كتاب "الحلم المحبَط: في الهوية والدولة والحداثة" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، للكاتب الفلسطيني المقيم في باريس محمد حافظ يعقوب، غير منقطع الصلة، من ناحية المضمون والموضوعات، عن مؤلفاته السابقة التي تناول فيها تاريخ القضية الفلسطينية، والتخلف والتحرر العربي وموضوع اللاجئين والأبارتهايد، ومسألة الاستعصاء الديمقراطي، وقد كرسه بصورة رئيسية لأزمة الدولة الراهنة، وقسمه لخمسة فصول تدور من حول مواضيع الهوية والعقلانية والدولة والقومية السياسية والهوية والحداثة والحداثة السياسية والعقيدة القومية، بالإضافة إلى المشكلات المتزامنة مع انتشار هذه الظواهر ونقاط وهنها وقوّتها، ومصيرها على أبواب القرن الحادي والعشرين.
يقول الكاتب إنه كتب الفصول الخمسة في فترات زمنية مختلفة، لكن هذا لا يمنع النظر إليها ضمن وحدة متكاملة، طالما أنها تتناول قضايا تتشابك وتتقاطع لجهة الأزمنة والمفاهيم والأغراض، من وجهة نظر يغلب عليها التنظير، ومن منطلق استناد العمل على فرضتين. الأولى هي أن الحداثة كفت عن إنتاج التاريخ. والثانية هي أن دولة الحداثة، أي الدولة القومية، أو الدولة الأمة فقدت، إلى غير رجعة، طاقة البناء. وعلاوة على ذلك هو مرافعة من أجل الحرية، وتفكيك لمقولة الهوية وتعبيراتها، ويكمن الغرض منه في مقاربةُ قضية غلبة مقال الهوية وتسيُّده ووهَن مقال الحرية في العقود الأخيرة على نحو خاص. وبالتالي هو ليس كتابًا في التاريخ بل في المعارف، وفي الأفكار وحواملها الاجتماعية، على حد تعبير المؤلف في التقديم الذي ساقه.
يبدأ الكتاب بتقديم مطول في الهوية والعقلانية والدولة، من منظور أن "كل تأمل حرية، وبالضرورة مغامرة، ذات نتائج غير مضمونة"، وعلى هذا يبدو اليقين إلى "الاعتقاد الاسطوري أقرب"، وترجح الحداثة بوصفها الحقبة الوحيدة المسلحة بـ"القدرة الدائمة على إعادة الانتاج الرمزي للعالم"، مع أن العلوم جميعها دخلت مذ أربعة عقود على الأقل في مرحلة من التفكك والتآكل الداخلي، خلافًا لما ساد من يقين في ستينيات القرن الماضي، وبالتالي تتقاطع الموضوعات التي تتصل بقضايا الحرية والهوية مع ما كان أطلق عليه في القرن السادس عشر المفكر الفرنسي اتيان دو لا بويسي اسم "العبودية الطوعية". ويستنتج الكاتب أن هناك علاقة بين هذه المقالة الشهيرة وكتاب ميكيافيلي "الأمير"، وتأثرًا للأول بالثاني وردًا عليه، أو على الأقل بما أفصحت عنه القراءات المتعددة للنص، بوصفه معبرًا عن الشرط الإنساني، شرط الحرية، والتي أعطته معنى حقيقيا تخضع لحيويته، وما يوافق حاجات الناس وأهوائهم وتوظيفاتهم. وبهذا المقام فإن ثراء التأمل ينسحب على نصوص كثيرة في تنظيرات آخرين مثل ابن خلدون والكواكبي، من أجل "مدنا بالزاد الضروري لمقارعة الاستبداد".
مفهوم الحرية السائد مرتبط بالحداثة السياسية، ولذلك يراه الكاتب غير محتواه لدى القدماء. فبقدر ما هي شرط اجتماعي، هي وعد طبيعي "علينا ملؤه ليس بالحلم، بل بالإنجاز، بالكفاح من أجل أن نكون جديرين بهذا الوعد". ويطرح الكاتب سؤال التحرر الوطني، لا سيما وأن الشعوب الحديثة تواجه التهميش والتحلّل وخسارة مكتسباتها الاستراتيجية القليلة المنتزَعة في المرحلة القريبة السابقة. ويتوخى من تمهيد هذا السياق التوقف أمام التحولات الحاصلة في المرحلة الراهنة والتفكير في الحرية الإنسانية في ظل الانهيارات التي يعيشها عالم اليوم في ظل ظهور هويات تدميرية وعصبيات "تبدو كما لو أنها استعادة لما كان قد قيل من أن أيامه مضت إلى غير رجعة".
