسّع من قبل الباحثين والنقّاد، وحتى المبدعين في كلّ مجالات الإبداع، الفلسطينيين والعرب، من خلال التركيز على تأثير الفكر الصهيوني العنصري الذي دمغ العقل اليهودي بهذه العنصرية!