صدرت قبل أسابيع قليلة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت "مذكرات الرئيس سليمان النابلسي"، التي دونها الدكتور علي محافظة، بناء على أحاديث شفوية كان أجراها وسجلها له، قبل وفاته بأشهر قليلة.
ويُعدُّ الكشف عن هذه المذكرات ونشرها، بعد 47 عامًا على تسجيلها، عام 1976، حدثًا استثنائيًا، لما لسليمان النابلسي من مكانة سياسية مرموقة في تاريخ الحركة الوطنية، وفي الحياة السياسية الأردنية عمومًا، خلال الحقبة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أواسط سبعينيات القرن الماضي. وربما الأهم من ذلك كله أنه يتضمن رواية سليمان النابلسي للوقائع التي أدت إلى إقالة حكومته، وما تبعها من تطورات سياسية، وما زعم بوقوع محاولة انقلابية.
والنابلسي الذي ولد في مدينة السلط الأردنية سنة 1910 (وهي السنة التي شهدت "هبة الكرك" ضد الحكم العثماني) جمع في شخصيته ما بين رجل الدولة الذي تدرج في عدد من الوظائف الحكومية، وأبرزها وزيرًا للمالية، وسفيرًا للأردن في بريطانيا، ثم رئيسًا لأول حكومة ائتلافية منبعثة عن البرلمان الأردني (ما بين 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، و12 أبريل/ نيسان 1957)، وبين شخصية الناشط والقائد السياسي، الذي تشكلت ثقافته، وصقلت شخصيته السياسية القيادية إبان دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث انتُخب رئيسًا لغير مرة لجمعية "العروة الوثقى" الطلابية العربية. ومن ثم تدرج في الممارسة السياسية داخل الأردن، من معارضة المعاهدة الأردنية ــ البريطانية الأولى، ومقاطعة المجلس التشريعي الأول (1928)، إلى الانضمام إلى التشكيلات السياسية الأردنية المبكرة، مثل "عصبة العمل القومي" (1933)، و"الحزب العربي الأردني". تفرغ النابلسي للعمل السياسي إثر استقالته من الحكومة، بعيد الحرب العالمية الثانية، وشكل ما عرف باسم "الجبهة الوطنية"، التي ضمت مختلف النزعات السياسية، وأصدر، بالتعاون مع شفيق رشيدات، مجلة "الميثاق"، في أواخر الأربعينيات. وكانت آخر مساهماته في العمل الحزبي قيادته للحزب الوطني الاشتراكي الذي حصل على ترخيصه في 7 يوليو/ تموز 1954، واستمر حتى حله عام 1957.
هذه الحياة الحافلة لابن الحركة الوطنية الأردنية وزعيمها المتوج حتى وفاته، يرويها كتاب الدكتور علي محافظة بقدر كبير من التشويق حتى عام 1960، حيث توقف المحافظة عند هذه المحطة عن تدوين "مذكرات" النابلسي، بسبب تدهور صحة الأخير، والذي أصيب بمرض سرطان الدم، وتوفي في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1976.
ولأهمية هذا الكتاب، سوف نمر في هذه القراءة المستفيضة التي يسردها صاحب المذكرات عن حياته، للتنقل بعدها لتسجيل بعض الاستخلاصات والاستنتاجات التي تكشف عنها هذه القراءة، ولا سيما شخصية النابلسي ومكانته في الحياة السياسية الأردنية.
النشأة والدراسة
تتألف مذكرات النابلسي من سبعة فصول، ومجموعة من الوثائق والصور الفوتوغرافية. وهي مدونة بلغة رشيقة لا تخلو من التشويق، حيث حرص الدكتور المحافظة على تركها على حالها غالبًا، لأنها تعكس روح صاحبها، ولغته الخاصة. يسرد الفصل الأول نشأة النابلسي ودراسته الأساسية في السلط ونابلس والقدس، ومن ثم دراسته الجامعية للاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث تكونت ثقافته السياسية، ومارس، كما أسلفنا، أولى أدواره في العمل العام، رئيسًا لجمعية العروة الوثقى الطلابية العربية لدورات عدة.
