}
عروض

"كتابة خلف الخطوط: يوميّات الحرب على غزّة"

يوسف الشايب

12 فبراير 2024


"خالد وصل لتوّه من بيت حانون، تنقل بين مراكز الإيواء في طريقه إلى رفح، يروي كيف تطوّع مع رفاقه لدفن الجثث التي انتفخت وتفسّخت في الطرقات... يقول: لم نكن نملك إلا أصابعنا، ننبش وسط الركام... طفل لم يظهر من جسده الغض سوى ذراعه، ما زالت سترته الحمراء كما هي، حاولنا شدّ ذراعه ليخرج، حين ظننا أن الرمل فقط يغطي جسده، فخرجت ذراعه مبتورة. رجل تظهر ساقاه من تحت سقفه الإسمنتي السميك، أخفيناها بالرمل كي لا تنهشها الكلاب... بكى خالد، وأمسك بسترتي، هزّني كي أقترب منه أكثر، ومن وسط نحيبه المكلوم، قال: لم يكونوا أمواتًا، أقسم أنني سمعت عويل الطفل حين انفصلت ذراعه عن جسده، وذلك الرجل شكرني حين سترتُ قدميه... أقسم لكِ".
هكذا اختتمت الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرّة شهادتها التي حملت عنوان "رسائل إلى لمار من الطابق الرابع في مستشفى القدس"، وهي واحدة من بين خمس وعشرين شهادة لكتّاب وفنّانين ونشطاء ثقافيّين من غزة، اشتمل عليها الكتاب الصادر حديثًا عن وزارة الثقافة الفلسطينية بعنوان "كتابة خلف الخطوط: يوميات الحرب على غزة".
وتحت عنوان "حمار العودة"، جاء في شهادة القاص والروائي د. سعيد الكحلوت: شَحّ وقود السيارات، وصار الحصول على لتر منه إنجازًا يستحق التهنئة، واستبدل أصحاب السيّارات القديمة الوقود بزيت الطهي، الأمر الذي تضاعف معه سعر الزيت لضعفين أو ثلاثة... السيارات القديمة يمكن "لمواتيرها أن تتحمل هذا الهبل"، أما السيارات الحديثة فحوّلها أصحابها النازحون لغرف بدل الخيمة "أحسن ما تظل واقفة ع الفاضي" (...) منذ يومين تمزّقت جزمتي الوحيدة، وكان الوقت متأخرًا بتوقيت الحرب، ولم أكن أحمل في جيبي نقودًا تكفي لشراء جزمة بديلة، والسيارات العائدة كلها ممتلئة بالركّاب، والليل يزحف... اضطررتُ لركوب عربة يجرها حمار، لعلني أتمكن من العودة إلى مكان نزوحي قبل اجتياح الظلام.
كان الكحلوت، الذي لم يركب حمارًا منذ طفولته، يشعر بالخجل، خشية أن يراه أحد طلابه، أو معارفه، قبل أن يعلم أن السائق الذي بجانبه طبيب نازح... "شعرتُ بالراحة وتنفست هواءً كثيرًا، وجدته حولي بفعل سرعة العربة التي يجرّها حمار عودتنا، ثم أخذت أحرّك ساقي المتدليتين لأتحرر من مشاعر الخجل التي قيّدت حركة أطرافي".
في طريقه الطويلة، كان الطبيب سائق العربة التي تُعرَف في غزة باسم "الكارلو" يرفض عروضًا ببيع الحمار بمبلغ وصل إلى ثمانية آلاف شيكل، أي أكثر من ألفي دولار أميركي، في حين أن العربة يصل ثمنها إلى المبلغ ذاته أيضًا، ليقول وهو يركب وسيلة مواصلات بات ثمنها يزيد عن أربعة آلاف دولار، بسخرية تغلفها الكثير من المرارة، كما تحمل عديد التأويلات: "ما أغلى حميرك يا غزة"!!
ويخاطب المسرحي علي أبو ياسين في شهادته المعنونة بـ"نصوص من الحرب" القارئ بشكل مباشر، ليخبره أنه في الحرب "سوف تسقط كل التفاهات"، فلم يعد أحد يجرؤ على أن يضع صورة واحدة على "الفيسبوك" بينما الجميع يركضون خلف الطحين، أما "التيك توك" فقد اختفى، لافتًا إلى أنه في غزة اختفت النميمة، والحسد، والانشغال بالآخرين، وكانت إحدى متع الكثير من الناس، فالكل يجري من الصبح إلى المساء ليوفر لعائلته طعام يومهم، كما سقطت المجاملات والادعاءات وحالة النفاق، قبل أن يتحدث عن الارتفاع الهائل في الأسعار حيث "كيلو القهوة بسبعين دولارًا، إن وجدت، والشوكولاته اختفت من الأسواق، ولم يتبق في المحال إلا بعض مسحوقات التنظيف"، ليكتشف أنه وعائلته، كما جلّ العائلات، إن لم يكن جميعها، نسيت كلمة "بأحبوش"، "فلو قدر لك وتوفر بعض المال لتطبخ طنجرة زهرة"، أو "قمبوطة"، سوف يلتهمها الجميع، علمًا أن تلك الأكلة كانت تكلف 50 شيكلًا (14 دولارًا أميركيًا)، واليوم تكلف 150 شيكلًا (42 دولارًا أميركيًا)، أما بالنسبة للمقلوبة والمسخن فلا أحد يجرؤ على تذكرها.




