}
عروض

"آرثر وجورج": جوليان بارنز يُعيد كتابة "إني أتهم"

عارف حمزة

14 فبراير 2024


في وقت صدور رواية "آرثر وجورج" للكاتب البريطاني المعروف جوليان بارنز، بلغتها الأصلية، في عام 2005، حققت حضورًا قويًا ولافتًا لصاحب رواية "ببغاء فلوبير"؛ فبالإضافة إلى ترجمتها مباشرة إلى عدد من اللغات، ترشّحت الرواية لجائزة مان بوكر في ذلك العام، وتمّ تحويلها إلى عمل مسرحيّ، وكذلك إلى مسلسل تلفزيونيّ بعنوان "فظائع غريت ويرلي". وها هي تصدر الآن (2023) بالعربية عن دار روايات، بترجمة الكاتبة والمترجمة الأردنيّة/ الفلسطينيّة نداء فاروق غانم.

مصائر من الماضي
من عنوان الرواية، فإن القارئ يُخمّن بأنها تدور حول شخصيّتين رئيسيّتين هما آرثر وجورج. وجوليان بارنز قسّم روايته إلى أربعة أجزاء بدأها بعنوان "بدايتان". في هذا الجزء، يعنون كل فصل باسم آرثر، أو جورج. وكل فصل هو عبارة عن صفحة واحدة، أو صفحتين على أكثر تقدير. يبدأ بارنز من طفولة الشخصيتين. آرثر كصبي صغير في غرفة مسدلة الستائر يتوسطها سرير عليه جثة جدته المتوفاة. بينما جورج لا يحتفظ بذاكرة أولى، ويبدو طفلًا وحيدًا. ولادة أخ له "لم يُشكل حتى تهديدًا للطرد من جنة الوحدة".
هذه الافتتاحية ذكية من بارنز. فالطفل الأول، آرثر، ستبقى الجثث تخرج في طريقه وفي رأسه، حتى يصبح مؤلفًا شهيراَ للروايات البوليسيّة يحمل اسم آرثر كونان دويل (1859 ـ 1930)، الذي اخترع شخصيّة التحرّي الشهير شرلوك هولمز. بينما الطفل الآخر سيبقى يُعاني من الوحدة، وسيموت من دون زوجة أو أولاد، وسيصبح محاميًا ومتهمًا في قضية تشويه المواشي في بلدة صغيرة تدعى "غريت ويرلي". هذا الشخص سيعيش، حتى بعد أن أصبح محاميًا، في غرفة واحدة مع أبيه الكاهن، الذي تعود أصوله للهند وللطائفة البارسيّة، وسينامان في السرير نفسه. أخوه الأصغر لديه غرفته الخاصة، بينما والدته تنام في سرير واحد مع أخته الصغيرة. هذا الطفل سيصبح جورج آيدالجي (1876 ـ 1953).

هندسة الشخصيّات
ستتابع الرواية تدفقها مع تقدم الشخصيتين في السن، من المدرسة وحتى الجامعة، ولا يعرف القارئ ما الذي يربط بينهما حتى الصفحة 274، أي بعد مضي أكثر من نصف الرواية، التي تجري أحداثها في 474 صفحة.
كان آرثر قد أصبح مؤلفًا مشهورًا، ليس في بريطانيا فحسب، بل في كل أنحاء العالم، وكذلك رياضيًا وصحافيًا وحائزًا على عدد من الأوسمة، وزوجًا لامرأة ستعاني من السل عشر سنوات قبل أن ترحل تاركة له ولدين. أما جورج فقد قضى ثلاث سنوات من الأشغال الشاقة في السجن، من أصل سبع سنوات. وفي محاولة للحصول على براءته، أرسل ملفه إلى آرثر. وبعد أن حصل على فرصة للقائه، شرح ظروف قضيته، وطلب منه النصائح، كما طلب من هولمز. ولكن آرثر يُفاجئ جورج؛ فيتبنى قضيّته حتى إثبات براءته، وإلغاء حكم المحلفين. هيئة المحلفين كانت محكمة جزاء أولى وأخيرة في الوقت نفسه، فلم تكن محاكم الاستئناف، أو النقض، أُسست حتى ذلك الوقت.
جوليان بارنز، الذي وصلت رواياته ثلاث مرات إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، ونالها عن روايته "الإحساس بالنهاية"، يبرع في تقديم الشخصيتين، وكذلك الشخصيات المرافقة الأخرى، كعشيقة آرثر، وعائلته، وعائلة جورج، وزملائهما في المدرسة، وحتى رجال الشرطة، وقائد الشرطة، ببناء خارجيّ لها، ونفسيّ، لدرجة يستطيع القارئ أن يُميّزها حتى من نبرة صوتها، أو من روائحها.




تبني آرثر لقضيّة جورج كان بكل الوسائل الضاغطة للحصول على براءته. فهو اطلع على ملف القضية، وذهب لمقابلة الشهود، وتتبّع آثار مَن يُمكن له أن يكون قد ورّط جورج في هذه الجرائم، ونفذ بجلده، وكتب المقالات في الصحف، ودفع من جيبه الأموال لقاء الرحلات تلك. وأخيرًا، تُشكل لجنة من وزارة الداخلية، ولكنها لم تعلن براءة جورج من التهم، بل طلبت له العفو العام، ورفضت إعطاءه تعويضًا ماليًا عن سنوات الأشغال الشاقة الثلاث. فبدا الأمر وكأن جورج هو شخص مذنب وبريء في الوقت نفسه! وهو ما لا يمكن استيعابه من آرثر؛ فالشخص إما أن يكون بريئًا، أو مذنبًا. "اعتبارًا من اليوم لدينا مفهوم جديد في القانون الإنكليزي: مذنب وبريء (في الوقت ذاته). جورج آيدالجي رائد في هذا المجال. الرجل الوحيد الذي حصل على عفو عام عن جريمة لم يرتكبها أبدًا، ويتم إبلاغه في الوقت نفسه أنه من الصواب تمامًا قضاءه ثلاث سنوات من الأشغال الشاقة"!!