أما الفصل الثاني فيعرض مسيرته الوظيفية التي بدأها معلمًا للغة الإنكليزية في مدرسة الكرك، قبل أن ينتقل، بعد عام، إلى العمل في وظيفة أخرى هي رئاسة ديوان في مجلس الوزراء، تخللتها إقدامه، مع الدكتور قاسم ملحس، على تأسيس "النادي الفيصلي" القائم إلى يومنا هذا، وهو النادي الذي مزج ما بين بث الوعي الوطني في أعضائه، وبين ممارسة الرياضة.
النابلسي في الوظيفة الحكومية
يصف الفصل الثاني مسيرة النابلسي السياسية والوظيفية ما بين عامي 1932 و1939، والأخير هو عام اندلاع الحرب العالمية الثانية، فيمر على محطات عدة من حقبة تاريخية مهمة في تاريخ الشعب الأردني، في مقدمتها إبرام المعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1928، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي الأول في العام نفسه، من ثم نشأة التنظيمات السياسية الأردنية الأولى (1933 ــ 1936) مرورًا بالمؤتمرات الوطنية الأردنية، وما واجهته من محاولات لإفراغها من عناصرها الوطنية، ثم يتوقف أمام دور الشعب الأردني في إسناد ثورة فلسطين سنة 1936 ومواقفه من لجنة بيل/ Peel سنة 1937، ولجنة التقسيم عام 1938.
التحولات الاجتماعية إبان الحرب العالمية الثانية
في الفصل الثالث من الكتاب، يشخص النابلسي وضعية شرقي الأردن إبان الحرب العالمية الثانية، وكان حينها لا يزال في الخدمة الحكومية. فهو يشير إلى انقسام الموقف الداخلي من القوى العظمى المتحاربة حينذاك، وبينما أعلن الأمير عبد الله الحرب على ألمانيا، عندما كان عدد جنود الجيش العربي الأردني لا يتجاوز 800 جندي، فإن الغالبية الساحقة من الشعب كانت مع الألمان، لا حبًا فيهم، وإنما كرهًا في الإنكليز.
ومن اللافت أن النابلسي كان يناهض النازية، باعتبارها عدوًا للحرية، تقوم على مبدأ الاستعلاء العرقي، بعكس عدد من القادة السياسيين العرب المناهضين لبريطانيا، مثل الحاج أمين الحسيني (فلسطين)، وعزيز المصري (مصر)، ورشيد عالي الكيلاني (العراق)، والدكتور صبحي أبو غنيمة (الأردن)... إلخ.
يصف النابلسي التحولات الاجتماعية السريعة التي رافقت الحرب العالمية الثانية، ولا سيما نشوء "طبقة الأغنياء الجدد"، خاصة مع تحوّل الأردن إلى مركز رئيسي لتهريب المواد المفقودة زمن الحرب. حيث تحول الأردن في تلك السنوات إلى مركز استقطاب للتجار والعمال من الدول العربية المجاورة، بل إن الجيش الأردني في توسعه العددي إبان الحرب جنَّد عددًا من مواطني الدول العربية المجاورة في صفوفه.
وفي الفصل نفسه (أي الفصل الثالث)، يروي قصة زواجه وعلاقته بولديه، فارس ورباب. فهو من ناحية يروي كيف أنه تزوج زواجًا تقليديًا، من عائلته، ويمتدح هذا النوع من الزواج لرجل انغمس في السياسة حتى أخمص قدميه، وتعرض للسجن والاعتقال سبع عشرة مرة، وعانى من الفاقة وانعدام الدخل المنتظم، حتى كانت الاستدانة ملجأه شبه الدائم. ويمتدح زوجته التي "احتملت كل المنغصات التي تعرض لها"، و"أمنت لي راحة النفس، وأبعدت عني القلق" (ص 93).