وبعنوان "عطشى"، كتبت ليان أسامة أبو القمصان شهادة مؤثرة بأسلوب أدبي رفيع، وهي الأصغر من بين المشاركين في الكتاب، فالطالبة في الثانوية العامة (التوجيهي)، الذي لا تعرف متى وأين وكيف ستكمله، من مواليد عام 2006.
"(...) انتهي بسرعة كي لا يخرجوكِ من تحت الردم عارية... قذفتْ المنشفة في وجهي بملامح غاضبة، وألقتْ كلماتها الساخرة مغلقة الباب بيني وبينها... تجاهلتُ حديثها، واستدرت... الحمّام هنا صغير ككابينة هاتف في شارع عمومي تتسع لشخص واحد فقط. التفتُ، لا شيء أمامي سوى الصنبور الذي كان مجرّد رافعة تدور يمينًا ويسارًا، موصولة بأنبوب طويل أعوج يصل إلى ركبتي. في يدي قطعة صابون ذائبة، توارثها الناس في غسولهم على مدار شهر، انتهت من أبدانهم جميعًا إليّ. أدير الرافعة، فينهمر الماء، أتحسسه فأجده باردًا كالصقيع، أغسل وجهي أولًا، وتتسرب بعض القطرات إلى فمي ومنها إلى لساني، لأتذوق مرارة كل قطرة منها علقمًا. هدير الطائرة عالٍ، لا أدري بسبب الهدوء حولي، أو بسبب الحمّام، لكني لم أهتم، هناك ماء، وهناك قطعة صابون، سأنظف نفسي أخيرًا. أضع رأسي تحت الماء، أشطف شعري الذي نسيت شكله وهيئته، ينساب الماء من الأنبوب، ومنه إلى شعري، ومن شعري إلى الأرض، والماء كما شعري وحظي، سواد في سواد في سواد... لم أكن أدري أن القذارة قد بلغت مبلغها إلى هذا الحد، فأنا لم أجرّب الامتناع عن الاغتسال لشهر سوى هذه المرة".
وحكاية أبو القمصان لا تنتهي عن هذا الحد، فتواصل السرد: "تصفو المياه بعد وقت وجهد عظيمين، أتنفس بتعب، وأمسك برقبتي المتشنجة من وضعية الغسيل وبرودة الجو والمياه... أنظر إلى ذراعي المسكينة، برزت منها عروق لم أكن أعرف أنني أمتلكها، أتحسر على يديّ وأظافري، وأتذكر غسيل الثياب خلال الشهر الماضي، وكم هي عملية مرهقة للظهر والبدن... المياه التي من المفترض أن نغتسل فيها نغسل بها ثيابنا، لنرتدي ثيابًا نظيفة على بدن قذر. الهدير من فوقي يعلو، ما زلتُ عالقة في يدي، يوقظني صوتُها الصارخ من خلف الباب بالاستعجال، أعود وأعصر الماء من شعري، أقف شاعرة بالخدر في قدميّ، أسمع أفظع صوت قد أسمعه في حياتي، شيء ما قد انفجر. يسكن الكون كما لم يفعل منذ شهر، أغمض عينيّ، ثم بتردد أفتحهما، المكان ليس المكان نفسه، باب الحمّام طار مع شرخ كبير في الجدار، أنظر من خلاله، نيران فقط. أجد أنني جلست بدل وقوفي، وشعري الذي غسلته حتى شارفت على الموت عاد ليتسخ مجددًا، ويدي التي تحسّرت عليها طوال استحمامي إلى جوار قطعة حديدية مشتعلة تتبخر المياه عندما تقطر عليها، ومن مفصلي تقطر الدماء".