قضية دريفوس
يعتقد آرثر بأن الجميع كانوا ضد جورج بسبب التحيّز العرقي، بسبب أنه هجين من أب من أصول هندية، وأم إيرلندية، رغم أن جورج كان ينفي أن يكون ذلك هو السبب في إلباسه التهم، وتحويله إلى مذنب. ولكن قائد الشرطة، الذي التقاه آرثر يرى أن المجتمع البشري في كل مكان يمقت الشخص الهجين "لأن روحه ممزقة بين الدافع للحضارة والجاذبية للبربرية".

يشبه ما تعرض له جورج آيدالجي ما حدث في قضية النقيب الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، الذي اتهم في عام 1894 بتهمة إرسال ملفات سريّة فرنسيّة إلى ألمانيا. ورغم اكتشاف الجيش الخائن الحقيقي في ذلك الملف، إلا أنه تم رفض إعادة النظر في الحكم الذي صدر على دريفوس. وفي عام 1898، نشر الكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا (1840 ـ 1902) مقالته الشهيرة "إني أتهم"، ضمن الأحداث والاشتباكات التي امتدت إلى أكثر من 20 مدينة فرنسية بسبب مؤيدي ومعارضي دريفوس.
من خلال ذلك، يبدو الأمر وكأن هذه الرواية رواية تاريخيّة، بل تسجيليّة، لأحداث وشخصيات حقيقيّة مأخوذة من ملفات الشرطة والسجل المدني، ولكن بارنز حوَّل الرواية، في نسبة كبيرة منها، إلى رواية تشويقيّة مبنيّة على المطاردات والملاحقات والحوارات وتبديل السرد حول شخصية إلى أخرى، منطلقًا بهدوء من ماضي الشخصيات وحتى وفاتها. ليكتشف القارئ جوانب عديدة، ليس فقط في حياة الكاتب الشهير دويل، وكأن بارنز يكتب سيرته الشخصية، بل حتى عن تفاصيل الطبقات في المجتمع والحوارات والرياضات التي كانت في ذلك الماضي. ينقل بارنز تفاصيل حياتية تبدو سرية في جوانب كثيرة منها، وكذلك أوضحت للقارئ بأن قضية جورج آيدالجي لم تكن القضية الوحيدة التي أوقعت دويل في صراعات مع رجال الشرطة والقضاء والقانون الإنكليزي. مثل أوسكار سلاتر التي "استغرقت قضيته سنوات وسنوات من حياة السير آرثر. وُجّهت تهمة القتل الخطأ للرجل وكاد يُعدم، وأدى تدخل السير آرثر إلى نجاته من المشنقة، وفي النهاية أطلق سراحه".

عودة شرلوك هولمز
من النظرة الأولى سيعتقد القارئ بأن جوليان بارنز (الذي ولد في عام 1946) سيقدم الشخصيات الأخرى المختلفة لدويل خلال هذه الرواية، بينما سيبقى جورج ضمن شخصيته الهادئة والوحيدة، وربما ذلك يعود أصلًا إلى شهرة دويل، وكثرة مؤلفاته، وإلى أن شخصية جورج تبقى شخصية عادية قريبة إلى العامة. ولكن بارنز قدم جورج بشكل يبدو وكأنه ند لدويل في تفاصيل الحياة، رغم اختلاف الحياتين جذريًا. بمعنى أن بارنز كان ساردًا وروائيًا وبانيًا لشخصيتين، إحداهما معروفة والأخرى مغمورة، بشكل تسجيلي، وآخر تأليفيّ، إذ بدا بانيًا لشخصيّة جورج المجهولة من الصفر، بينما قام بتفكيك مفاصل شخصية آرثر الشهيرة، وهي نقطة تُحسب لبارنز في تقنياته السردية. فآرثر دويل معروف ككاتب وصحفي، بينما في هذه الرواية يتعرف الناس على دويل الكاتب، دويل المسرحي، دويل المسافر، دويل الملاكم، دويل لاعب الكريكيت... "لكن أعظم دويل بين هؤلاء كان دويل الذي طالب بالعدالة حين زُجّ الأبرياء في أتون المعاناة. وبنفوذه أُقرّ قانون الاستئناف الجنائي. هذا هو دويل الذي انتصر انتصارًا كبيرًا في قضيتي آيدالجي وسلاتر".
ما يُحسب لجوليان بارنز، أيضًا، هو استخدامه لشخصيّة آرثر دويل، بعد مضي أكثر من نصف الرواية، كتحرّ يذهب لحل الألغاز وتجميع الأدلة وملاحقة الشهود، والذين من الممكن أن يكونوا تورطوا في القضية، وكأنه هو نفسه قد تحوّل إلى بطله شرلوك هولمز. بمعنى أنه استخدم تقنيات دويل عندما كان يُحرّك بطله هولمز في حل لغز جريمة ما في رواية بوليسية ما.
وكذلك فهمه لدواخل الشخصيات، ودرجة تفكيرها وحواراتها، وتقديم وجبة تاريخيّة ونفسيّة ليس فقط عن طبقات المجتمع الإنكليزي في ذلك الوقت، بل كذلك عن الروحانيات والطوائف الدينيّة والنظرة إليها، في رواية تاريخيّة تسجيليّة، لكنها مثيرة ومشوّقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.