ويرى الكاتب أن التزمّت الهوياتي (العنصرية، الحاضن الأيديولوجي لليمين المتطرف حسب كريستيان فيرييه) واستفحاله في العقدين الأخيرين ناجمان عن تلاقي سيرورتين تاريخيتين كبريين هما: وَهَن الحداثة وتعثّر خطابها وخبوّ دورها المركزي قاطرةً للتاريخ العالمي، وتراجع طاقة الدولة القومية الحديثة في الدمج الاجتماعي وفبركة أمّة وتكلّس دولة الرفاه من جهة، ومن جهة أخرى اندحار العولمة عن طوباويتها وغُدُوّها أشبه بقطار يقوده سائق أرعن يكتسح الفيافي ويلفظ ركّابَه بعد أن يجردهم من متاعهم وأرواحهم.
في الهوية والحرية والتقدم يبتعد الكاتب عن أسطرة الذاكرة الجمعية، وينظر إلى الهوية من منظور تشكلها كصورة في مرآة الذات غير ثابتة، متغيرة لأنها سيرورة في التاريخ، أي بوصفها نتاجا للشرط التاريخي الاجتماعي، وهي متحركة في المجتمعات الصغيرة، وقابلة للتحول، ويمكن خسرانها أو اكتسابها. ويقف أمام مصطلحي الحداثة السياسية والهوية السياسية، وحيال الأول يزعم أن قضية الخصوصية والهوية من معطيات الحداثة السياسية، لأن الدولة القومية هي التي وضعت قضية الهوية في صميم هويتها كدولة، ولذلك تعيش تناقضات الحداثة. وحين يتناول الثاني ينتقد خطاب الهوية السياسية، الذي يتوج الجماعة بغار المجد التليد كما فعل موسوليني بقوميته الشعبوية، والنظم العربية التي صعدت باسم مجد الأمة وإحياء ماضيها التليد، في الوقت عملت فيه على اضطهاد الناس واذلالهم. ويطرح السؤال حول حال الاستعصاء والانسداد التاريخي، ويرى أن "التفكير العربي" في حالة عجز عن تلمس ظاهرة الاستعصاء، رغم أن العرب لم يكفوا منذ عصر النهضة العربية عن تكرار سؤال شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين "لماذا تأخر العرب والمسلمون؟". ورغم أن هذه الدراسة تالية لمآلات الربيع العربي، فإنها تتصل بها من حيث النهاية الحزينة، باختلاف أن الانسداد أصبح انغرازا بسبب انتصار التسلط بصورة نهائية.
تبقى الحرية ممارسة الممكن الذي كان من قبل مستحيلا، وما يحولها إلى حقيقة وممارسة هو النقد، الذي يتأتى من تعرف العقل على ذاته كعقل عملي، أي كممارسة وكفكر نقدي وحرية في آن. وبالتالي فإن الديمقراطية ليست الحرية، لكن لا ديمقراطية من غير حرية، ويقول الكاتب إن غلبة خطاب الهوية يمثل إحدى العقبات على طريق الحرية، ومن ذلك الدور التحريضي، الذي يقوم به خطاب الهوية في انهيارات اليوم، وليست الإسلاموفوبيا غير دليل من هذه الأدلة. مع ما يشكله إغواء الهوية، الذي يقود إلى الانتقال من موقع إلى آخر مضاد، من شيوعي إلى شيعي ومن ناصري إلى سلفي.
يتجلى الحلم المحبط من خلال التأمل في أزمة الدولة، بما يمثله عجز هذه المؤسسة عن مسايرة التحولات الاجتماعية العميقة الماثلة اليوم من وضعها في سياق الحداثة. وهنا تقع المعرفة في مركز الأطروحة، في الفجوة ما بين ما انتهت صلاحيته والجديد الذي ما زال يشق طريقه المتعثر، في حين أن الحداثة تعيش توترًا بنيويا يتجلى، بالتوتر الناجم عن البحث الدائم عن نموذج يفترض فيه التحلي بخاصيتي الفرادة والصلاحية في آن. ويدعو الكاتب إلى تحاشي نموذج الدولة الاستبدادية التي عاشها ويعيشها العرب المعاصرون، في الوقت الذي يرى فيه أن عطب الدولة الحديثة التي عرفتها المنطقة العربية منذ الاستقلالات، وأزمتها اليوم في جمعها بين نموذجين للدولة في إطار واحد وفي نظام واحد هما نموذج الدولة القهرية، من جهة، وتدخل الدولة الحديثة وتغولها، من جهة أخرى. وإلى هذا تبدو أزمة الدولة القطرية العربية على صلة بالمشروع العروبي وفق الصورة التي طرحتها الأجيال المتعاقبة من المثقفين والمناضلين، في ظل فشل الحركة القومية العروبية في برنامجها التوحيدي، وهنا تتبدى مفارقة مهمة في نظر الكاتب وهي أن الفكرة القومية العربية تعرف تدنيًا ووهنًا يتجلى بالاعتراف إما بفشلها النهائي، أو نهاية دورها وبضرورة تجديدها وتكيفها مع متطلبات المرحلة الحاضرة، وهذا ميدان بحث آخر.