وشارك عاطف أبو سيف، الروائي ووزير الثقافة الفلسطينية، بشهادة افتتاحية حملت عنوان "أكثر من مقدمة"، يسرد من خلالها شيئًا من حكايته: "وصلتُ قبل الحرب بيومين، كانت تلك زيارة روتينية أقوم بها للمكان الذي ولدتُ فيه وعشتُ فيه جلّ حياتي... تعلمتُ في مدارس المخيم في المرحلة الابتدائية والإعدادية، ومن ثم في مدرسة يافا في حيّ التفاح في مدينة غزة، وعملتُ في المدينة في أكثر من مكان. قرأتُ وتعلمتُ الكتابة وأنا أسير في شوارع مخيماتها وأحيائها القديمة. كانت تلك زيارة عائلية أقوم بها يوم الخميس، وأعود يوم الأحد، وكان يوم السابع من أكتوبر هو يوم التراث الوطني الذي نحتفل فيه بتراثنا الفلسطيني وعناصره المختلفة في أماكن تواجد شعبنا كافة، وضمن السعي لتسليط الضوء على ما تتميّز به غزة من تراث مادي وغير مادي، فقد تقرر أن يتم إطلاق يوم التراث الوطني من متحف القرارة شرق خان يونس جنوب القطاع، وكنّا قد أطلقنا لأول مرة فعاليات يوم الثقافة الوطنية من مدرسة الكمالية التاريخية في حرب الزيتون عام 2021، وكلاهما طاوله قصف العدو خلال الحرب: متحف القرارة ومدرسة الكمالية... وفيما كنتُ أتجهز مع زملائي في مدينة غزة للتحرك نحو الجنوب، كانت الحرب تأكل الهدوء في غزة، وللمفارقة فإن ما جرى لن يكون يوم تصعيد آخر، أو مجرد حرب أخرى".
يمكن اعتبار "الكتابة خلف الخطوط" بمثابة كتاب توثيق في غاية الأهمية حول "يوميات الحرب على غزة"، علاوة على القيمة الأدبية والإبداعية التي يحويها.
يضم الكتاب شهادات لكتّاب وفنّانين، هم: الشاعرة فاتنة الغرّة، والشاعرة هند جودة، والممثل والمخرج علي أبو ياسين، والقاصة وكاتبة أدب الأطفال جيهان أبو لاشين، والناشطة الثقافية آلاء عبيد، والروائي والمخرج المسرحي والسينمائي مصطفى النبيه، والروائية ديانا الشناوي، والشاعرة نعمة حسن، والشاعر يوسف القدرة، ومخرجة الأفلام الوثائقية ريما محمود، والشاعر والناقد طلعت قديح، والكاتب والروائي سعيد أبو غزة، والشاعر ناصر رباح، والروائية إيمان الناطور، والكاتب والباحث ناهض زقوت، والكاتبة المتخصصة في أدب الفتيان سماهر الخزندار، والروائي والأكاديمي حسن القطراوي، والروائي كمال صبح، والكاتب محمود عساف، والقاص والروائي سعيد الكحلوت، والصحافية ميسون كحيل، والشاعرة مريم قوش، والفنان التشكيلي ميسرة بارود، بالإضافة إلى شهادة ومقدمة للروائي عاطف أبو سيف، وزير الثقافة الفلسطيني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.