ثم يفرد النابلسي فقرات للحديث عن ابنه فارس، وابنته رباب (توفيت مؤخرًا، يوم 3/ 9/ 2024)، اللذين درسا في الجامعات المصرية على نفقته، وهو في الإقامة الإجبارية، معتذرًا عن قبول عرض الحكومة المصرية التكفل بمصاريف دراستهما. بل يروى كيف قطعت ابنته رباب دراستها في القاهرة لعجز والدها عن الإنفاق عليها، وكيف لجأ إلى موسى العلمي لتعيينها موظفة في مؤسسة لرعاية اللاجئين في رام الله.
بين وزارة المالية وسكرتاريا رئاسة الوزراء
يعود النابلسي في هذا الفصل ليروى قصة عمله في وزارة المالية، حيث بدأ "من الصفر"، حسب تعبيره، في التسلسل الوظيفي، رغم دراسته علوم الاقتصاد والتجارة في الجامعة الأميركية، وذلك لغايات التعلم والتدريب. وبعد أن أمضى ستة أشهر في التدريب في مختلف الأقسام، عين في وظيفة مراقب اللوازم، ولما كانت فترة عمله بهذه الوظيفة متزامنة مع الحرب العالمية الثانية، وكان على الأردن، الذي لم يتجاوز عدد قواته 800 فرد حينذاك، أن يضاعف عددها إلى 3000 فرد، فقد تولى النابلسي مسؤوليات إعداد معاملات شراء اللوازم من وكلاء التاج، وكان عليه تعبئة طلبات الشراء المعقدة لتأمين هذه اللوازم، مما كان يضطره للسهر في الوزارة للساعة الواحدة صباحًا.
كانت آخر وظائف النابلسي في وزارة المالية رئيسًا لقسم المحاسبة، حيث انتقل بعدها ليشغل منصب وظيفة سكرتير الحكومة. وهنا يصرف فقرات عدة للحديث عن "المفاوضات" التي جرت ما بين توفيق أبو الهدى، وبين شكري شعشاعة، وزير المالية حينذاك، الذي كان يتمسك بالنابلسي، ويرغب في الاحتفاظ به في وزارته، المالية. هنا نجد ذلك الاعتزاز الشديد بالنفس لدى النابلسي، الذي يذكر بأنه لم يكن مسنودًا من أي جهة سياسية، أو عائلية، وأن وصوله إلى هذا المنصب العالي هو نتيجة "لكفاءتي وإخلاصي لعملي، وانصرافي الجدي إلى تأدية واجباتي، وتحمل مسؤولياتي" (ص 112).
يروي النابلسي بعد ذلك تفاصيل أحداث ومواقف غير معروفة عن كل من توفيق أبو الهدى، وإبراهيم هاشم، اللذين تعاقبا على رئاسة الحكومة، ودورهما في منح امتيازات التنقيب عن المعادن لشركات يهودية. كما يروي وقائع تظهر تمسك البريطانيين بتوفيق أبو الهدى، بل وتفضيله حتى على الأمير عبد الله، في اللحظات الحرجة!! كما يروي النابلسي كيف سافر إلى القدس، وعمل مع القادة الفلسطينيين على فضح اتفاقية منح الشركة الصهيونية امتيازًا للتنقيب عن المعادن في مختلف مناطق الأردن. وكيف أخذت الصحافة الفلسطينية تكتب عن تلك الاتفاقية، وتحذر من مخاطرها على الأردن.
النابلسي مبعدًا
ثم يروي بشيء من التفصيل قصة معاقبته بالنفي إلى إحدى قرى الشوبك، حيث نقل عند عودته من فلسطين، عبر جسر اللنبي، إلى سجن عمان المركزي، ليقضي ليلته هناك، ثم لينقل بشاحنة مكسورة النوافذ، مع ضابط وجندين، إلى معان، ومن ثم إلى قرية في الشوبك تدعى "ماء نجل"، حيث استقبل من أبنائها، وقاموا بتقديم العشاء والمنامة له. وبمساعده أحد أبناء القرية نَصَّبَ خيمة "مقطعة" ليقيم فيها، قبل أن تُبنى غرفة له عاش فيها فترة النفي، التي بلغت حوالي مئة يوم.