يقول الكاتب إنه كتب الفصول الخمسة في فترات زمنية مختلفة، لكن هذا لا يمنع النظر إليها ضمن وحدة متكاملة، طالما أنها تتناول قضايا تتشابك وتتقاطع لجهة الأزمنة والمفاهيم والأغراض، من وجهة نظر يغلب عليها التنظير، ومن منطلق استناد العمل على فرضتين. الأولى هي أن الحداثة كفت عن إنتاج التاريخ. والثانية هي أن دولة الحداثة، أي الدولة القومية، أو الدولة الأمة فقدت، إلى غير رجعة، طاقة البناء. وعلاوة على ذلك هو مرافعة من أجل الحرية، وتفكيك لمقولة الهوية وتعبيراتها، ويكمن الغرض منه في مقاربةُ قضية غلبة مقال الهوية وتسيُّده ووهَن مقال الحرية في العقود الأخيرة على نحو خاص. وبالتالي هو ليس كتابًا في التاريخ بل في المعارف، وفي الأفكار وحواملها الاجتماعية، على حد تعبير المؤلف في التقديم الذي ساقه.
يبدأ الكتاب بتقديم مطول في الهوية والعقلانية والدولة، من منظور أن "كل تأمل حرية، وبالضرورة مغامرة، ذات نتائج غير مضمونة"، وعلى هذا يبدو اليقين إلى "الاعتقاد الاسطوري أقرب"، وترجح الحداثة بوصفها الحقبة الوحيدة المسلحة بـ"القدرة الدائمة على إعادة الانتاج الرمزي للعالم"، مع أن العلوم جميعها دخلت مذ أربعة عقود على الأقل في مرحلة من التفكك والتآكل الداخلي، خلافًا لما ساد من يقين في ستينيات القرن الماضي، وبالتالي تتقاطع الموضوعات التي تتصل بقضايا الحرية والهوية مع ما كان أطلق عليه في القرن السادس عشر المفكر الفرنسي اتيان دو لا بويسي اسم "العبودية الطوعية". ويستنتج الكاتب أن هناك علاقة بين هذه المقالة الشهيرة وكتاب ميكيافيلي "الأمير"، وتأثرًا للأول بالثاني وردًا عليه، أو على الأقل بما أفصحت عنه القراءات المتعددة للنص، بوصفه معبرًا عن الشرط الإنساني، شرط الحرية، والتي أعطته معنى حقيقيا تخضع لحيويته، وما يوافق حاجات الناس وأهوائهم وتوظيفاتهم. وبهذا المقام فإن ثراء التأمل ينسحب على نصوص كثيرة في تنظيرات آخرين مثل ابن خلدون والكواكبي، من أجل "مدنا بالزاد الضروري لمقارعة الاستبداد".
مفهوم الحرية السائد مرتبط بالحداثة السياسية، ولذلك يراه الكاتب غير محتواه لدى القدماء. فبقدر ما هي شرط اجتماعي، هي وعد طبيعي "علينا ملؤه ليس بالحلم، بل بالإنجاز، بالكفاح من أجل أن نكون جديرين بهذا الوعد". ويطرح الكاتب سؤال التحرر الوطني، لا سيما وأن الشعوب الحديثة تواجه التهميش والتحلّل وخسارة مكتسباتها الاستراتيجية القليلة المنتزَعة في المرحلة القريبة السابقة. ويتوخى من تمهيد هذا السياق التوقف أمام التحولات الحاصلة في المرحلة الراهنة والتفكير في الحرية الإنسانية في ظل الانهيارات التي يعيشها عالم اليوم في ظل ظهور هويات تدميرية وعصبيات "تبدو كما لو أنها استعادة لما كان قد قيل من أن أيامه مضت إلى غير رجعة".
ويرى الكاتب أن التزمّت الهوياتي (العنصرية، الحاضن الأيديولوجي لليمين المتطرف حسب كريستيان فيرييه) واستفحاله في العقدين الأخيرين ناجمان عن تلاقي سيرورتين تاريخيتين كبريين هما: وَهَن الحداثة وتعثّر خطابها وخبوّ دورها المركزي قاطرةً للتاريخ العالمي، وتراجع طاقة الدولة القومية الحديثة في الدمج الاجتماعي وفبركة أمّة وتكلّس دولة الرفاه من جهة، ومن جهة أخرى اندحار العولمة عن طوباويتها وغُدُوّها أشبه بقطار يقوده سائق أرعن يكتسح الفيافي ويلفظ ركّابَه بعد أن يجردهم من متاعهم وأرواحهم.
