يمكنُ لقصيدةٍ ما أن تجرّكَ إلى ما يليها ويليها، ويمكنُ لأُخرى أن تطردكَ من أوَّلِ خطوة، شأنُ القصائد التي تفتحُ الأبوابَ لقارئٍ يستطلعُ داخلها الغريب، هي التي عادةً ما تأتي من التجربة الحقيقيّة للشاعر، ممّا يعيشهُ ويراهُ ويتورَّطُ فيه، ناهيكَ عن فنيّة الكتابة، وهندسة النصّ، والبناء الصحيح، وشأنُ القصيدة الطاردة، هي التي تخلو من كلِّ ذلك، لا تجربة ولا مجهودٍ ولا روح.
هذا ما فكَّرتُ به عند انتهائي من أوَّلِ قصيدةٍ في ديوان "فيما تُمعنُ فيكَ الأشياء العاديّة"، والصادر حديثًا عن منشورات المتوسط في العاصمة الإيطاليّة ميلانو، للشاعرة اللبنانيّة أصالة لمع (1989)، والذي لا يجدُ القارئُ فيها أيَّ تمنُّعٍ أو صياغةٍ معقَّدةٍ أو عسرٌ في تقبّل الفكرة والصورة، غيرَ أنَّ هذا لا يتوقف عند البداية فقط، كون أن ما سيليها من قصائد أخرى، ستكون بذات المستوى الفني من حيث البناء الكلي للقصيدة.
في الكتابة عمومًا، تُفلتر التجربة الحياتيّة النص مرارًا، لا تبقيه على حاله ولا تتركه، وهذه الفلترة هي بطبيعة الحال فلترةُ الشاعر لنفسه، تشذيبُ قصيدته وتخفيفها من أثقالٍ زائدة، امتلاكُ أدواته الخاصة في نحت الجملة الشعريّة وصقلها وتلميعها. لا يمكن لشاعرٍ إلا أن يمرّ بهذه الفلترة التي تستخلصه ممّا راكمته البدايات وما أعقبتها من محاولاتٍ مستمرةٍ في خلق النّص الشعريّ، وهنا تظهر تجربة صاحبة "التفاتة نحو نغمةٍ خافتة" (دار أثر 2022)، والتي قدَّمت في ديوانها الثاني موضع المقال، بعد ديوانها الأول، قصائد ذاتَ نسيجٍ متكاملٍ، وهي خلاصة تلك التجربة التي لا شكّ، سيكون لها أثرها فيما سيأتي بعد من نتاجات.
كيف تبدأ القصيدة؟ فكَّرت بهذا السؤال مرارًا، بداية القصيدة هي دائمًا ما تكون الأصعب عند الكتابة، كونها الخطوة الأولى التي ستؤدّي بالنهاية إلى نصٍ ربما يكتمل، وربما لا، هذا السؤال يُثيرني في كلِّ مرةٍ أقرأُ فيها شِعرًا لأحدٍ ما، كيف فكَّر بهذه القصيدة، كيف استطاع كتابة أول جملةٍ فيها، بماذا كان يشعر وماذا كان يتخيّل وفي أيِّ مكانٍ كان يجلس؟ هذه كلها مثيرات القراءة التي تحاولُ أن تستوعب القصيدة بما هي عليه، وتهضمها حدَّ أن تتشبَّع بها وتمتلئ. سألتُ، وكما هي العادة، هذا السؤال عند قراءة الديوان، ولا أريد أن أُحصي فيه عددَ القصائد التي جعلتني أكرِّرُ هذه الأسئلة، لأنَّها قصائد تولّد التفكير بالشعر بعد التلذِّذ، وتولّد الرَّغبة في التأمّل، وإعادة القراءة مرَّةً أخرى. قد لا يعثر القارئ على إجابةٍ حقيقيّة، لكن يكفي أنَّ القصيدة تثير هذه الأسئلة؛ التي يُترك للقارئ إمكانية خلقِ إجاباتٍ لها من باطن النّص، والتأويل كما يشتهي:
"أتركُ الوقت يمرُّ
كأنَّه لا يعنيني
أقبضُ على لحظةٍ
لا أنتظر فيها شيئًا
أتسلّى بتلميعِ وجهِ حكايةٍ غامضة
ما زالت تدور أحداثها في رأسي
أزيل ما علقَ بها من غبار
أراقبُ العالمَ من مكاني
هادئًا
قبل لحظةٍ من تلاشيه
كما تنهارُ صورةٌ ساكنة في نافذةِ قطارٍ مسرع".
الكتابة عن الأشياء العاديّة، ليست كتابةً عن العاديّ فعلًا، بل هي من زاويةِ نظرٍ أخرى، أشياء تتحكَّمُ بنا، تفعل فعلها، وتسجل حضورها، عند الآخرين قد تكون لا معنى لها، لكن عند الشاعر كلّ الأشياء لها أثرها الخاص، وهذا العاديّ هو بكلِّ الأحوال يشغل حيِّزًا فيما نفكر ونرى ونستخدم، إنه جزءٌ لا يتجزَّأُ من الممارسة اليوميّة. تقول لمع في قصيدة "أغنية واحدةٌ للشاعرِ والقاتل":
"اللغةُ التي تصلحُ للحبِّ، تصلح للشتائم.
النظرةُ التي تُحيي، تستطيع أن تقتل.
والذِّراع نفسها، تمتدُّ للعناق، وللطعن في الخاصرة.
الوردةُ التي يتبادلها العشّاق، هي نفسها تُزيّن القبور.