وفي أثناء فترة النفي هذه، تردد عليه عدد من رسل الأمير عبد الله، الذين حاولوا إقناعه بكتابة رسالة استعطاف ليعفو عنه الأمير ويحرره من الحياة القاسية في منفاه، لكن النابلسي أخذته العزة، ورفض استجداء الأمير، حسب تعبيره، وآثر أن يبقى في منفاه. بل إن جمال الحسيني، القائد الفلسطيني لحزب الاستقلال، عندما علم بنفي النابلسي إلى الشوبك خطط لتهريبه من هناك إلى فلسطين عبر وادي عربة، لكن النابلسي رفض هذا العرض أيضًا.
وجاء وقت شعر فيه النابلسي بحاجته إلى الاستقالة من سكرتاريا الحكومة. يقول في هذا الصدد "كنت أشعر أن مسؤوليتي أكبر من أن أكون موظفًا"، ومع ازدياد عدد خريجي الجامعات من مهندسين وأطباء ومحامين "الذين لم تعد الدولة قادرة على استيعابهم، فكان لا بد من تنظيمهم"، و"أنه آن الأوان لمن كان مثلي أن يتولى مسؤولية قيادة الحركة الوطنية" (ص 122/ 123).
يقول النابلسي عن ذلك: أسسنا حزبًا هو "الحزب العربي الأردني"، وتركنا الرئاسة شاغرة، ليتولاها الدكتور صبحي أبو غنيمة (الذي كان اختار اللجوء السياسي إلى دمشق)، وتوليت الأمانة العامة للحزب، وانضم إليه عدد من الشباب، وعندما تقدم الحزب بطلب الترخيص له رفضت الحكومة منحه ذلك. وفي حينها عرض على النابلسي تولي إدارة فرع البنك العربي في عمان، وقد قبل تلك الوظيفة بعد تردد.
يتناول الفصل الرابع من مذكرات النابلسي حقبة هامة من تاريخ الأردن الحديث، وهي السنوات الواقعة بين 1946 و1951، والتي شهدت حصول الأردن على استقلاله السياسي المشروط بمعاهدة 1946 مع بريطانيا، وانتقال الدولة، بموجب دستور 1947، من إمارة إلى مملكة، ومن ثم وقوع حرب 1948، وضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
رأى النابلسي معاهدة 1946 خطوة على طريق الاستقلال، ولم تكن من السوء بحيث تشبه معاهدة 1928، التي هي "استعمار واضح وصريح وتحدٍ للإرادة الوطنية". أما الدستور الأردني الجديد الذي أقر في الأول من فبراير/ شباط 1947، فقد وصفه النابلسي بأنه خطوة متقدمة مقارنة مع القانون الأساسي الموضوع عام 1928، حيث نص على وجود مجلس نواب منتخب يتمتع أعضاؤه ببعض الصلاحيات، فهم مثلًا ينتخبون رئيس مجلس النواب بدلًا عن تعيينه من قبل الملك، كما أن عدد أعضاء مجلس النواب ازداد، ما سمح بدخول عناصر جديدة معارضة إلى المجلس، وجعل الحكومات تحسب لهم حسابًا.
النابلسي وزيرًا
في 4 فبراير/ شباط 1947، شكل سمير الرفاعي حكومته الثانية، وقد شارك فيها من الحزب العربي الأردني سليمان النابلسي وزيرًا للمالية، وبشارة غصيب وزيرًا للعدلية.