في الهوية والحرية والتقدم يبتعد الكاتب عن أسطرة الذاكرة الجمعية، وينظر إلى الهوية من منظور تشكلها كصورة في مرآة الذات غير ثابتة، متغيرة لأنها سيرورة في التاريخ، أي بوصفها نتاجا للشرط التاريخي الاجتماعي، وهي متحركة في المجتمعات الصغيرة، وقابلة للتحول، ويمكن خسرانها أو اكتسابها. ويقف أمام مصطلحي الحداثة السياسية والهوية السياسية، وحيال الأول يزعم أن قضية الخصوصية والهوية من معطيات الحداثة السياسية، لأن الدولة القومية هي التي وضعت قضية الهوية في صميم هويتها كدولة، ولذلك تعيش تناقضات الحداثة. وحين يتناول الثاني ينتقد خطاب الهوية السياسية، الذي يتوج الجماعة بغار المجد التليد كما فعل موسوليني بقوميته الشعبوية، والنظم العربية التي صعدت باسم مجد الأمة وإحياء ماضيها التليد، في الوقت عملت فيه على اضطهاد الناس واذلالهم. ويطرح السؤال حول حال الاستعصاء والانسداد التاريخي، ويرى أن "التفكير العربي" في حالة عجز عن تلمس ظاهرة الاستعصاء، رغم أن العرب لم يكفوا منذ عصر النهضة العربية عن تكرار سؤال شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين "لماذا تأخر العرب والمسلمون؟". ورغم أن هذه الدراسة تالية لمآلات الربيع العربي، فإنها تتصل بها من حيث النهاية الحزينة، باختلاف أن الانسداد أصبح انغرازا بسبب انتصار التسلط بصورة نهائية.
تبقى الحرية ممارسة الممكن الذي كان من قبل مستحيلا، وما يحولها إلى حقيقة وممارسة هو النقد، الذي يتأتى من تعرف العقل على ذاته كعقل عملي، أي كممارسة وكفكر نقدي وحرية في آن. وبالتالي فإن الديمقراطية ليست الحرية، لكن لا ديمقراطية من غير حرية، ويقول الكاتب إن غلبة خطاب الهوية يمثل إحدى العقبات على طريق الحرية، ومن ذلك الدور التحريضي، الذي يقوم به خطاب الهوية في انهيارات اليوم، وليست الإسلاموفوبيا غير دليل من هذه الأدلة. مع ما يشكله إغواء الهوية، الذي يقود إلى الانتقال من موقع إلى آخر مضاد، من شيوعي إلى شيعي ومن ناصري إلى سلفي.
يتجلى الحلم المحبط من خلال التأمل في أزمة الدولة، بما يمثله عجز هذه المؤسسة عن مسايرة التحولات الاجتماعية العميقة الماثلة اليوم من وضعها في سياق الحداثة. وهنا تقع المعرفة في مركز الأطروحة، في الفجوة ما بين ما انتهت صلاحيته والجديد الذي ما زال يشق طريقه المتعثر، في حين أن الحداثة تعيش توترًا بنيويا يتجلى، بالتوتر الناجم عن البحث الدائم عن نموذج يفترض فيه التحلي بخاصيتي الفرادة والصلاحية في آن. ويدعو الكاتب إلى تحاشي نموذج الدولة الاستبدادية التي عاشها ويعيشها العرب المعاصرون، في الوقت الذي يرى فيه أن عطب الدولة الحديثة التي عرفتها المنطقة العربية منذ الاستقلالات، وأزمتها اليوم في جمعها بين نموذجين للدولة في إطار واحد وفي نظام واحد هما نموذج الدولة القهرية، من جهة، وتدخل الدولة الحديثة وتغولها، من جهة أخرى. وإلى هذا تبدو أزمة الدولة القطرية العربية على صلة بالمشروع العروبي وفق الصورة التي طرحتها الأجيال المتعاقبة من المثقفين والمناضلين، في ظل فشل الحركة القومية العروبية في برنامجها التوحيدي، وهنا تتبدى مفارقة مهمة في نظر الكاتب وهي أن الفكرة القومية العربية تعرف تدنيًا ووهنًا يتجلى بالاعتراف إما بفشلها النهائي، أو نهاية دورها وبضرورة تجديدها وتكيفها مع متطلبات المرحلة الحاضرة، وهذا ميدان بحث آخر.