الأغنية التي يحبّها الشاعر،
يسمعها في هذه اللحظة قاتلٌ لم يعرف يومًا ما هو الحبّ.
الصباحُ الذي يغمر العشبُ ببرودة النّدى،
يقضي على البرعم الغضّ قبل أن يصير زهرة...".
لا تكاد القصائد تغادر منطقة الاغتراب الوجودي، ولا تخلو واحدة منها من شعور الوحدة الكونيّة التي يعيشها الفرد في عالمٍ مليء بكلِّ ما يُعزِّز الاغتراب والوحدة، ومع جودة الفن الشعري التي تُجيده الشاعرة، إلّا أنَّني خفت من أن يضيق أفق القصائد بالشكوى وينحاز إلى درجةٍ ما بالرؤية السوداويّة لكلِّ ما نواجهه في الحياة، ومع وجود هذهِ المؤشِّرات التي قد تُحكم أجواء الديوان كلِّه، إلّا أنَّني حذرٌ في إطلاق الحكم، كون أنّ القصيدة عندما تُكتَبْ، تكون محكومةً بلحظتها، وتلك اللحظة؛ طبيعتها وأجوائها وما يعيشه شاعرها؛ هي ما تحدّد أفق القصيدة وما تفرضه عليها من أفكارٍ وصور:
"ويا حياة، كنتُ أودُّ لو أعبركِ بشكلٍ أخفّ
كما يعبرُ مثلًا فوق الشاعر ظلُّ هذه الغيمة التي يجرّها الهواء بسرعة
لكنَّني وجدتُ نفسي أعبركِ ثقيلةً كالظنون أو كانتظارٍ طويل
وكنتُ أودُّ أن أبقى غريبةً في فوضاكِ
فالغربة ثبات
مسافةٌ آمنة
صاعقٌ مغلَّفٌ جيِّدًا
لكنَّي وجدتُ هذا الشعور بالألفة يسحبُ الأرض من تحتي".
العديد من قصائد الديوان تجاوزت الصفحتين وأكثر، قصائد طوال، تفصح عن نفسٍ طويلٍ لدى الشاعرة، عن رؤيةٍ واسعةٍ ومتشعبةٍ لكلِّ ما يدور حولها، وما يعتمل في داخلها. وهذه القدرة على الكتابة حدَّ أن تطول القصيدةِ وتتشعَّبُ وتتفرَّعُ يُحسب لها، كونها تفتحُ في هذه القصائد عينًا ثالثة على العالم، لا تكاد تغادرها أدقّ التفاصيل، بِدءًا من أبسط ما نلاحظه وحتّى ما يكاد يكون غائبًا أو خارج الإدراك، كما هي حال قصيدة "كلُّ الأشياءِ تُعذّبني":
"كلُّ الأشياء تُعذِّبُني،
هذا الهواءُ يُعذِّبني
الصوت في الغرفة المجاورة يعذِّبني
الورود الذابلة في المزهرية والتي لم يرمها أحدٌ
تعذبني
نقط الماء تسقط في المغسلة تعذبني
الجدران، النافذة والمرآة، تعذبني...".
وهكذا تسترسل على مدار تسع صفحاتٍ من التنقل بين "الأشياء" التي تعذّب، التي لها علاقة بالحياة وبكلِّ ما يحيط بالمكان والذكرى والتاريخ، حيث تكرَّرت كلمة "تعذِّبني" لمراتٍ كثيرة، وهذا التكرار ربما فرض نفسه داخل القصيدة، بحكم طولها وتعدّد الأشياء فيها، لكنَّه مع استمرار القراءة يدرج اللسان على هذا التكرار الذي يصبح عاديًا مع تعداد الأشياء التي تعذِّب، والذي من شأنه أن يُفوِّت لذَّة النص، تفاصيله الخفيّة:
"المرأة الواقفةُ في الباص
وجهها الحيادي، يعذِّبني.
الرجل على الطاولة المقابلة وهو يحدِّق بي، يعذِّبني
العجوز يأخذ كلبه في نزهةٍ
الطفلُ يبكي في عربتهِ
والأمّ المتجهِّمة
تُعذبني...".
وبما أنَّ الشاعرة هي أم، فهنا تظهر المقاومة التي بدت خفيَّةً طيلة القصائد السابقة، وهذا هو الجانب المضاء، فهنا حضور تماسك الأم، قلقها، حنوها، وتمسّكها بالأمل، وهو ما تفرضه عليها الأمومة:
"لو لم أكن أمًّا، ربما حضنتك أيها اليأس، وأنت تفتحُ ذراعيكَ لي هكذا.
لو لم أكن أمًّا، ربما أفلتُ أصابع هذا الأمل المشتبكة بالكاد بأصابعي، كأنه غريقٌ في ذاتي، الذي يبحث عن السطح".
وتسترسل حتى النهاية التي تكاد تكون سعيدة:
"لكنَّني أم، أقفُ هنا كصخرةٍ ثابتة، لا يحق لي أن أميل، أو أيأس أو أختبئ، وأرتجف كورقة، خوفًا من الحياة ومن الموت، ومن الهواء إن مرّ بين قلبي وقلبي، لكنَّني أم، فتشبَّث بأصابعي أيها الأمل".
ختامًا، لأصالة صوتها الخاص في الكتابة، لغتها وتفكيرها وتفاصيلها التي تمعنُ فيها، وهو ما يجعلها، في هذا الديوان، متفرِّدة.
*شاعر من العراق.