يروي النابلسي قصة مشاركته تلك، فيقول إن سمير الرفاعي عرض عليه المشاركة في حكومته، لكنه رفض. وصل الأمر إلى الملك عبد الله، الذي غضب وخاطب سليمان النابلسي بقوله: "أنت تخدم شومان ولا تخدمني"، في إشارة إلى قبول النابلسي تولى إدارة البنك العربي في عمان بطلب من عبد الحميد شومان، بعد استقالته من سكرتاريا رئاسة الوزراء. وقد ضغط عليه رفاقه في الحزب العربي الأردني، قائلين له "القضية ليست قضيتك، وإنما هي قضية البلد" (...) وأنت كأمين عام للحزب لا تملك قرار الرفض، وإنما نحن الذين نقرر قبول اشتراكك في الحكم"!! (ص 131).
ونجح النابلسي في مساومة الرفاعي على المشاركة بوزير إضافي من الحزب هو بشارة غصيب. وقد استقالت هذه الحكومة في نهاية عام 1947، وحلت محلها حكومة جديدة برئاسة توفيق أبو الهدى، وقد جاءت، بحسب النابلسي، "لتنفيذ المخطط البريطاني في فلسطين".
انصرف النابلسي، بعد استقالة الرفاعي وتأليف حكومة جديدة برئاسة أبو الهدى، إلى العمل السياسي، وافتتح مكتبًا خاصًا له، ولم يعد إلى البنك العربي، حيث عمل على تأليف "الجبهة الوطنية" التي ضمت نشطاء متعددي الاتجاهات. وحسب النابلسي، فإن هدف الجبهة الوطنية "إن لم يكن تحقيق الاستقلال التام فهو تقليل شرور الوضع القائم في الأردن، والعمل على تمكين السيادة الوطنية (...)، وإعطاء المؤسسات الدستورية حقوقها، ورفع معنويات الشعب والعمل على سيادة القانون في البلاد، ثم نشر الروح الديمقراطية" (ص 133).
يتوقف النابلسي مطولًا في الفصل الرابع من مذكراته عند توفيق أبو الهدى، الذي تولى رئاسة الحكومة عشية انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، واندلاع المواجهة مع الحركة الصهيونية، حينها أبرمت الحكومة الأردنية معاهدة 1948 مع بريطانيا. وتزامن هذا مع اتفاق أبو الهدى مع الحكومة البريطانية على أن تحل القوات الأردنية في المناطق المخصصة للعرب، وفق مشروع التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/ 11/ 1947. وبكلمات أخرى، عدم تقدم القوات الأردنية نحو المناطق المخصصة لليهود من فلسطين بموجب مشروع التقسيم المذكور آنفًا.
يقول النابلسي إن أبو الهدى رفض أن يعرض اتفاقية معاهدة 1948 على البرلمان، حيث ادعى الأخير أن الدستور لا يرغمه على عرض المعاهدة عليه. ولذلك هاجمته مجلة "الميثاق" علنًا، وتحدته بأن يعرض المعاهدة على البرلمان. ولتجنب ذلك، تمّ استدعاء النواب إلى القصر الأميري، حيث طلب إليهم منفردين رفع برقية تأييد للمعاهدة. ويذكر أسماء النواب الذين رفضوا توقيع برقيات تأييد معاهدة "لم يروها ولم يقرأوها"، وهم عبد الحليم النمر، شفيق ارشيدات، صالح المعشر، الدكتور محمد حجازي.
ثم قام النابلسي بكتابة مقالة في "الميثاق" تحت عنوان "الثلج يذوب"، هاجم فيها معاهدة 1948، ووصفها بأنها جريمة بحق هذا البلد. ولم تلبث الحكومة أن قامت بحبس وديع القسوس، الذي كان رئيسًا لتحرير المجلة المذكورة بجريرة ذلك المقال، وبعد أيام اعتقل سليمان النابلسي نفسه، وأودع السجن، وأفرج عن وديع القسوس.
9 أشهر في السجن
يروي النابلسي معاناته في السجن، حيث كان يعاني من وجود "حصوة" في المثانة، وعندما شخصه الدكتور مصطفى خليفة، مدير صحة عمان آنذاك، طلب نقله إلى مستشفى السجن، وأجريت له عمليات صعبة ضاعفت من آلامه. وحين نقل النابلسي إلى المستشفى الإيطالي طلب رئيس الحكومة أبو الهدى إخراجه منها، بعد بقائه فيه مدة شهرين، فأًُعيد النابلسي إلى السجن بعد إزالة الحصوة، وحين كان يزوره الوسطاء، بأمر من الملك عبد الله، ليطلبوا منه أن يبعث رسالة تطلب العفو كان النابلسي يرفض ذلك. وهكذا أمضى في السجن تسعة أشهر، جراء كتابته تلك المقالة الناقدة لمعاهدة 1948. هذا، وأغلقت "الميثاق" أثناء حرب 1948، ولوحق رفاق النابلسي، وأودع بعضهم السجن، كما هي حال شفيق ارشيدات.
يكشف النابلسي في الفصل نفسه، أي الفصل الرابع، عن موقفه الرافض لضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية، بعد الاحتلال الإسرائيلي للقسم الأكبر من فلسطين. ويقول في هذا الصدد: "لم يكن الشعب الأردني يطمع لحظة واحدة في أن يضم هذه الأشلاء من فلسطين". يضيف "كنا نريد أن تبقى فلسطين كيانًا قائمًا بذاته، وكنا نرى أنه من الواجب الحفاظ على كيان فلسطين وشخصية فلسطين، ولذلك ساندنا حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي باشا في غزة". وأشار إلى رفاقه من نواب الضفة الشرقية، مثل شفيق ارشيدات، وعبد الحليم النمر، وصالح المعشر، ود. محمد حجازي، الذين رفضوا الضم، ولام نواب الضفة الغربية، مثل عبد الله الريماوي، وعبدالله نعواس، وقدري طوقان، وخلوصي الخيري، وموسى ناصر، وأنور الخطيب، على قبولهم بالضم.
وحين التقى النابلسي بنواب الضفة الغربية في أحد الاجتماعات التنسيقية في القدس، قال لهم: "كنا نريد أن نتقوى بكم (...)، وكان يجب أن تساوموا على الضم، وأن لا تقبلوا بهذه السهولة، وأن تساوموا بحيث يعدل الدستور والقوانين، وأن يحكم البلد حكمًا ديمقراطيًا، وأن تعدل المعاهدة (مع بريطانيا)، وأن تقلم أظافر بقايا سلطات الانتداب المتحكمة في رقاب العباد" (ص 146).
بعد ذلك، يتناول النابلسي انتخابات أول مجلس نواب أردني بعد وحدة الضفتين (يناير/ كانون الثاني 1950)، ويحلل نتائج تلك الانتخابات، لا سيما في الضفة الغربية.
وزيرًا للمرة الثانية
في أواخر عام 1950، شكل سمير الرفاعي حكومته الثالثة، والتي استمرت لنحو ثمانية أشهر (4/12/1950 ــ 25/7/1951). دخل النابلسي تلك الحكومة التي ضمت وزيرين آخرين من جماعته، هما هزاع المجالي، وأنور الخطيب، كما انضم بشارة غصيب إلى تلك الوزارة، بعد إجراء تعديل وزاري.
لا يفسر النابلسي مشاركته والوزراء الثلاثة الآخرين في حكومة الرفاعي، ويكتفي برواية مجموعة من القصص عن الأحداث التي مر فيها خلال مشاركته في حكومة الرفاعي، ومن بينها طائفة من "النوادر" التي سجلها عن الملك عبد الله الأول، والتي تظهر بعض خصاله، من ذلك ثقافته الواسعة، التي كانت تنمي لديه "نزعة استعلائية" على حاشيته من الوزراء والموظفين الكبار، ومنها كرمه وقلة تقديره للمال.
* باحث في التاريخ السياسي والاجتماعي الأردني.
(يتبع)